تفجيرات أفغانستان... شطط فكري ومخطط أمني

تصاعد جرائم داعش في أفغانستان، وفق الإيقاع الوحشي الذي اشتهر به، يعيد طرح السؤال الذي طالما أرّق الهيئات العلمائية ومجاميعها.

  • سبق للخطاب الديني الموجّه سياسياً أن قدّم تحرير أفغانستان على فلسطين.
    سبق للخطاب الديني الموجّه سياسياً أن قدّم تحرير أفغانستان على فلسطين.

مجدداً تتناثر دماء المصلين وأطفال المدارس بفعل الجريمة الموجّهة بنزعة التكفير، وبفعل خطط أمنية تعصف بعالمنا المثخن بالهيمنة الغربية، طمعاً بمقدراتنا وحقداً على سابق عزتنا واجهاضاً لعوامل نهضتنا، في مشهد تراجيدي يبعث على الأسى، فما يكاد جرح هنا يلتئم، حتى ينبعث فتق هناك، دونما بصيص أمل في نهاية النفق.

وفيما كان العبري العابر عبر المحيط، وقد حطّ شراعه في القدس، يحذر من تصعيد قادم في رمضان، تمهيداً لخطوة أولى نحو ابتلاع المسجد الأقصى، في تقسيم زماني ومكاني بين المستوطنين والمسلمين، كان رمضان أفغانستان مناسبة دينية لسلسلة دموية جديدة يدشّن داعش عبرها محطة من تجسيد ذاته، في تفجير مساجدها التاريخية، كخلاصة مكثفة للشق الأسود في تراث أمتنا الملتبس بالدين ظلماً وكذباً، في تعارض حادّ مع تراث الإسلام الحضاري المنفتح على التسامح والعزة والعلم.

لم يكن وليد صدفة تدنيس الأقصى عبرياً، وتفجير مساجد المصلين الصوفية والشيعة ومدارسهم في مزار الشريف وقندوز وكابول؛ فالمسجد عنوان ديني تتكثف رمزيته الدينية في رمضان، سواء كان في فلسطين أم أفغانستان، وسبق للخطاب الديني الموجّه سياسياً أن قدّم تحرير أفغانستان على فلسطين، يوم احتلها السوفيات، باعتبارهم شيوعيين ملحدين، لتتواطأ عليها الصليبية الأميركية، بعد أن وظّفت الخطاب الديني الوهّابي في تحشيد المسلمين ضد السوفيات، لتقطف ثمرة جهودها الاستخبارية باحتلال أفغانستان لعقدين من الزمن، بعد هجمات أيلول في أميركا، ثم تلجأ إلى الرحيل على ما تلبّسه من ذل، وإن عقب ترشيد حركة طالبان عبر البوابة القطرية، لتؤمّن هذا الخروج.

سبقت الخروج الأميركي من أفغانستان موجة كبيرة من ترحيل نواة الدواعش في سوريا إلى أفغانستان، عقب هزيمتها في دير الزور والرقة والبوكمال، وهو ترحيل عزّز ما سبق أن أثير عن مستوى الاختراق الأمني والتوجيه الاستخباري الأميركي لظاهرة الدعشنة برمّتها، على ما هو ثابت عن أصل طبيعة تكوّنها، باعتبارها رؤية تراثية إسلامية بين قوسين، في تجسيد كامل للرؤية "التيمية" الوهابية، على تباعدهما الزماني والمكاني، بين القرن الثامن والقرن الثاني عشر الهجريين، وهو انعكاس لعقيدة سلفية ترى الدين وقد بدأ بأحمد بن حنبل، وتجدد بابن تيمية، وأرسى محمد بن عبد الوهاب قواعده الواقعية في شبه الجزيرة العربية.

