الصين... خطاب هادئ وأفعال مؤلمة للولايات المتحدة الأميركية
عرقلة النمو مطلب اقتصادي تترتّب عليه نتائج سياسية وعسكرية وأمنية، ويرافقه عدد من "المطالب الفرعية"، الهدف منها ابتزاز بكين، أو تقديم التنازلات حولها في حال موافقتها على التعاون.
مطالب كثيرة نقلها الوزير الأميركي أنتوني بلينكن عكست مدى الخلاف بين بكين وواشنطن، واختلاف التوجّهات لكلّ منهما إزاء العديد من قضايا المنطقة والعالم. فقد حظي بلينكن باستقبال بارد عند زيارته للصين؛ لا سجاد أحمر، ولا وزير خرج لاستقباله، تلك كانت رسائل بكين الأولى رداً على التصريحات التي أطلقها قبل الزيارة.
في السياسة دوماً علينا أن نبحث عما يدور تحت الطاولة، فما فوقها لن يكون سوى رسائل إعلامية يسعى كلّ طرف لصياغتها بما يخدم أهدافه ويؤثر في توجّهات ناخبيه. من هذه الزاوية لو حاولنا التدقيق بجلّ المطالب الأميركية من الصين فسنجدها تتمحور حول فكرة واحدة وهي عرقلة نمو الصين، أملاً في إطالة أمد هيمنة الولايات المتحدة على العالم، وإلى أبعد مدى ممكن.
عرقلة النمو مطلب اقتصادي تترتّب عليه نتائج سياسية وعسكرية وأمنية، ويرافقه عدد من "المطالب الفرعية"، الهدف منها ابتزاز بكين، أو تقديم التنازلات حولها في حال موافقتها على التعاون. بمعنى أن القضايا التي تعتبرها بكين شأناً داخلياً، هي قضايا لا تعني الولايات المتحدة بشيء بكلّ تأكيد، ويمكن أن تغضّ الطرف عنها، فهي ليست سوى أوراق للضغط والمساومة.
أما الخلافات الأخرى، والتي تبدأ من الحرب التجارية بين البلدين، ومنظّمتي بريكس وشنغهاي، مروراً بقضايا الذكاء الاصطناعي والرقائق الإلكترونية، وانتهاءً بالسيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية، وبطاريات الليثيوم وغيرها، فهي قضايا اقتصادية تتمحور حول كيفية حماية الدولار من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
حتى المطالب التي تتعلّق بدعوة بكين إلى قطع علاقاتها مع موسكو، هي في جزء كبير منها مطالب اقتصادية، نظراً لما تقوم به الدولتان من مساعٍ لإضعاف هيمنة الدولار الأميركي. فـ "الدولار" سرّ قوة أميركا وأساس بقائها، بات اليوم مستهدفاً بضربات موجعة تقوم بها بكين، على الرغم من الخطاب السياسي الهادئ الذي تقدّمه.
الدولار.. أسّ الخلاف بين البلدين
خطوات هامة قامت بها الصين لإضعاف الدولار، رغم حاجتها للتعامل به، باعتبارها المصدّر الأول في العالم، والدولار لا يزال هو المستخدم في التجارة العالمية. فقد أدركت الصين وروسيا الخطر الذي بات يشكّله الدولار على الاقتصاد العالمي، حيث بات بمثابة "شيك من دون رصيد"، قوّته تأتي فقط من القوة العسكرية للولايات المتحدة الأميركية.
منذ العام 2008، ومن خلال منظمة البريكس سعت موسكو وبكين للتخلّص من هيمنة الدولار، عن طريق زيادة التبادلات التجارية بين دول المنظمة بالعملات الوطنية. كانت نسبة الدولار تقدّر بنحو 90% من الاحتياطيات العالمية، وتراجعت كثيراً حتى وصلت اليوم إلى نحو 58% فقط، وهو ما يعكس ضعف ثقة دول العالم بالدولار.
كانت الصين أكبر دائن للولايات المتحدة، حيث وصلت استثماراتها في سندات الخزانة الأميركية إلى 1.3 تريليون دولار في العام 2010، بعد ذلك بدأت الصين تتخلّص من استثماراتها حتى وصلت اليوم إلى نحو 700 مليار دولار فقط.
