النفط منع انهيار ليبيا اقتصادياً.. ولكن إلى متى؟

في سياق أوَّل فحص لسلامة اقتصاد ليبيا منذ 10 سنوات، حدد صندوق النقد الدولي أبرز مواطن القوة وأهم الفرص التي ستدعم تعافي البلاد.

  • النفط منع انهيار ليبيا اقتصادياً.. ولكن إلى متى؟
    النفط منع انهيار ليبيا اقتصادياً.. ولكن إلى متى؟

مرّت الدولة الليبية بالعديد من الأزمات السياسية خلال العقد الماضي، ما تسبب بدخول البلاد في نفق مظلم من الفوضى والاضطراب الأمني والانقسام الحكومي. رغم ذلك، تمكّن الاقتصاد من الصمود النسبي، واستطاعت عدة مؤسسات رسمية مواصلة أعمالها وتسديد رواتب العاملين فيها، وبدأت باستضافة العمالة من الخارج للمساهمة في مشاريع التنمية العقارية.

عندما قصف طيران حلف شمال الأطلسي ليبيا في ربيع العام 2011، كان ثمة إجماع لدى المعلقين السياسيين على أن تلك الدولة العربية البالغ مساحتها نحو 1,8 مليون كم² فقدت تماسكها واستقرارها إلى أمدٍ طويل، لكن في المقابل سوف تستمر الثروة النفطية الهائلة المستخرجة من أراضيها في التصدير إلى دول العالم المختلفة، ما يعني في المحصلة أن الأمور الاقتصادية سيطالها حظٌ وافرٌ من التخبّط والفشل الإداري، لكنها ستُمكّن البلاد من الوقوف على قدميها، وإن كانت وقفة غير متزنة يُخشى معها من السقوط.

وبحسب تقارير مؤسسات المال الدولية، فإن ليبيا تمتلك احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، ولديها بالتالي واحد من أعلى مستويات نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في أفريقيا، وسوف يظل إنتاج الهيدروكربونات جزءاً أساسياً من المستقبل الاقتصادي في ليبيا، إذ يشكل نحو 95% من الصادرات ومن إيرادات الحكومة.

بالنظر إلى إمكانيات الدولة الليبية، فإنَّ طموح المواطن الليبي في حياة أفضل هو أمر مشروع تماماً، فلو أُحسن استغلال تلك الثروات التي منحتها الطبيعة لهذه البلاد، لكان الوضع مختلفاً إلى حدٍ بعيد. 

كذلك، كانت لدى الليبيين أحلام واسعة تتعلق بتنويع مصادر الدخل، بحيث لا تقتصر على النفط ومشتقاته، بل تمتد إلى مجالات الصناعة والزراعة والسياحة ومختلف القطاعات الأخرى، بالشكل الذي يغيّر حال الاقتصاد من كونه ريعياً وغير منتج إلى اقتصادٍ واعد واعتمادي ومتنوع.

وقد عانى جزء من الليبيين منذ سقوط نظام معمر القذافي بسبب الانخفاض الكبير الذي لحق بنظام الحماية الاجتماعية الذي كان يتكفّل بالعديد من احتياجات المواطنين. ونتيجة لذلك، أصبحت تغطية الفئات السكانية الأكثر احتياجاً محدودة، وتأثر ناتج سوق العمل بشكل سلبي، علماً أن أكثر من 85% من السكان الناشطين اقتصادياً يعملون في القطاعين العام والاقتصاد غير الرسميين، بحسب بيانات البنك الدولي.

البنك والصندوق الدوليان وتوقعات بمستقبل أفضل لليبيا!

في منتصف الشهر الماضي، عاود صندوق النقد الدولي أنشطته الرقابية بعد توقف دام عقداً كاملاً، معتبراً أن "ليبيا تمهد الطريق نحو تعافيها الاقتصادي"، وأنها "حققت تحسناً مؤخراً في جمع البيانات وتبادلها وشفافيتها". 

وتوقع الصندوق نمو إنتاج الهيدروكربونات بنحو 15% عام 2023، عقب زيادة النشاط التي جاءت بعد حصار المنشآت النفطية الذي حدّ من الإنتاج عام 2022.