جاءت هذه التفجيرات الدموية، وهي ليست الأولى، بل سبقتها موجة مشابهة خلال الأسابيع الأولى من الخروج الأميركي من أفغانستان، قبل ستة أشهر، لتطال مكوّناً مذهبياً شديد الحساسية، في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد. فهذا المكوّن المذهبي متداخل مع دولة قوية تقف على حدود أفغانستان؛ فإيران تستضيف ملايين الأفغان منذ عقود، من جهة، ومن جهة أخرى تحتل المركز الأول في الاستهداف الأميركي، وتلتبس علاقتها مع طالبان بين مدّ وجزر. ففي الوقت الذي ساءت فيه تلك العلاقة قبل أكثر من عقدين عندما قتلت طالبان عدداً من الدبلوماسيين الإيرانيين في مزار الشريف، عادت تلك العلاقة لتتحسن تحت وطأة الضرورة، نظراً إلى تداخل الملفات المشتركة بين الطرفين، سواء في معاداة الأميركي المحتل، أم في دفع شرّ تجارة المخدرات، ومخاطره الكبيرة على إيران عبر شريط حدودي ممتد مع أفغانستان.

واستهداف داعش للصوفية كما الشيعة، امتياز قديم جديد، وهو تعبير عقدي عميق، له تأصيلات تاريخية، في نسيج فكري ينظر إلى المدرسة الشيعية وفق فتاوى ابن تيمية، باعتباره شيخ الإسلام، الذي حرّض على إبادة العلوية في كسروان، ورمى الصوفية بكل أنواع البدع المؤدية إلى الكفر، وهو منهج تمتد جذوره إلى القمع الأموي، وإقحامه السياسة ومتطلبات السلطة في إخضاع القوى الإسلامية النافذة، وهو ما ظهر جلياً في مجازر كربلاء بحق آل البيت النبوي، ودير الجماجم بحق القرّاء، وفي واقعة الحرّة بحق ذرية الأنصار في أزقة المدينة المنورة.

والمتتبع لدموية داعش في إدارته للتوحش عبر عقد مضى، يجد تقصّده استهداف مساجد المخالفين لنزعته التكفيرية، تخصّصاً يعكس طبيعة رؤيته ومستوى حديّة هذه الرؤية، بما سبق للباحثين أن أشبعوه دراسة. 

 تفجيرات أفغانستان الراهنة سبقها تفجير مشابه منذ شهر ونيّف في باكستان، وموجة أخرى قبل أشهر، عقب سيطرة طالبان مباشرة، وكلها عمليات تنطلق من الخلفية الفكرية التي يحملها وتصبّ في خدمة المشروع الأميركي، على ما يظهر من تناقض سطحيّ بين المزاعم الأميركية والجرائم الداعشية؛ فالأميركي يطرح نفسه كعدو لداعش، فيما تبيّن مراراً وهج الخيط الأبيض من الخيط الأسود عند كل فجر، وليس أدل على ذلك ما تكشّف من جهد أميركي في خلق بيئة خصبة لتطوير قدرات داعش قبيل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ليظل خنجراً في خاصرة طالبان، وتحدياً أمنياً وبديلاً فكرياً لسلطتها الوحيدة في الحكم، ويبقى إجرامه مبرراً دائماً لاستعادة أميركا تدخلاتها، باعتبار العجز المحلي عن لجمه.

ثمة بون واسع بين طالبان وداعش، على المستوى العقدي والفقهي، حيث تنبع جذور طالبان من فضاء المذهب الحنفي، وهو فضاء يحتمل الخلاف، حتى في أقل حلقاته، وإن بدت طالبان كحركة أصولية متطرفة، في العقد السابق، وما زالت ذيول ذلك قائمة، فإن مردّه إلى التداخل مع تنظيم القاعدة وخلفيته السياسية الحادة، وهي خلفية نبعت من نزعة المصري المؤسّس أيمن الظواهري في جهاده ضد ما اعتبره جاهلية معاصرة، وهو ما شاركه فيه السعودي أسامة بن لادن في منبعه الوهابي، وجاء تحالف طالبان مع القاعدة، وهي بالأساس حركة طلاب المدارس الدينية، ليعطي انطباعاً خاطئاً عن طبيعة العقيدة الدينية لطالبان، وهي في الحقيقة طبيعة دينية تقليدية، اقتحمت عالم السياسة عبر البوابة الباكستانية، لتضع حداً لحرب (المجاهدين) على التركة السوفياتية في أفغانستان، ثم لاحقاً في مواجهتها للمحتل الأميركي، عندما نجحت في احتواء الغضب الشعبي ضد الصراعات الداخلية، وضد التدخل الأميركي.

