المناورة الحرجة … ماذا يستهدف "المُدافع الصامد" في البلطيق

تشارك جميع دول الحلف البالغ عددها 31 دولة في هذه المناورة، بجانب السويد، وهي الدولة المرشحة لعضوية "الناتو"، ويبلغ إجمالي عدد القوات المشاركة أكثر من 90 ألف جندي.

  • ماذا يستهدف
    ماذا يستهدف "المُدافع الصامد" في البلطيق؟

أعلن حلف "الناتو"، في أيلول/سبتمبر 2023، عن عقد سلسلة من التدريبات العسكرية، ضمن مناورة "المدافع الصامد 2024"، خلال الفترة بين 31 كانون الثاني/يناير و31 أيار/مايو، في مواقع عدة بأوروبا الشرقية، بهدف أساسي وهو التدرب على مواجهة عدوان افتراضي محتمل من جانب الاتحاد الروسي ضد دولة عضو في الحلف، وتفعيل المادة 5 المسماة "حالة التحالف".

تشارك جميع دول الحلف البالغ عددها 31 دولة في هذه المناورة، بجانب السويد، وهي الدولة المرشحة لعضوية "الناتو" والتي لم يتم التصديق على قرار انضمامها إلى الحلف بعد، ويبلغ إجمالي عدد القوات المشاركة أكثر من 90 ألف جندي، وستنتقل هذه القوات إلى أوروبا وعبرها منذ بداية شهر شباط/فبراير حتى نهاية شهر أيار/مايو، لتنفيذ سيناريو محاكاة الصدام مع تحالف وهمي يسمى "أوكاسوس".

سيكون المسرح الأساسي لهذه المناورة متركزاً على دول البلطيق وألمانيا وبولندا، حيث سيتم التدريب في القسم الأول من هذه المناورات، على عمليات التصدي التكتيكي لهجمات معادية في ألمانيا ودول البلطيق، ودول تقع على هامش حلف "الناتو" مثل النرويج ورومانيا، في حين سيتم التركيز في القسم الثاني من هذه المناورة، على التدرب على نشر قوات الرد السريع التابعة للحلف، في بولندا.

حشد عسكري ضخم لحلف "الناتو" 

بشكل عام، ستشمل مناورة "المدافع الصامد 2024"، مشاركة أكثر من 50 قطعة بحرية، وأكثر من 80 طائرة مقاتلة ومروحيات وطائرات من دون طيار، وما لا يقل عن 1100 مركبة قتالية، منها 133 دبابة و533 مركبة مشاة قتالية.

أما على مستوى القوة العسكرية الأساسية المشاركة في هذه المناورات، فقد حازت بريطانيا المشاركة الأكبر في هذه المناورة، عبر إرسالها نحو 20 ألف جندي، منهم 16 ألف جندي من الجيش البريطاني سيتمركزون في شرق أوروبا، بالإضافة إلى نحو 2000 من قوات البحرية، سيتم تقسيمهم بين الأطقم البحرية، التي ستتمركز على مجموعة حاملة الطائرات البريطانية "إليزابيث"، ونحو سبع قطع بحرية أخرى، بجانب مشاة البحرية الذين سيتمركزون في الدائرة القطبية الشمالية، ويضاف إليهم عناصر القوات الجوية البريطانية، الذين سيشغلون المقاتلات الهجومية من نوع "F-35B" وطائرات الدورية البحرية "Poseidon P8".

إلى جانب هذه القوة، سيشارك نحو خمسة عشر ألف جندي بولندي، وعشرة آلاف جندي ألماني، بجانب أعداد أقل من الجنود ستشارك بها بقية دول الحلف.

لا تعدّ هذه المناورة في حد ذاتها أمراً مستحدثاً أو جديداً، بل تقام بشكل شبه دوري، وأقيمت نسختها الأخيرة عام 2021 بشكل رئيسي في ألمانيا، وكانت تركز على الجانب البحري، حيث تمت أغلب أقسامها في البحر الأسود والسواحل الإيطالية. تتألف مناورة هذا العام من مجموعة من التدريبات العسكرية المتتالية، التي يمكن تقسيمها إلى تدريبات تتم بشكل مباشر تحت مظلة مناورة المدافع الصامد، وتدريبات أخرى تتم تحت مظلة مناورة "كوادريجا-2024" في ألمانيا.

