الفوضى الليبية: جريمة "الناتو" الماثلة بحق العرب والعالم
بعد سقوط القذافي في ليبيا، أصبحت الظروف مواتية لنمو اقتصاد أسود، قائم على سرقة الموارد والأنشطة غير المشروعة ومنها تهريب البشر، وبالتالي تحولت ليبيا إلى بوابة رئيسية إلى جنوب أوروبا لأولئك الفارين من أوضاع النزاع والفقر في المنطقة.
حتى بعض وسائل الإعلام العربية لم يعد يجد غضاضة في إسقاط الأخبار المتعلقة بـ"ليبيا" من نشراته اليومية، فالانطباع السائد اليوم هو أننا بصدد بلد عربي جديد دخل نفقاً مظلماً من الفشل والتمزق وحُكم العصابات، وأن الأحداث على كثرتها لا تعبّر عن حِراك إيجابي أو مخاض سياسي، بل تكشف عن حالة أقرب إلى الفوضى التي تجلب الغثيان والإرهاق عند التدقيق فيها، وتصيب متابعها بالإحباط عند التفكير في مستقبل دولة غنية كانت تستضيف العمالة من شرق العالم العربي وغربه، ثم ما لبثت أن انهارت في غفلة من الزمن بفعل صواريخ حلف شمال الأطلسي.
ولم تكن فرقعات الصواريخ الأوروبية وحدها هي المسموعة في ربيع 2011 داخل ليبيا، بل صاحبها كثير من التهليل والصياح و"التكبيرات" من حركات سلفية جهادية زعمت الثوريّة، وادّعت زوراً بأنها تحمل غداً أفضل لبلدٍ يملك الكثير من النفط والعدد القليل من السكان، ويحتل المركز الرابع عربياً من حيث المساحة، فإذا بغدٍ يُجبر المواطنين على النزوح أو الهجرة بعد أن ذاقوا مرارة فقدان الأمان.
بين عامي 2020 و2021، على سبيل المثال، اجتمع على الليبيين النزاع المسلح ووباء كورونا في ظل غياب المرافق الصحية اللازمة، تخطى عدد النازحين داخل البلاد حاجز الـ 278 ألفاً، بالإضافة إلى أكثر من 44 ألف طلب لجوء إلى دول أجنبية، وذلك بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. علماً بأن عام 2019 شهد أعداداً أكبر من النازحين وطالبي اللجوء.
بعيداً عن الليبيين أنفسهم، هناك المهاجرون إلى ليبيا، حيث تقدر المنظمة الدولية للهجرة أعدادهم بين 700 ألف إلى مليون مهاجر، وهؤلاء قصدوا ليبيا الغنية بالنفط بحثاً عن وضع معيشي أفضل عبر العمل في مجالات البناء والزراعة وقطاع الخدمات، ومعظمهم يأتون من دول أفريقيا جنوب الصحراء وعلى رأسها النيجر، إلا أنهم، وبسبب الأوضاع الأمنية المتردية، يتعرضون للاستغلال والحجز التعسفي، وأحياناً يتورطون في الأعمال القتالية سواء مجبرين أو رغبة في عائد مادي أكبر من العائد الذي يوفره العمل التقليدي.
وقد انتشرت، منذ نحو 4 أعوام، صور مفزعة لمهاجرين لا يحملون أذون إقامة، يباعون في مناطق مخصصة داخل ليبيا كما لو أنهم محض سلع، وقد تسبب الأمر في حالة جدل عالمي واسع صاحبتها تعهدات دولية باتخاذ إجراءات لحماية اللاجئين والمهاجرين من التعرض للإساءة أو ظروف العمل القاسية، إلا أن شيئاً لم يتحقق من تلك التعهدات، والسبب ببساطة أن الدولة في ليبيا قد سقطت والمؤسسات قد تهشمت وما زال الجميع عاجزاً عن إعادة ترميم الأمور وبناء الدولة من جديد.