بمعنى أنه عندما كان حجم الدين العام الأميركي 14 تريليون دولار كانت حصة الصين منه 1.3 تريليون دولار، وعندما زاد الدين العام الأميركي ليتجاوز 34 تريليون دولار كان من المتوقّع أن تزداد نسبة الصين منه، لكن الذي حصل هو عكس ذلك، حيث تخلّصت بكين من كميات كبيرة من سندات الخزينة التي كانت تستثمر فيها، وهو ما زاد من الكمية المعروضة من الدولار، وبالتالي أدّى إلى انخفاض قيمته.
تنويع سلة العملات سياسة استخدمتها بكين، حيث يقدّر مخزونها من العملات الأجنبية بـ 3.6 تريليونات دولار. واستمراراً في سياسة التخلّص من الدولار، كانت الصين أكبر مشترٍ للذهب في العام 2023، حيث اشترت 225 طناً من السبائك الذهبية، ليصل احتياطيها من الذهب إلى 2250 طناً.
تبع الصين في ذلك عدد من البنوك المركزية لعدة دول، حيث يقدّر ما اشترته تلك الدول (بما فيها الصين) من الذهب بـألف طن، وهو ما يعني تخلّيها عن الدولار بكميات كبيرة.
كما عملت الحكومة الصينية ومن خلال مبادرة الحزام والطريق على صرف كميات كبيرة من الدولار، عبر شرائها لبعض الموانئ أو السواحل، أو الإنفاق على استثمارات في مشاريع البنية التحتية لعدد من الدول المنضمّة إلى المبادرة، حيث تجاوزت الاستثمارات الصينية في الخارج المئة مليار دولار.
كذلك ترى الولايات المتحدة الأميركية أن الحكومة الصينية تتدخّل للحفاظ على القيمة المنخفضة لليوان الصيني، لأن ذلك يزيد من الطلب على منتجاتها، وبالتالي زيادة حجم الصادرات.
الطاقة الخضراء.. وإضعاف هيمنة الدولار
مخاوف كثيرة نقلتها وزيرة الخزانة الأميركية والوزير بلينكن تتعلّق بزيادة إنتاج الصين للسيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية وبطاريات الليثيوم. فما تعلنه الولايات المتحدة هو أن الإنتاج الزائد من قبل الصين لتلك المنتجات، جعلها تتعرّض لمخاوف على مستقبل تلك الصناعة في الولايات المتحدة والدول الغربية.
خاصة وأن المنتجات الصينية أرخص، وبالتالي سيكون الإقبال عليها أكبر من قبل المواطن الأميركي أو الغربي عموماً، وخصوصاً في ظل ما تعيشه تلك الدول من أزمات اقتصادية وتضخّم أدى إلى ضعف القدرة الشرائية.
هذا الكلام هو جزء من الحقيقة، بل هو الجزء الأقل أهمية، بينما الجزء الأكثر أهمية هو خوف الولايات المتحدة من أن تؤدي تلك المنتجات إلى تقليل الطلب العالمي على النفط، وبالتالي قلة الطلب على الدولار.
لذلك لاحظنا خلال السنوات الأخيرة، قلة الحديث الأميركي عن التلوّث البيئي والاحتباس الحراري وسوى ذلك من الشعارات التي كانت تتغنّى بها، رغم أنها المصدر الأول لتلوّث البيئة في العالم.
كذلك تراجعت الاتهامات الأميركية لبكين حول قضايا البيئة، خاصة وأن الصين تحقّق قفزات كبيرة في مجال التنمية الخضراء، والانتقال إلى الطاقة الكهربائية في وسائط النقل، وتوليد الكهرباء عبر خلايا الطاقة الشمسية والرياح، بينما عادت الدول الأوروبية إلى استخدام الفحم الحجري في كثير من القطاعات، بعد توقّف الغاز الروسي نتيجة للحرب الأوكرانية.
السعودية بيضة القبّان...