مناورة "المدافع الصامد" تشمل في طيّاتها أربعة تدريبات عسكرية رئيسية، أهمها تدريب "دراجون-24"، الذي يقام في بولندا في الفترة بين 25 شباط/فبراير إلى 14 آذار/مارس، ويتضمن مشاركة خمسة عشر ألف جندي بولندي، بجانب خمسة آلاف جندي من الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وسلوفينيا وتركيا وألبانيا. كذلك يتضمن هذا التدريب مشاركة 3500 مركبة وآلية، بما في ذلك مائة دبابة، ويعدّ من حيث الحجم، أكبر تدريب عسكري على الجناح الشرقي لحلف شمال "الناتو" في السنوات العشر الأخيرة، وسيركز على عمليات العبور السريعة والخاطفة لنهر "فيستولا"، والقتال في المدن والمناطق الحضرية.

أما عن مناورة "كوادريجا-2024"، فتعدّ المناورة الأهم والأكثر لفتاً للانتباه، وينفذها الجيش الألماني خلال الفترة بين منتصف شهر شباط/فبراير وحتى نهاية شهر أيار/مايو، وتعدّ المناورة الأكبر التي تحتضنها الأراضي الألمانية منذ بدء العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ يشارك فيها أكثر من 12 ألف جندي، ونحو ثلاثة آلاف آلية عسكرية، و38 طائرة متنوعة، وتركز على عمليات التدريب على الانتشار السريع لقوات حلف "الناتو" من ألمانيا نحو الاتجاهات التي يحتمل أن يتم تنفيذ عمليات معادية فيها.

- ستشارك قوات حلف "الناتو" في أربعة تدريبات عسكرية أساسية تحت مظلة هذه المناورة، التدريب الأول هو تدريب "GRAND NORTH"، ويختص بالتدرب على عمليات نقل قوات الرد السريع إلى النرويج بحراً وجواً، أما التدريب الثاني فهو "GRAND CENTER"، للتدرب على نقل القوات بشكل سريع من ألمانيا نحو ليتوانيا مروراً ببولندا. التدريب الثالث يسمى "GRAND SOUTH"، ويستهدف التدريب على النشر السريع للقوات من ألمانيا نحو المجر ورومانيا، أما التدريب الرابع والأكبر في هذه السلسلة، فهو تدريب " Grand Quadriga"، وستقوم خلاله الفرقة المدرعة العاشرة في الجيش الألماني، بالتدرب على الانتشار الفوري والسريع عبر البحر في ليتوانيا.

ردود فعل روسية حذرة

اقتصرت ردود الفعل الروسية على أنباء عقد هذه المناورة – بالنظر إلى العمليات الجارية حالياً في الجبهات الشرقية والجنوبية في أوكرانيا – على ممارسة أنشطة إعلامية مكثفة تظهر هذه المناورات كمحاولة من حلف "الناتو" لاستهداف موسكو، وقد قادت هذه الجهود وزارة الخارجية الروسية، التي وصفت هذه المناورات بعد الإعلان الرسمي عنها، بأنها دليل على تحول الأنشطة التدريبية العسكرية لحلف "الناتو"، إلى منحى استفزازي وعدواني متزايد، مشيرة إلى أن روسيا اقترحت بانتظام على حلف "الناتو"، مبادرات لخفض التصعيد.

كذلك ركزت وسائل الإعلام الروسية على الربط بين هذه المناورات، وتحولات الموقف الميداني في جبهات أوكرانيا المختلفة، إذ روّجت لفكرة أن حلف "الناتو" يستعد لنتائج حالة "الانكفاء" الميداني للقوات الأوكرانية في الجبهتين الجنوبية والشرقية، وأنه يفكر في دخول المناطق الأوكرانية الغربية، للحيلولة دون "اجتياح" القوات الروسية لهذه المناطق.

