القمة الأميركية الأفريقية.. في سياق الأولويات والتنافس الدولي
قد توفر العودة الأميركية إلى القارة الأفريقية خياراً لدولها في علاقاتها مع القوى الدولية، وخاصة أن إعلان المساعدات المالية والدعوة إلى احترام الديمقراطية التي جاءت في القمة الأميركية-الأفريقية، قد تكسب اهتمام بعض الدول التي تحتاج إلى تلك المساعدات.
في الفترة من 13 إلى 16 كانون الأول/ديسمبر 2022، استضافت العاصمة الأميركية واشنطن "قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا"، شاركت فيها 50 دولة أفريقية، وممثلون مختلفون عن الاتحاد الأفريقي، واختتمها الرئيس جو بايدن بالتشديد على التزام إدارته تجاه أفريقيا، وضرورة إعادة توطيد العلاقات بدول القارة، بعد فجوة تسبّبت بها إدارة سلفه الرئيس دونالد ترامب.
وكانت القمة النسخة الثانية من "قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا" التي استضافها الرئيس الأسبق، باراك أوباما، في عام 2014. وجاءت هذه القمة الأخيرة في وقت يحدث تحوّل ملحوظ في مزاج العلاقات الأميركية-الأفريقية، إذ يصرّ القادة الأفارقة على استقلاليتهم في اتخاذ الحلفاء الدوليين، ورفض الإملاءات الغربية، ما أثّر في البيئة الدبلوماسية والاستراتيجية في القارة، وقلب المعادلة لمصلحة أطراف دولية أخرى، مثل الصين وروسيا.
وبالنظر إلى الأولويات الأفريقية وضرورة البحث عن بدائل وإتاحة الفجوة لما قد يحدث في المستقبل من تراجع العلاقات بحلفاء اليوم الجدد؛ يمكن للقادة الأفارقة استثمار القمة الأميركية في تحقيق أولوياتهم، وتعزيز دور القارة في المحافل الدولية، وتأكيد مكانتها في المشاركة في القضايا الدولية.
الأولويات الأفريقية في سياق العلاقات الدولية
تختلف التطلعات الأفريقية من دولة إلى أخرى، وتتعدد أولوياتها بحسب الاحتياجات المتشعّبة. ويمكن حصر التطلعات العامة للاتحاد الأفريقي في أهداف أجندة 2063 ومنها: تحقيق ازدهار أفريقيا على أساس تحقيق النمو الشامل والتنمية المستدامة، وتكامل القارة واتحادها سياسياً، وفق المثل العليا للوحدة الأفريقية، ورؤية النهضة الأفريقية.
وتفرض تحديات الحكم والأزمات الاقتصادية والأمنية تطلعات أخرى لشعوب القارة، متمثلةً في الفرص الاقتصادية والأمان والمساءلة السياسية وتعزيز الحوكمة الرشيدة، وتحسين الاستثمار في الصحة والتعليم والبنية التحتية.
على أن استراتيجيات تحقيق بعض الأهداف المتعلقة بأجندة 2063 تتطلب إعادة ترتيب أولويات أفريقيا في سياق العلاقات الدولية والقضايا العالمية. ويتصدر هذه الأولويات السعي وراء عضوية الاتحاد الأفريقي في "مجموعة العشرين" (G20)، التي تضم 19 دولة والاتحاد الأوروبي، وتؤدي دوراً محورياً في معالجة قضايا اقتصادية مهمة، مثل الاستقرار المالي الدولي، والتخفيف من آثار تغيّر المناخ والتنمية المستدامة، الأمر الذي يعني ضرورة وجود تمثيل لأفريقيا لكي تكون طرفاً في المحادثات الاقتصادية العالمية، والتطورات السياسية، والقضايا المناخية، والأزمات الصحية والأمنية.
