بعد أسبوعين من القتال.. الميدان السوداني إلى أين؟

في حال أخفقت محاولات الوساطة الدولية الحالية في فرض وقف دائم لإطلاق النار، يتوقع اندلاع جولة عنيفة من الاشتباكات داخل الخرطوم، قد تكون نتيجتها فرض واقع ميداني جديد أو انكفاء قوات الدعم السريع نحو إقليم دارفور.

  • بعد أسبوعين من القتال.. الميدان السوداني إلى أين؟
    بعد أسبوعين من القتال.. الميدان السوداني إلى أين؟

بعد دخول المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع أسبوعها الثاني - رغم المحاولات المستمرة لتثبيت الهدن المتلاحقة التي تم فرضها على طرفي القتال خلال الفترة الماضية - بات من المتاح، رغم الوتيرة المتسارعة للأحداث وتضارب الروايات المتوفرة حول التطورات على الأرض، استخلاص بعض النقاط التي يمكن من خلالها فهم ما يحدث على الأرض، واستشراف الاحتمالات التي يمكن أن يشهدها الميدان السوداني خلال المرحلة المقبلة.

النقطة الأولى والأهم هي أن قوات الدعم السريع - على المستوى التكتيكي - لا تسعى لفرض سيطرة ميدانية كاملة - بالمعنى العسكري للكلمة - على العاصمة السودانية، بقدر ما تستهدف إدامة العمليات العسكرية واستنزاف وحدات الجيش السوداني، سواء على مستوى العتاد والوقود أو على مستوى القوة البشرية. 

هذا التكتيك لا يستهدف "الإنهاك" فحسب، بل يستهدف أيضاً تحييد دور سلاح الجو والمدفعية في المعارك الحالية، بالنظر إلى الطبيعة "التلاحمية" لهذه المعارك وطبيعة ميدان القتال، وهو أسلوب في المجمل يمكن تشبيهه إلى حد بعيد بما كان متبعاً في سوريا خلال التحركات التي نفذتها المجموعات المسلحة ضد الجيش السوري بعد عام 2011.

يضاف إلى ذلك أن قوات الدعم السريع عدلت - كما يبدو - أهدافها المرحلية على المستوى الميداني؛ ففي البداية، كان الهدف هو شن عملية خاطفة في العاصمة ومراكز الولايات الرئيسية، مع تعطيل المطارات الحربية وشلّ حركتها، لكن هذا لم يتحقق، ولم تتمكن إلا من شل حركة مطار الخرطوم، في حين فقدت السيطرة على مطار "صبيرة" في ولاية غرب دارفور، و"مروي" في الولاية الشمالية، بعدما سيطرت عليهما لعدة أيام، ولم تتمكن من دخول مطار "الأبيض" و"الفاشر"، وهي تحتفظ حالياً بالسيطرة على قاعدة "النجومي" الجوية جنوبي العاصمة، في حين استمرت عمليات القوات الجوية السودانية منذ الأول للقتال، انطلاقاً من قاعدة "وادي سيدنا" الجوية شمالي الخرطوم.

تعديل التكتيكات على الأرض في العاصمة السودانية

نتيجة لهذا الوضع الميداني، ولمبادرة الجيش السوداني مبكراً إلى إطلاق حملة هجومية على المعسكرات الرئيسية لقوات الدعم السريع في الولايات المختلفة، وعلى معسكراتها الستة الرئيسية داخل العاصمة، انتقلت قوات الدعم السريع إلى تكتيك آخر استهدف تكوين "دائرة قتل" في قلب العاصمة السودانية، وتحديداً في نطاق حي المطار ومحيط القيادة العامة للقوات المسلحة والقصر الجمهوري ومطار الخرطوم، وهو ما تم بالفعل منذ بداية العمليات، إذ حرصت وحدات الدعم السريع على إدامة العمليات في هذه الدائرة، رغم المحاولات المستمرة للجيش السوداني لتطهير هذا النطاق.

بالتزامن مع تكوين هذه الدائرة، توسعت العمليات القتالية خلال الأيام الأولى للقتال إلى القسمين الشمالي والغربي للعاصمة "الخرطوم بحري - أم درمان"، وخصوصاً منطقتي "شمبات" و"كافوري" في الأولى، ونطاق حي المهندسين ومبنى التلفزيون في الثانية.