وفي سياق أول فحص لسلامة اقتصاد ليبيا منذ 10 سنوات، حدد صندوق النقد الدولي أبرز مواطن القوة وأهم الفرص التي ستدعم تعافي البلاد، إذ تمكن مصرف ليبيا المركزي من الاحتفاظ برصيد كبير من الاحتياطيات الدولية، وكان لذلك دور مهم في مساعدة البلاد لكي تتغلب على التقلبات غير المسبوقة في إنتاج النفط وإيراداته التي حدثت بعد الثورة.

وكان خبراء صندوق النقد قد توقعوا، وفقاً للتقارير المنشورة نهاية العام الماضي، أن تكون ليبيا هي الأسرع نمواً بين اقتصادات الدول العربية، إذ توقع الصندوق أن تحقق البلاد نمواً بنسبة 17.9% خلال العام الجاري. ويُرجع الخبراء أسباب النمو الليبي إلى ارتفاع الطلب على الطاقة وانتعاش أسعارها عالمياً، إضافة إلى استقرار قطاع النفط فيها بعد معاناة طويلة.

ومع هذا، يؤكد الصندوق أن ليبيا ستواجه تحدياً رئيسياً يتعلق بتنويع النشاط الاقتصادي بعيداً من النفط والغاز، إذ تقدر مساهمة قطاع الزراعة بنحو 3‎%، والخدمات بـ4% من الاقتصاد الوطني، وكذلك القطاع الصناعي، إضافة إلى ضرورة العمل المكثف بهدف الوصول إلى بيئة سياسية وأمنية مستقرة وتعزيز سيادة القانون وتقوية المؤسسات الحكومية.

ولكن الاحتفاء بالأخبار الواردة عن صندوق النقد والاهتمام بقراره المتعلق باستئناف أنشطته الرقابية لم يمنع مراقبين من الإشارة إلى النقاط التي أوردها الصندوق في تقاريره ضمن وصاياه للمؤسسات الحكومية التي ستؤثر سلباً في أوضاع العديد من المواطنين الليبيين، وقد تدفع الأسعار نحو الارتفاع.

يرى الصندوق أن ليبيا تحتاج إلى خفض التكاليف المقترنة بارتفاع الإنفاق على أجور القطاع العام وإعانات الدعم، وهو أمر بالغ الحساسية ويؤدي المساس به إلى العديد من المشكلات الاجتماعية، إذ إن نحو 2.2 مليون نسمة –أي ثلث السكان– يعملون نظرياً في القطاع العام، وتشكل إعانات الدعم والمنح عاملاً مُهماً يعين المواطنين الليبيين على تدبير شؤونهم.

كذلك، يدين الصندوق استمرار سياسات الدعم، ويركز على ما تنفقه الحكومة لتوفير البنزين بسعر رخيص للمستهلكين، إذ يُباع ليتر البنزين بثلاثة سنتات أميركية، وهو ثاني أدنى أسعار للبنزين في العالم. 

في المقابل، يؤكد الناشطون الليبيون أن استجابة المسؤولين لأجندة صندوق النقد لن تؤدي إلى تحسّن أحوال البلاد، لكنها ستؤدي بالتأكيد إلى تخريب هامش الأمان المحدود الذي تتمتع به أعداد كبيرة من الأسر الليبية، مشيرين إلى نماذج مختلفة من الدول سارت ضمن تلك الأجندة، وكانت المحصلة ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة المحلية وزيادة معدلات الفقر.

في السياق ذاته، تؤكد أحدث البيانات الصادرة عن البنك الدولي أن الاقتصاد الليبي أظهر قدرة على الصمود مع أن النمو الاقتصادي يعتريه انخفاض وعدم ثبات.

وتشير تقديرات المصرف إلى أن عام 2022 شهد انكماشاً بنسبة 1.2% في الاقتصاد الليبي، وهو ما يرجع في المقام الأول إلى انخفاض إنتاج النفط خلال الربع الأول من العام، واستمرت معدلات البطالة بالارتفاع عند 19.6%، وكان التضخم مدفوعاً بدرجة كبيرة بارتفاع أسعار المواد الغذائية والإسكان والكهرباء، إذ وصل المؤشر الرسمي لأسعار المستهلكين إلى 4% في نهاية عام 2022، في حين شهدت سلة الحد الأدنى من الإنفاق الغذائي التي تلبي الاحتياجات الأساسية زيادة قياسية بلغت 38% في الأسعار المحلية.

وعلى صعيد المالية العامة، واجهت الحكومة تحدياتٍ في تأمين موازنة معتمدة لعام 2022. ومع ذلك، سجلت هذه الحكومة فائضاً في المالية العامة بنسبة 2.8% من إجمالي الناتج المحلي عام 2022، وهو ما يمثل انخفاضاً عن الفائض المسجل بنسبة 10.6% عام 2021.

