الصين.. تحديات خارجية واستحقاقات داخلية

سيشهد هذا العام انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني وفيه سيحدد من هو الرئيس القادم للبلاد.

  • الأمم لا تهزم إلا حينما تتحقق ثنائية الداخل والخارج: داخل متآمر.. وخارج متربص.
    الأمم لا تهزم إلا حينما تتحقق ثنائية الداخل والخارج: داخل متآمر.. وخارج متربص.

كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد الحرب في أوكرانيا، عن الصين وسعيها لاستعادة تايوان، على الرغم من الاختلاف الشديد بين القضيتين ربما، وعلى الرغم من أن قضية تايوان وإن كانت من أولويات الحكومة الصينية، فهي ليست الأولوية الأولى من وجهة نظري لاعتبارات داخلية وخارجية سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال.

الأولوية للداخل

ركزت الحكومة الصينية، خلال العقود الماضية، على أهمية تقوية جبهتها الداخلية، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وانكفأت خارجياً متبعة سياسة محايدة إلى حد ما، متجنبةً الخوض في المشكلات الدولية أياً كانت، واضعة الهدف الاقتصادي نصب عينيها وساعية إلى تحقيقه، مبتعدة عن أي سبب قد يعرقل وصولها إلى تحقيق هذا الهدف. 

ولأن الصين لم تكن تشكل خطراً حقيقياً حينها فقد تُركت وشأنها، وذلك نتيجة لمصالح اقتصادية كبيرة للدول الغربية التي دخلت إلى السوق الصينية مستفيدة من اليد العاملة الرخيصة فيها، وكبر حجم هذه السوق والذي يعدّ هدفاً لأي دولة أو شركة في العالم، فالصين بلد يشكل عدد سكانه خمس عدد سكان العالم تقريباً.

الحكومة الصينية، من وجهة نظري، استفادت من الدرس التاريخي المتمثل بإقامة سور الصين العظيم الذي بني ليحميها من العدو الخارجي، لكن هذا السور ورغم عظمته لم يستطع فعل ذلك حين وجد متآمر من الداخل، من هنا فتحصين جبهتها الداخلية هو الأساس لمواجهة العدو الخارجي وهزيمته، فالأمم لا تهزم إلا حينما تتحقق ثنائية الداخل والخارج: داخل متآمر.. وخارج متربص.

من هذه الزاوية سعى الحزب الشيوعي الصيني إلى تعبئة الجماهير وتوعيتها، لتكون يداً واحدة لبناء الصين العظيمة التي وعدهم بتحقيقها، عبر رؤية علمية دقيقة وخطط رسمت بدقة وجرى العمل على تنفيذها وفقاً لما رسم، مستخدمين سياسة الثواب والعقاب، فالمحاسبة لمن قصر والمكافأة لمن عمل وتفانى. فأخفق أحياناً، ونجح في أحيان كثيرة. وإذا كانت العبرة في النتائج كما نقول دوماً، فإن ما وصلت إليه الصين اليوم خير دليل على نجاح الحزب الشيوعي الصيني في نقل الصين من دولة يأكل سكانها أي شي، نتيجة للفقر الشديد المدقع (كانوا في الصين يأكلون كل ما يسير على الأرض... عدا السيارة، وكل ما يطير في السماء... عدا الطائرة)، إلى دولة تنافس للتربع على عرش العالم.

تلك النجاحات الكبيرة، لم تجعل الحزب الشيوعي الصيني بمنأى عن الانتقادات التي وجهت إليه، وخاصة من قبل الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، وهنا نتفهم وجهة النظر الأميركية التي وبلا شك تشعر بالقلق من حزب استطاع أن ينافسها ويهدد بقاءها قطباً مهيمناً على السياسة الدولية، فبدأت الانتقادات الأميركية توجه إلى الصين، كما أي دولة أخرى في العالم، لجهة عدم تطبيق الديمقراطية وعدم احترام حقوق الإنسان، ...إلخ. 