مع بدء تطبيق الهدن المتتالية، سعى كلا الجانبين المتقاتلين إلى تأمين خطوط إمداد للقوات الموجودة داخل العاصمة، إذ نقل الجيش السوداني وحدات كبيرة من المشاة والمدرعات أول أيام عيد الفطر من مدينة "الدمازين" جنوب شرقي البلاد إلى العاصمة عبر أحد مدخليها الجنوبيين، وهو "طريق مدني"، الذي شهدت منطقة "الباقير" (جنوبه) معركة كبيرة بين كلا الطرفين، بعدما حاولت قوات الدعم السريع منع الجيش من إدخال هذه التعزيزات إلى العاصمة.

واستهدف سلاح الجو السوداني خطوط إمداد قوات الدعم السريع، سواء الخط الرابط بين مدينة "الأبيض" والمدخل الجنوبي للعاصمة "جبل أولياء"، أو الخط الموازي له على طول الضفة الغربية للنيل الأبيض في اتجاه جنوب أم درمان، أو خط الإمداد الشمالي الآتي من إقليم دارفور نحو مصفاة "الجيلي" النفطية شمالي الخرطوم بحري، وهي نقطة ارتكاز أساسية لقوات الدعم السريع في هذا الاتجاه، تماثل في أهميتها نقطة ارتكازها جنوبي العاصمة في قاعدة "النجومي" الجوية في جبل أولياء.

حالياً، ما زالت المعارك مستمرة في الميدان في نطاق "دائرة القتل" الموجودة وسط العاصمة، مع تقلص واضح في حجم سيطرة قوات الدعم السريع في منطقة الخرطوم بحري، واستمرار وجودها في المناطق الغربية والجنوبية لأم درمان، وكذلك جنوب العاصمة ومنطقة "شرق النيل"، وبات من الواضح أنَّ التركيز حالياً منصب على أطراف العاصمة، بهدف منع وصول تعزيزات كلا الطرفين إليها.

بالنّظر إلى ما تقدّم، وإلى عدة مؤشرات من بينها طغيان مساحات الاشتباك والتراشق بالنيران على مساحات السيطرة الميدانية الكاملة لكلا الطرفين، ودخول العاصمة في سياق عمليات سلب ونهب على خلفية اقتحام عدة سجون داخل العاصمة السودانية، مثل سجني الهدى وسوبا، وكذا بدء عمليات إجلاء الرعايا الأجانب، واستمرار الضبابية في المواقف السياسية الداخلية في السودان حيال ما يحدث، في مقابل دور إقليمي ودولي "طاغٍ" في هذه الأزمة، يتوقع في حال فشلت محاولات الوساطة الدولية الحالية في فرض وقف دائم لإطلاق النار، اندلاع جولة عنيفة من الاشتباكات داخل العاصمة، قد تكون نتيجتها فرض واقع ميداني جديد أو انكفاء قوات الدعم السريع نحو إقليم دارفور.

إقليم دارفور ومخاطر العودة إلى الوراء

تحقق السيناريو الثاني يحمل في حد ذاته تحديات أكثر خطورة على مستوى الداخل السوداني، لا لأنه سوف يمهد لعودة أزمة إقليم دارفور مرة أخرى إلى التجدد فحسب، بل أيضاً بسبب ارتباطه باحتمالات جدية لانفصال هذا الجزء عن السودان مستقبلاً.

هنا، لا بد من أن نضع في الاعتبار وجود انخراط أساسي لولايات إقليم دارفور في جولات القتال الحالية؛ ففي الأسبوع الأول للقتال، تحركت قوات الدعم السريع نحو مطار الفاشر في ولاية شمال دارفور، ومطار "صبيرة" قرب مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، بهدف السيطرة عليهما ضمن الخطة التي كانت تقتضي شل حركة المطارات السودانية الأساسية.

هذا التحرك أدى إلى استنفار القوات الحكومية التي بادرت على مدار عدة أيام إلى مهاجمة معسكرات الدعم السريع في ولايات شمال دارفور وجنوب دارفور ووسط دارفور، في حين هاجمت قوات الدعم السريع مراكز الشرطة في هذه الولايات، وعلى رأسها قيادة شرطة شمال دارفور، لكن لم تمتدّ المعارك حينها إلى ولاية غرب دارفور، نظراً إلى أنَّ هذه الولاية تعدّ معقلاً أساسياً لقوات الدعم السريع.

تدهورَ الوضع بشكل أكبر في ولاية غرب دارفور منذ 24 نيسان/أبريل، حين تم إطلاق موجات متتالية من الهجمات التي استهدفت المرافق الحكومية في عاصمة الولاية، إلى جانب مدينة "نيالا "عاصمة ولاية جنوب دارفور. 