النفط رافعة الاقتصاد الليبي ليبيا.. حتى حين!

يؤكد الخبراء أنّ حلّ الأزمات الاقتصادية في ليبيا أصبح ممكناً بعد تعاظم الموارد النفطية، وخصوصاً مع وجود عدد قليل من السكان مقارنة بالدول الأخرى، لكن من دون الإنتاج، ومع الاعتماد على عوائد تصدير الثروة النفطية فقط، سيكون الاقتصاد الليبي معرضاً للعديد من الصدمات الخارجية، من أهمها صدمات أسعار النفط والغذاء العالمي.

وتستهدف ليبيا حالياً زيادة إنتاجها من النفط الخام خلال الأشهر الستة المتبقية من العام الجاري، لتصل إلى 1.3 مليون برميل يومياً، بزيادة 96 ألف برميل عن المعدل الحالي الذي يزيد قليلاً على 1.2 مليون برميل.

ومن اللازم أن يقترن تطور القطاع النفطي بتطور كل القطاعات الإنتاجية، إذ يشتكي الليبيون بسبب غياب دور المصارف التي يفترض بها دفع عجلة الاقتصاد نحو التنوّع. وإلى الآن، لم يقدم المصرف المركزي خطة عمل جديدة لتحقيق التنوّع الاقتصادي.

كذلك، يشير ناشطون محلّيون إلى أن الحكومة التي تدير الأمور في العاصمة رفعت كثيراً معدلات إنفاقها، وهي أمور تحتاج إلى مراجعة، إذ إن خطر الإسراف في الإنفاق العام من دون ضوابط يهدد مستقبل الاقتصاد الليبي، وخصوصاً في ظل حالة الاضطراب العالمي التي نجمت عن انتشار وباء "كوفيد 19"، ثم الحرب الروسية الأوكرانية.

من جهة أخرى، إنّ الانقسام الذي تعيشه ليبيا يؤثر سلباً في أوضاع كل القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً النفط، إذ تدير ليبيا اليوم حكومتان؛ واحدة في الشرق مكلّفة من البرلمان ويدعمها القائد العسكري خليفة حفتر برئاسة أسامة حمّاد، وأخرى في طرابلس تحمل اسم "حكومة الوحدة الوطنية" بقيادة عبد الحميد الدبيبة.

وتُعدّ الاتهامات المتبادلة التي دارت بين الحكومتين مطلع شهر يوليو/تموز الجاري، وتهديد حكومة حمّاد بوقف تدفق النفط والغاز ومنع تصديرهما، من الدلالات على الآثار السلبية الناجمة عن حالة الانقسام التي تعيشها ليبيا منذ سنوات.

ويرى الاقتصاديون أن الاعتماد على عوائد النفط يمكن أن يوفر الأموال التي يحتاجها عدد من الوزارات للإنفاق على الرواتب والمدارس والمستشفيات... لكن السير على هذا المنوال لا يؤدي إلى حدوث نهضة شاملة تتلاءم مع إمكانيات البلاد. ومن أجل هذا، ينصحون بالعمل على الآتي:

أولاً، توحيد الصفّ السياسي، بحيث تكون في ليبيا حكومة واحدة ومؤسسة عسكرية لها السلطة الكاملة على جميع أنحاء البلد.

ثانياً، العمل على توفير الأمن والاستقرار لتوفير البيئة اللازمة لنمو الاستثمارات التي تحتاجها البلاد.

ثالثاً، مراجعة آليات الإنفاق الحكومي، والحدّ من مظاهر البذخ، وتوجيه الفائض نحو النشاطات الإنتاجية.

رابعاً، دعم أصحاب المشروعات الزراعية والصناعية، وحماية المنتجات الوطنية عبر التحكم في عملية الاستيراد.

خامساً، العمل في إطار من الشفافية، والسعي نحو تحقيق توزيع عادل للثروة، والحفاظ على المكاسب الاجتماعية التي يتمتع بها المواطن الليبي.

سادساً، وضع مخطط شامل يمتد إلى عقدين على الأقل، ويتضمّن خطة واضحة تحظى بإجماع نخبوي وتأييد مجتمعي، وتستهدف توظيف موارد النفط الهائلة لتأسيس بيئة استثمارية واعدة.