نبوءات القذافي
في أغسطس عام 2010، وفي أُثناء زيارة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي إلى إيطاليا، بمناسبة الذكرى الثانية لتوقيع معاهدة الصداقة بين البلدين، حذر من أن "أوروبا قد تتحول إلى أفريقيا" ما لم يقم الاتحاد الأوروبي بمزيد من الجهد في هذا السياق، وبدفع الأموال اللازمة لإغلاق ساحل ليبيا المتوسطي، ومكافحة الهجرة غير الشرعية، وقال: "الهجرة تأتي من كل أفريقيا، لكن عبر ليبيا، وتنتقل إلى كل أوروبا ولكن عبر إيطاليا...".
بعد سقوط القذافي وانتشار الفوضى، أصبحت الظروف مواتية لنمو اقتصاد أسود، قائم على سرقة الموارد والأنشطة غير المشروعة كتهريب النفط والأسلحة والبشر. وبالتالي، صدقت تحذيرات القذافي، وتحولت ليبيا إلى بوابة رئيسية إلى جنوب أوروبا لأولئك الفارين من أوضاع النزاع والفقر في المنطقة، وأصبحت أوروبا متورطة في تسديد ضريبة الآثار السلبية الناجمة عن جرائم "الناتو" عام 2011.
ليبيا.. والخلل الأمني العربي
على صعيد الأمن القومي العربي، تحولت ليبيا من دولة توفر فرص العمل لأبناء الأقطار العربية غير النفطية، إلى بؤرة توتر وتهديد لمحيطها، وذلك بسبب انتشار الحركات ذات الأيديولوجيات الدينية المتطرفة بداخلها، والتي اشتبكت في العمليات المسلحة التي وقعت ضد الحكومات والمؤسسات العسكرية، سواء في مصر أو سوريا أو تونس، وحدث الأمر بشكل مباشر وغير مباشر عبر توفير الدعم اللوجتسي للحركات الإرهابية داخل تلك الأقطار.
وقد دفعت الأوضاع الأمنية المتردية داخل ليبيا القادة العرب إلى عقد العديد من اللقاءات والقمم، التي لم تنجح في صناعة تأثير واسع، كما أن الوطنيين الليبيين لم يغفروا للجامعة العربية تورطها في جلب حلف شمال الأطلسي لتحطيم بلادهم، غير أن دولة جارة لليبيا مثل مصر، ثبت لديها أن تفاقم العمليات الإرهابية داخلياً ما بعد عام 2013، وثيق الصلة بالوضع الإقليمي، وفي المقدمة ليبيا.
الأمر الذي دفع الحكومة المصرية إلى الاشتباك الصريح في هذا المجال بالتحالف مع الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر؛ سعياً لدفع "المجموعات الإسلامية" بعيداً عن مناطق شرق ليبيا، وبالتالي تأمين الحدود الغربية لمصر.
كما تحقق تعاون ملموس بين المؤسسات الحاكمة في شرق ليبيا والدولة السورية برعاية إماراتية، تمثل بإعادة افتتاح السفارة الليبية في دمشق، والتوقيع على مذكرات تفاهم بين مسؤولي البلدين خلال عام 2020، وقد تأسس التعاون على قاعدة الخصومة مع تركيا التي كانت تدعم الحكومة في غرب ليبيا آنذاك، ومتماشياً مع مساعي الحكومة السورية لإخراج البلاد من عزلتها واستعادة الدعم العربي.
الوضع في صيف 2022: النزاع مستمر
لا يختلف الوضع في ليبيا خلال العام الجاري عن الوضع طوال العقد الماضي، فالانتخابات الرئاسية التي كان يتم النظر إليها باعتبارها بارقة أمل قادرة على إعادة توحيد الليبيين واستعادة شكل الدولة الحديثة، تأجلت إلى تاريخ غير مسمى، بعد أن كانت مقررة نهاية العام الماضي 2021.