وقد شملت هذه الهجمات الأسواق الرئيسية، لكن انتشار وحدات الشرطة في مدينة نيالا ساهم في تحجيم هذه الهجمات التي كان لافتاً أنها حملت صبغة عرقية، إلى جانب صبغتها الأساسية المتعلقة بالمواجهة بين الدعم السريع والجيش السوداني.

اتّضح ذلك بشكل أكبر من خلال استمرار الاشتباكات في مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور، التي أسفرت عن تدمير وإحراق مواقع عديدة في أحياء الجمارك والثورة والجبل، بما في ذلك مراكز الشرطة، ومقار الهلال الأحمر السوداني والسوق المركزي، إلى جانب 90% من معسكرات إيواء اللاجئين الموجودة في المدينة، وهو ما أدى إجمالاً إلى مقتل عشرات الأشخاص، من بينهم نائب مدير شرطة ولاية غرب دارفور.

بطبيعة الحال، لم تتضح بشكل يقيني الجهة التي نفذت هذه الهجمات، لكن المؤكد أن العامل العرقي - أو القبلي بالأحرى - اختلط في هذه الهجمات مع العامل المتعلق بانعكاسات المعارك بين الجيش السوداني والدعم السريع في الخرطوم، إذ ساهم الوضع الأمني والقبلي الهشّ في دارفور عموماً، والمناطق الغربية المتاخمة للحدود، إضافة إلى رغبة قوات الدعم السريع في جر الجيش السوداني إلى "حرب استنزاف" داخل دارفور، تقابلها رغبة مضادة من الجيش السوداني في قطع أي إمكانية لإمداد قوات الدعم السريع بالقوات والعتاد من دارفور نحو العاصمة، في تحقيق هذا الاختلاط في العوامل العرقية والميدانية في غرب دارفور، وبالتالي إنتاج المشهد القائم حالياً في عاصمة ولاية غرب دارفور.

هنا، يبدو من الضروري النظر إلى مواقف قيادات المجموعات المسلحة الرئيسية الموجودة في دارفور من الوضع القائم حالياً في السودان، وخصوصاً موقف حاكم إقليم دارفور وقائد حركة جيش تحرير السودان مني أركو مناوي، الذي أعلن تواصله مع مجموعات مسلحة أخرى وتوافقه معها على "تحريك قوة عسكرية مشتركة للفصل بين المتحاربين بالتعاون مع السلطات المحلية". 

هذا الموقف لم تتضح آليات تنفيذه، لكن من المعروف أن المجموعات المسلحة في إقليم دارفور، وهي 8 مجموعات، والتي وقعت على اتفاقية "جوبا للسلام"، تشكّل معاً "قوة متحالفة" تتبع والي ولاية غرب دارفور. 

وقد يتم استخدام هذه القوة وسيلةً لإيقاف القتال، أسوةً بمبادرات مماثلة تم اتخاذها في ولاية شمال دارفور وجنوب دارفور، لكن في الوقت نفسه يشكل هذا التوجه إشارة مقلقة بشأن إمكانية إعادة إنتاج المشهد الذي كان سائداً سابقاً في دارفور على مستوى الحركات المسلحة، بشكل يقوّض اتفاقية جوبا من جهة. ومن جهة أخرى، قد يؤدي إلى إعادة إذكاء النزعات الانفصالية في الإقليم.

بالنظر إلى الأحداث التي شهدها إقليم دارفور منذ منتصف شهر نيسان/أبريل، واستمرار القتال في العاصمة السودانية من دون وجود إمكانية واضحة لإيقاف العمليات القتالية بشكل كامل، يمكن القول إنَّ احتمالات التصعيد في السودان تبدو أقرب في المدى المنظور، سواء في ما يتعلق بالعاصمة أو ما يرتبط بإقليم دارفور، وكلاهما يرتبطان ببعضهما بعضاً تبعاً للسيناريو الذي سوف تسير وفقه المجريات الميدانية خلال المدى المنظور.

لكن المؤكد أنَّ حجم التدخلات الخارجية في الملف السوداني، وحالة الضبابية التي تسود مواقف القوى السياسية السودانية مما يحدث على الأرض، يمثلان حاضنة خصبة لاستمرار القتال وتصاعده، وهو ما سيؤثر سلباً في إقليم دارفور، الذي تعيش معظم ولاياته أوضاعاً أمنية غير مستقرة، قد تمثل عنصراً ضاغطاً على الفصائل المسلحة، كي تعيد انسلاخها عن المنظومة السودانية وتبادر إلى تعديل الأوضاع على الأرض.

منتصف نيسان/أبريل 2023 تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.