وينظر داعش إلى طالبان، بشقَّيْها الأفغاني والباكستاني، كمرتكبة لنواقض الإيمان الذي منه تَولِّي الكفار والمرتدين، بما يوصل "للشرك الأكبر"، كونها "تتحاكم إلى الطاغوت بدل التحاكم إلى الله"، وتحدث منظِّروا داعش، كحافظ سعيد خان وعبد الرحيم دوست، عمّا سمّوه "ضلالات حركة طالبان"، وهو ما ظهر بالتفصيل في مقال مطوّل بتوقيع "أبو ميسرة الشامي"، وبعنوان "فاضحة الشام وكسر الأصنام"، قال فيه إن "أكثر أمراء طالبان لهم علاقات مع طوائف التجسّس المرتدة في باكستان، وكثير من جنودهم على شرك أكبر مُخرِج من الملة بدعاء الأموات والاستشفاع بهم والنذر لهم والذبح لهم والسجود لقبورهم، وكثير من طوائفهم يحكمون بالأعراف القبلية دون الأحكام الشرعية في مناطق يدّعون فيها التمكين، ثم دينهم "الملّا"، فما أوجبه من الحرام أوجبوه وما حرّمه من الحلال حرّموه، لا يعرفون القرآن والسنن إلا للتبرُّك"، واعتبر أن الخلاف بينهم وبين طالبان في الأصول، وأنه لا تعارض بين قتال الصليبيين وقتال طالبان.

واللافت للنظر أن طالبان نجحت في احتواء شتى التحديات الأمنية، حتى في مواجهة تجمعات عرقية ومذهبية كبيرة، كالهزارة الشيعة، على سبيل المثال، وهم يمثلون قرابة 20% من سكان أفغانستان، وطالما ائتلفوا في مجاميع حزبية منظمة ومسلحة، وعبر الحدود الممتدة تربطهم علاقة وثيقة مع إيران، وقد نجحت طالبان في استيعابهم وطمأنتهم، وحتى في مشاركة بعض قادة طالبان في احتفالاتهم المذهبية الخاصة، كيوم عاشوراء، رغم الانطباع السائد عن سلبية طالبان تجاه احتفالات كهذه، وهو الأمر ذاته في بنية طالبان الفكرية إزاء الصوفية، باعتبار ما تشتهر به ممّا تعتبره طالبان من قبيل البدع في الدين، والصوفية حركة عريقة وإن لم تكن منظمة أو مسلحة، ولكنها طيف ديني شعبوي واسع عابر للحدود والمذاهب والتيارات، وهي تتشارك في مراسم دينية عمدتها إحياء الوعظ الديني عبر الذكر والعبادة. 

كما نجحت طالبان في احتواء شتى التيارات السياسية المعارضة لحكمها، رغم أنه حكم استبدادي شمولي، لا يعترف بالشراكة الوطنية، ولكنها زعامات قبلية في إطار ديني تم تنظيم إيقاعه الواقعي داخل بنية طالبان، على المستويات كافة، وهو ما ساعدها على تجاوز جميع القوى النافذة، وقد أخذت تضعف عبر العقد الأخير، حتى تلاشى معظمها، وذاب كما قطعة الثلج، وهو ما ظهر جلياً في الشهور الأخيرة غداة الانسحاب الأميركي.