أما على صعيد الحكومة، فلا يزال النزاع قائماً بين المناطق الشرقية والغربية، إذ يقود وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا الحكومة في شرقي البلاد، مستنداً إلى شرعية البرلمان المنعقد في طبرق، والذي كلفه بالمهمة في فبراير/شباط الماضي، بينما ينافسه على حكم البلاد عبد الحميد الدبيبة الذي يحظى بدعم الأمم المتحدة، ويقود حكومة في غرب البلاد منذ آذار/مارس 2021، تهيمن على العاصمة طرابلس وترفض تسليم السلطة رغم انتهاء ولايتها.
حالة النزاع القائمة منذ سنوات بين الشرق والغرب، تهدد بتعمق حالة الانقسام، وسط مخاوف بتطور الأمور إلى حدوث تفتت فعلي للبلاد، يُحطم أي فرص مستقبلية لاستعادة الشكل المعهود للدولة الليبية الحديثة، وقد سعى القائد العسكري خليفة حفتر ورجاله في المناطق الشرقية إلى التقدم صوب طرابلس ومناطق غرب ليبيا خلال عام 2019 وحتى ربيع عام 2020، فيما عرف بـ "حملة غرب ليبيا أو طوفان الكرامة" مستنداً إلى دعم العديد من الدول من بينها روسيا ومصر والإمارات، إلا أن الحملة العسكرية ووجهت برفض من جانب الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوربية، كما تدخلت حكومة "العدالة والتنمية" التركية لتقديم الدعم العسكري المباشر للمجموعات التي تسيطر على مناطق غرب ليبيا والقريبة منها أيديولوجياً.
وضع مماثل تعيشه ليبيا الآن مع مساعي باشاغا للسيطرة على طرابلس، وعزل منافسه الدبيبة عن مناطق نفوذه عملياً في غرب البلاد، ثم توحيد ليبيا تحت قيادته وقيادة غريم الأمس وحليف اليوم، خليفة حفتر، ومعهما رئيس البرلمان عقيلة صالح. إلا أن مساعي باشاغا تصطدم مجدداً بنشاط الميليشيات الرافضة له، الأمر الذي دفعه بالفعل إلى مغادرة طرابلس بعد أن دخلها في أيار/ مايو الماضي، ناهيك بموقف الأمم المتحدة المريب الداعم لـلدبيبة.
آمال ليبية وعربية مُعلّقة
يأمل الليبيون في استعادة الأمن مرة أخرى، والحدّ من عملية هدر الثروات المستمرة، وأن تستطيع بلادهم من جديد بناء المؤسسات القادرة على تسيير الحياة اليومية، وأن ينتهي نشاط الميليشيات التي لم يتوقف عملها على إرهاب المواطنين، بل امتد إلى المشاركة في عمليات النهب والسرقة والابتزاز. وبحسب وسائل الإعلام الليبية، فإن المواطن لم تعد تعنيه العملية السياسية ومخرجاتها بقدر ما يهتم بانعكاسات هذه العملية على حياته اليومية، والتي يريد لها أن تتحسن بأن تقارب الوضع قبل عام 2011، كحد أدنى.
عربياً، لا مفر من الاعتراف بأن ثمة شرخاً كبيراً في المسألة الليبية نتيجة غياب الدور العربي الداعم لاستقرار ليبيا وأمنها، عوضاً عن ذلك، تحولت ليبيا في بعض المراحل، ما بعد القذافي، إلى حلبة لتصفية الصراع بين المحاور العربية المتنافسة (القطري) في مواجهة (الإماراتي) على سبيل المثال، وحتى الدور المصري فقد جاء خجولاً، واكتفى بتأمين حدود البلاد الغربية، نائياً بنفسه عن التورط في المزيد من الصراعات، ناهيك بغياب التنسيق الكافي بين القاهرة والجزائر.
حصيلة كل ما سبق أن الوضع في ليبيا ربما يكون غير مرشح للاستقرار في القريب العاجل، خاصة مع اشتعال بؤر الصراع والتوتر حول العالم من تايوان إلى أوكرانيا، واستنفار سائر الأقطاب العالمية، وحشد كل طرف أقصى أدواته العسكرية والدبلوماسية.