ويمكن استغلال مساعي التقرّب الأميركي الجديدة من أفريقيا لتحقيق أحد المطالب الرئيسية للقارة في الأمم المتحدة؛ إذ هناك دعوات متجدّدة إلى إجراء إصلاحات في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كي تحصل القارة على مقعدين دائمين على الأقل، مع جميع امتيازات الأعضاء الدائمين الحاليين في المجلس، إذ يرى قادة دول مثل نيجيريا والسنغال وجنوب أفريقيا وغيرهم من مسؤولي "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" (ايكواس) أن التمثيل الحالي للقارة الأفريقية في مجلس الأمن غير عادل؛ نظراً إلى عدد الدول التي تضمّها القارة (54 دولة).
وتحتاج القارة إلى مقعدين دائمين لأهمية مشاركتها المحورية في التحديات العابرة للحدود، مثل الإرهاب والجريمة العابرة للحدود والفقر والأزمة الصحية، وتوفير فرص متكافئة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في عملية صنع القرار.
وهناك من الأفارقة من يرى أن القادة الأفارقة بحاجة إلى الضغط على واشنطن من أجل عضوية البلدان الأفريقية المطلة على المحيط الهندي في "منطقة الهندي-الهادئ"؛ لأن الولايات المتحدة تلعب دوراً مهماً في هذه المنطقة، والحصول على العضوية سيمنح القارة فرصة المشاركة في عملية صنع القرار في منطقة الهندي-الهادئ، التي يزداد فيها الاهتمام الدولي؛ لكونها منطقة ناشئة للنمو الاقتصادي العالمي.
أهمّ ما جاء في القمة الأميركية-الأفريقية
اختتمت "قمة زعماء الولايات المتحدة وأفريقيا" بإعلان نحو 55 مليار دولار من الالتزامات الأميركية على مدار ثلاث سنوات، بالإضافة إلى عشرات الصفقات والمبادرات التجارية في مجالات مثل التكنولوجيا والفضاء والأمن السيبراني والأمن الغذائي والبيئة، مع إشارة الرئيس الأميركي إلى احتمال زيارته دولاً أفريقية، وتحركات دبلوماسية هادئة تضمنت لقاءً بين وزير الخارجية الأميركي، أنطوني بلينكن، وزعيمي إثيوبيا والكونغو الديمقراطية لمناقشة الصراع السياسي والأمني في بلديهما، وحثّ رئيس الوزراء الإثيوبي على التنفيذ السريع لاتفاق السلام الأخير بين حكومته الفيدرالية ومقاتلي "الجبهة الشعبية لتحرير تغراي"، وتعزيز وصول مراقبي "حقوق الإنسان" الدوليين إلى مناطق الصراع.
وقد التقى وزير الخارجية الأميركي أيضاً كلاً من زعيم السنغال التي يتولى رئيسها ماكي سال رئاسة الاتحاد الأفريقي، وجواو لورينسو، رئيس أنغولا، التي تعدّ عملاق الطاقة في منطقة أفريقيا الجنوبية.
كذلك اجتمع الرئيس بايدن، بشكل خاص، مع قادة الكونغو الديمقراطية والغابون وليبيريا ومدغشقر ونيجيريا وسيراليون لمناقشة انتخاباتهم القادمة، وسلميتها باعتبارها "وقتاً حاسماً للديمقراطية على مستوى العالم".
ودعا بايدن القادة الأفارقة إلى الاستماع لمطالب شعوبهم، الذين أوكلوهم مهام القيادة وأودعوهم ثقتهم، وأعلن بعد اختتام القمة عن ملياري دولار أخرى للمساعدات الإنسانية الطارئة، إضافة إلى 11 مليار دولار لبرامج الأمن الغذائي الأخيرة. وأكّد بايدن دعم مزيد من التمثيل الأفريقي في مجموعة العشرين (G20)، ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو تطوّر جديد قد يعزز المساعي الأفريقية القادمة نحو تحقيق هذا التمثيل، وقد يحدث فرقاً في علاقة القارة بالولايات المتحدة الأميركية.