جدير بالذكر أن بعض التحركات الميدانية الروسية – على مستوى الحرب الإلكترونية – لوحظت خلال الأيام الأخيرة، بشكل يمكن من خلاله الربط بين هذه التحركات وبين مناورات حلف "الناتو". فقد رصدت دول عدة في شرق أوروبا، من بينها بولندا ومنطقة جنوب البلطيق، مستويات عالية وغير مسبوقة من التشويش على ترددات نظام تحديد المواقع العالمي "GPS"، منذ أواخر العام الماضي وحتى الآن.

وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن المشتبه به الرئيسي في هذا التشويش، هو التمركزات العسكرية الروسية في إقليم "كالينغراد"، وتحديداً وحدة الاتصالات والحرب الإلكترونية "92626"، المتمركزة في منطقة "بيونرسكي"، وتتولى تشغيل مجمع الحرب الإلكترونية "TOPOL 14s277". هذه المنظومة تعدّ من آليات حماية الأقمار الصناعية الروسية من التشويش، لكن لديها أيضاً قدرات هجومية يمكن من خلالها تعطيل الإشارات اللاسلكية، وسبق وتم اتهام موسكو بأنها قامت بالتشويش على الترددات الخاصة بأقمار "ستارلينك" بواسطة هذه المنظومة، التي لا يُعرف سوى القليل جداً عن قدراتها، لكن تشير بعض التحليلات إلى أنها قادرة على تعطيل الأقمار الصناعية، عن طريق التشويش على الإرسال الصاعد إليها، بدلاً من التشويش على الإرسال المنبعث من هذه الأقمار.

عوامل أهمية مناورة "المدافع الصامد"

يعدّ النطاق الجغرافي وحجم القوة البشرية والمدرعة المشاركة في هذه المناورة والتدريبات العسكرية الملحقة بها، نقطة القوة الأساسية لها، إذ يمكن القول إن كلا الأمرين – النطاق الجغرافي وحجم القوة البشرية – هما الأكبر على الإطلاق لمناورات حلف "الناتو"، مثل آخر مناورات عسكرية واسعة النطاق تم تنفيذها أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً عام 1988، وهي مناورات "Reforger" في أوروبا الغربية، والتي شارك فيها نحو 125 ألف جندي، ومنذ ذلك التاريخ، ظلت مناورات حلف "الناتو"، مرتبطة بأعداد محدودة من القوات لا تتجاوز 20 ألف جندي، إلى أن تم تنفيذ مناورات "Trident Juncture" في النرويج عام 2018، والتي شارك فيها نحو 50 ألف جندي، علماً أنه في المرحلة التي سبقت عام 2014، اتسمت مناورات حلف "الناتو" وتحركاته العسكرية بالمحدودية والتراجع، ومن ثم بدأت في التصاعد تدريجياً في مرحلة ما بعد ضم شبه جزيرة القرم.

على المستوى التكتيكي، يبدو واضحاً أن الهدف الرئيسي من هذه المناورات هو اختبار قدرة وحدات حلف "الناتو" المتمركزة في ألمانيا، على الانتقال بشكل سريع في اتجاه شرق أوروبا، وتحديداً في اتجاه البلطيق وبولندا ورومانيا، على اعتبار أن هذا الحد يعدّ حالياً خط المواجهة الرئيسي مع روسيا، طبقاً للتغيرات الجذرية التي طرأت على الخطط الدفاعية لحلف "الناتو"، والتي تم صوغها في شكل خطط إقليمية تم إقرارها في قمة الحلف التي انعقدت في ليتوانيا منتصف العام الماضي، والتي كان جوهرها زيادة عدد القوات في الجناح الشرقي للحلف، إضافة إلى تعديل نمط التدريبات والمناورات العسكرية، ليصبح متوافقاً مع السيناريوهات الدفاعية التي تم الاتفاق عليها خلال هذه القمة.