ولكن المشهد الأفغاني تمخّض بقدرة قادر عن بروز تحدي داعش الفكري والأمني، وهو تحدّ غير مسبوق، فلم يجد داعش له موطناً في أفغانستان إلا عقب هزيمته في سوريا عام 2018، بفعل قبضات محور المقاومة وتحالفه مع روسيا، رغم ما قيل عن تبلور تنظيمه عام 2014 بعد انشقاقات في طالبان باكستان، عقب اغتيال زعيمها حكيم الله محسود، وبروز نجم حافظ سعيد خان، ومبايعته للبغدادي، في وقت كان فيه الأميركي يبشّر شعوب المنطقة العربية في العراق وسوريا ومصر واليمن وليبيا بخطر داعشي عظيم، بل بدولة داعشية تمتد من الفرات إلى النيل، يستحيل احتواؤها قبل عشر إلى عشرين سنة، بحسب ما صرّح به  رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية الجنرال ريموند أوديرنو سنة 2015، وبنى على ذلك خطته في التحالف الدولي ضد الإرهاب، ولكنها لم تزد على ثلاث سنوات حتى قضى الفريق قاسم سليماني وحلفاؤه على معظم قوتها على الأرض، وهو ما دفع الأميركي إلى اغتيال سليماني لاحقاً.

وفي الوقت الذي صرّحت فيه طالبان بأنها قضت أو تكاد على داعش، عبر تدمير معسكراتها واعتقال أو قتل المئات من أفرادها، نجد أن بعثة الأمم المتحدة في كابول أحصت في الربع الأول من عام 2021 سبعة وسبعين هجوماً لداعش، بزيادة ثلاثة أضعاف عن العام السابق برمّته، وهو ما يؤكد حقيقة وجود مخطط للقوة النافذة الأولى في أفغانستان، وهي الاحتلال الأميركي، لكونه المستفيد الأول من استمرار الفوضى الأمنية في أفغانستان، وخاصة في محاولة إضعاف الخصم طالبان، وبالأخص عبر تسعير الصراع المذهبي، في مواجهة العدو الإقليمي، بل الدولي الأول؛ إيران.

تصاعد جرائم داعش في أفغانستان، وفق الإيقاع الوحشي ذاته الذي اشتهر به، يعيد طرح السؤال ذاته الذي طالما أرّق الهيئات العلمائية ومجاميعها، وهي تقف عاجزة عن مواجهة هذا التحدي التراثي بنمطه العصري، وهو تحدّ يضع كامل المنظومة الإسلامية على المحك، وخاصة أنه يستهدفها في نواتها التكوينية الأولى كبديل شامل، وقد فشلت هذه المنظومة في مواجهة هذا التحدي، سواء في مراكز الفتوى في الأزهر ومكة والزيتونة، أم في تياراتها السياسية على اختلاف مشاربها، فما يكاد داعش يضرب هنا أو هناك، حتى تتجمّد الدماء في العروق، في عجز عن تفكيك مرجعيته التراثية، وهو عجز سيظل سيد الموقف حتى يجرؤ أهل العلم والفتوى والدراية على النظر إلى الإسلام وتجربته التاريخية باعتبار مقاصد الشريعة القرآنية، وتأصيلاتها المجمع عليها بين شتى أهل العلم في تنزّلها وتطبيقاتها العملية، كما في تجدّد الواقع وتحدياته وأولوياته الكبرى، وليس وفق النص الروائي المتداخل بعصف التاريخ المذهبي، وضغط السلطات السياسية المستبدة في قرونه الأولى، التي تشكّل فيها هذا النص. 

وهو تصاعد يتطلب الانعتاق السياسي من الهيمنة الأميركية، ليمكن تجاوزه، وتجفيف منابعه، فهل تفعلها طالبان، وقد نجحت في امتحان العناد الميداني في مواجهة المحتل، نحو بناء استراتيجيات داخلية وخارجية، تحول دون اللعب في المربع الأميركي عبر وكلائه الإقليميين، لتتمكن من ضبط خيوط اللعبة الأمنية بمفاعيلها السياسية؟!