لكن، بالرغم من الوعود المالية الأميركية والدبلوماسية الهادئة، لا يزال كثير من الزعماء الأفارقة الذين شاركوا في القمة غير مقتنعين بالمبادرات الأميركية؛ إذ أشاد معظمهم بالرئيس بايدن، ولكن ثمة من شكك في إمكانية تحقيق الوعود المعلنة؛ لأنهم اعتادوا سماع الوعود الأميركية، وخصوصاً أن تنفيذ بعض تلك الوعود سيعتمد على موافقة الكونغرس الأميركي الذي يركز اهتمامه حالياً على تعافي الاقتصاد الأميركي المتوتر والأزمة في أوكرانيا.
وهناك من الزعماء الأفارقة من ليس مستعداً للتضحية بعلاقاته الاستثنائية بالصين وروسيا لمصلحة استعادة علاقة بلاده بأميركا التي أثبتت التجارب السابقة أنه "لا يمكن الوثوق بها". ويمكن إدراك بعض أسباب تراجع العلاقات الأفريقية-الغربية ممّا صرّح به القادة الأفارقة مراراً بأنهم لا يريدون أن يُجْبَروا على الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة ومعاداة منافسيها الاستراتيجيين في القارة، ولا يريدون خوض الصراعات العالمية نيابة عن طرف معين.
القمة الأميركية- الأفريقية في سياق التداعي الجديد على أفريقيا
لا شك في أنه ضمن الأسباب التي دفعت واشنطن إلى تنظيم قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا الأخيرة، تقدم العلاقات الصينية-الأفريقية والنفوذ الروسي في القارة؛ إذ في آب/أغسطس الماضي (2022) أبدت عدة دول أفريقية دعمَها لمطالبة الصين بشأن تايوان، وفي الأمم المتحدة وجدت روسيا دعماً قوياً من دول أفريقية في صراعها مع أوكرانيا.
وتنال مبادرة "الحزام والطريق" تأييداً في أفريقيا لتقاطعها مع احتياجات القارة من حيث البنى التحتية. بل وساهمت مبادرات بكين في معالجة بعض التحديات التي تواجهها القارة من الناحية التكنولوجية والتنموية، فيما تنشط روسيا في المجال العسكري.
ويؤشر تباين مواقف القادة الأفارقة حيال الإعلانات الأميركية في القمة على أن محاولة الولايات المتحدة الأميركية كسب ودّ الدول الأفريقية ستكون مهمة صعبة؛ إذ بالرغم من التأكيد الأميركي دعم التمثيل الإضافي والدائم في مجلس الأمن ومجموعة العشرين (G20) فإن هذا يعدّ إنجازاً عاماً للقارة بكاملها، ولا يفي بالاحتياجات أو التطلعات الخاصة بكل دولة أفريقية وطبيعة علاقاتها بالصين أو روسيا.
وما يلاحظ في القمة أن الولايات المتحدة الأميركية لم تتخلَّ عن الاعتبارات الأيديولوجية السياسية التي غالباً ما تصرّ عليها واشنطن كضرورة لتكوين علاقاتها بأفريقيا؛ فالغرب يرى تعاون القارة مع غيرها مثل الصين وروسيا مقايضة للفوائد الاقتصادية قصيرة الأجل على حساب إهمال المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويزعم أن الصين وروسيا تستثمران مليارات الدولارات في أفريقيا لزعزعة استقرارها، وهو موقف دفع الدول الأفريقية بمعظمها إلى الصين التي تفوّقت منذ عام 2009 على الولايات المتحدة الأميركية كأكبر شريك تجاري لأفريقيا، إذ بلغت التجارة الثنائية 254 مليار دولار في عام 2021.
وأخيراً؛ قد توفر العودة الأميركية خياراً للدول الأفريقية في علاقاتها وتعاونها مع القوى الدولية، وخاصة أن إعلان "المساعدات" المالية والدعوة إلى احترام الديمقراطية وغيرها مما جاء في القمة قد تكسب اهتمام بعض الدول التي تحتاج إلى تلك "المساعدات"؛ للتخفيف من حدة أزمات إنسانية طارئة. ومع ذلك، لا تضمن تلك الإعلانات لواشنطن إمكانية استعادة الثقة التي فقدتها في القارة، ولا يمكن اعتبارها بدائل قادرة على مجاراة المبادرات والبرامج الصينية في القارة.