كذلك ستسمح هذه السلسلة من التدريبات العسكرية لحلف "الناتو"، بتطبيق أول خطة دفاعية رئيسية، وهي الخطة الشاملة الخاصة بالدفاع عن أراضي الدول العضوة بالحلف، والتي تم إقرارها خلال قمة ليتوانيا، وبالتالي سيسمح تطبيق هذه الخطة باختبار مدى قدرة القوات الموجودة في ألمانيا على سرعة الانتقال إلى شرق أوروبا، وكذا قياس مدى قدرة هذه القوات على العمل بشكل متزامن وتعاوني، والانفتاح القتالي في اتجاهات مختلفة يتوقع أن تحاول روسيا تفعيل العمليات العسكرية فيها في آن واحد في حالة المواجهة مع الحلف.

كما يعدّ الوضع الميداني الحالي في أوكرانيا، من المباعث الأساسية لإقامة مثل هذه التدريبات العسكرية، فعلى الرغم من الطابع الدوري لهذه التدريبات، فإن نطاقها والأنشطة المتضمنة فيها، يشيران إلى رغبة أوروبية في طمأنة الأوساط الشعبية الأوروبية، لجاهزية الجيوش لمواجهة روسيا، خاصة وأن تراجع الموقف الحالي للقوات الأوكرانية، تسبب في إثارة مخاوف جدية في إمكانية تدهور الوضع في شرق أوروبا بشكل أكبر، وهذا تكرس بشكل أكبر خلال الأسابيع الأخيرة، مع بروز مصاعب مالية ولوجستية جدية، بشأن إدامة تزويد الدول الأوروبية الجيش الأوكراني بالأسلحة والذخائر اللازمة.

أخيراً، يمكن اعتبار هذه المناورة – في حد ذاتها – رسالة من حلف "الناتو" لموسكو، لتزامنها مع الذكرى 75 لإنشاء الحلف، ومرور ما يقرب من عامين على العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، مفادها أن حلف "الناتو" يستعد بشكل جدي لحماية حدوده، وأن النجاح في تنفيذ المهام التي تستهدفها هذه المناورة، يمكن أن يعدّ بمنزلة "رسالة ردع"، تمنع موسكو من القيام بأي تحركات عسكرية ضد أي من دول الحلف. لكن، رغم كل ما سبق، فإنه لا يمكن اعتبار هذه السلسلة من التدريبات العسكرية، بمنزلة تصعيد ميداني يمكن أن يشكل تهديداً لموسكو، التي تركز بشكل كبير على إنهاء الوجود الأوكراني في جنوب نهر الدنيبر، وتأمين الحماية الكاملة لشبه جزيرة القرم، وتطهير المناطق المتبقية خارج السيطرة في الأقاليم الخمسة التي تسيطر عليها في شرق وجنوب أوكرانيا. 

ناهيك بحقيقة أن مناورات "المدافع الصامد"، هي مناورات دورية، وأن حجم الوسائط المقاتلة المشاركة فيها، يبقى أقل من مناورات "Trident Juncture"، خاصة في ما يتعلق بالقطع البحرية والطائرات، إذ شارك في هذه المناورات 250 طائرة و65 قطعة بحرية، في حين يشارك في مناورة "المدافع الصامد 2024"، نحو 50 قطعة بحرية، و80 طائرة مقاتلة، كما أن المشاركة البشرية الأكبر في هذه المناورة – المشاركة البريطانية – تم الإعلان عنها في أكتوبر الماضي، بغرض تعزيز الوجود العسكري البريطاني في شمال أوروبا، ولا ترتبط بشكل أساسي بانعقاد هذه المناورة من عدمه.

الأكيد أن الأداء الميداني لقوات الحلف، وسرعة انتشارها في اتجاه شرق أوروبا – خاصة خلال التدريبات التي ستتم في ألمانيا – سيكون مثار اهتمام ومراقبة الجانب الروسي.