بعد صدمة نيكسون عام 1971 التي أعلن من خلالها فك الارتباط بين الذهب والدولار، أدّت المملكة العربية السعودية دوراً كبيراً في تعزيز مكانة الدولار كعملة دولية، حيث وافقت في العام 1974، على توقيع اتفاق سمّي باتفاق "البترودولار"، حيث جرى تسعير النفط بالدولار، وقامت المملكة بشراء سندات خزانة أميركية، مقابل تعهّد الولايات المتحدة بحماية السعودية.
ثم تبعها في ذلك عدد من الدول المنتجة للنفط، فأصبح سعر النفط مرتبطاً بالدولار، وبالتالي زادت حاجة دول العالم إلى الاحتفاظ باحتياطات أجنبية به، لتمويل شراء النفط.
تلك الخدمة التي قدّمتها السعودية للولايات المتحدة كانت خدمة جليلة، زادت من الطلب العالمي على الدولار، فقامت الولايات المتحدة في الفترة (1973-2008)، بطباعة كميات من الدولار وصلت إلى 3000%، عمّا كان مطبوعاً سابقاً.
في العام 2023 سعت الصين وروسيا إلى قبول طلب السعودية للانضمام إلى منظمة البريكس، أملاً في إضعاف سياسة البترودولار، لكن هذا الانضمام لم يتمّ حتى اليوم.
فيبدو أن السعودية أدركت خطورة الإقدام على مثل هذه الخطوة باعتبارها ستشكّل تهديداً مباشراً للدولار الأميركي، خاصة وأن 70% من النفط السعودي يتم تصديره إلى الهند والصين. بمعنى أنه لو تمّ تصدير النفط السعودي بالعملات المحلية بدلاً من الدولار، فإن ذلك سيزيد من أزمة الدولار، خاصة وأن الاقتصاد الأميركي ليس في أحسن أحواله.
الذكاء الاصطناعي والدولار...
سمعنا كثيراً عن الخلافات بين الولايات المتحدة والصين حول الذكاء الاصطناعي، والرقائق الإلكترونية التي تشكّل عصب تلك الصناعة. فالخلاف ناتج من أن الذكاء الاصطناعي هو اقتصاد المستقبل، فمن يسيطر عليه سيصبح هو القوة الأولى عالمياً، من دون منازع. ويقدّر حجم الأموال التي ستنتج عن تلك التقنية بـ 16 تريليون دولار، أي ما يعادل اقتصاد الصين والهند مجتمعتين.
يبدو أن الصين حقّقت قفزات كبيرة في هذا الإطار، عبر امتلاكها لتقنية 5G، وما تبعها من هجمة أميركية على شركة هواوي بعد ذلك، هو دليل على أهمية تلك التقنية.
فتفوّق الصين في هذا الجانب سيقلّص المدة اللازمة لها كي تتجاوز الاقتصاد الأميركي، وتصبح الاقتصاد الأول على مستوى العالم. والتقارير الأخيرة تشير إلى أن ذلك سيكون في العام 2028، لا أكثر، وهو ما يوضح حجم القلق الأميركي من الصين، والهجمات الكبيرة التي تتعرّض لها بكين من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية.
في الآونة الأخيرة بات واضحاً أن المسؤولين الأميركيين، والغربيين عموماً هم من يبادرون بالزيارة إلى الصين، لا العكس. وهو ما يظهر حاجة تلك الدول إلى الصين لا العكس. فالخطاب السياسي الهادئ الذي تلجأ إليه الصين، لا يخفّف من أفعالها المؤلمة التي باتت تؤثّر في اقتصادات تلك الدول، وتفقدها المكانة والفاعلية. والقمة الأخيرة التي جمعت الرئيسين الروسي والصيني كان الحديث فيها واضحاً من قبل الزعيمين، أنّ ما نشهده الآن يحدث مرة كل مئة عام، بمعنى أننا نعيش الآن مرحلة المخاض لولادة نظام عالمي جديد.
النظام العالمي الجديد يعني بكل تأكيد وجود لاعبين جدد، وعملات نقدية جديدة، وهذا بكل تأكيد يحتاج إلى المزيد من الوقت، ولن يكون بين عشية وضحاها.