الديمقراطية الأميركية ليست النموذج الأفضل

وهنا، لا بد من التساؤل: ما الذي يجعل الديمقراطية الأميركية هي "النموذج" الذي يجب على دول العالم الالتزام به وتحقيقه؟ وهل فعلاً هي ديمقراطية حقيقية أم مجرد ذريعة تستخدم ضد الدول التي لا تلتزم بالأجندة الأميركية؟ وكيف نفسر وجود حلفاء للولايات المتحدة من خارج حلف الناتو؟ وهي دول أبعد ما تكون عن الديمقراطية!! وهل الديمقراطية هي الطريق الوحيد لتحقيق الرفاه والازدهار كما واظبت الدول الغربية على قول ذلك؟ وكيف حققت دول "لا ديمقراطية" من وجهة النظر الأميركية، الرفاه والازدهار والتقدم؟

المشكلة تكمن، من وجهة نظري، في أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، يريدوننا أن نبدأ من حيث انتهوا هم، متناسين أن "الديمقراطية" التي وصلوا إليها كانت ثمرة للتطور والتقدم الذي حققوه، فالديمقراطية كانت نتيجة وليست سبباً للتقدم. كما أن الديمقراطية هي منتج حضاري، وبالتالي، فمن الطبيعي أن تختلف من شعب إلى آخر، ومن ثقافة إلى أخرى، فما يرونه ديمقراطية وتقدماً ربما نراه تحللاً وانحطاطاً، وهذا مرتبط بمعتقداتنا وثقافتنا. وإذا كان الهدف من الديمقراطية هو التطور والتقدم والرفاه للشعوب، فالصين من هذه الزاوية يجب أن تكون الدولة الأكثر ديمقراطية في العالم. أما فكرة تداول السلطة كمعيار للديمقراطية، فهي بلا شك فكرة ارتبطت بشكل الدولة الحديثة، وهي فكرة غربية، أما في الثقافة الإسلامية فلم يكن هناك أي تداول للسلطة في نظام الخلافة الإسلامية الذي ساد لقرون خلت، وكذلك في الحضارة الصينية التي عرفت النظام الإمبراطوري، الذي خلد الإمبراطور ورفعه إلى مرتبة عالية، فالصين تؤمن بإله واحد، وشمس واحدة، وسماء واحدة وإمبراطور واحد. 

الاستحقاقات الداخلية

تدرك القيادة الصينية وجود استحقاقات داخلية يجب العمل على تحقيقها تلبية لمتطلبات الشعب الصيني الذي آمن بها وبقيادتها، وعمل على تنفيذ خططها وتوجهاتها.

فعلى الصعيد الاقتصادي: ورغم النجاح الحقيقي الذي حققته الصين، هناك تحديات كبيرة خلفتها تبعات انتشار فيروس كوفيد 19 في الصين، وما تبعه من ركود اقتصادي نتيجة لسياسات الإغلاق والتشدد في تطبيق سياسة "صفر كوفيد"، هذه السياسة التي تبدو من الناحية النظرية مستحيلة التطبيق في بلد يبلغ عدد سكانه نحو مليار ونصف مليار نسمة، لكنها ومن الناحية العلمية هي السياسة الواجبة التنفيذ بالنسبة إلى بلد يبلغ متوسط الأعمار فيه 78 عاماً. هذه السياسة (صفر كوفيد) الواجبة التنفيذ، جعلت الصين الدولة الوحيدة في العالم التي لا تزال تطبق سياسات الإغلاق الخارجي، والعزل الداخلي لأي منطقة تظهر فيها إصابة، ما يرتب مزيداً من الإنفاق على القطاع الصحي، ومزيداً من الخسائر للقطاع الصناعي والإنتاجي. ولأن الاقتصاد الصيني اقتصاد فضي ( يدير هذا النوع من الاقتصاد كبار السن، ويركز على تلبية احتياجاتهم)، فقد توجب على الحكومة أن تخصص نفقات كبيرة لرعاية المسنين، إذ كشفت الخطة الخمسية الـ 14 للخدمات العامة (2021 - 2025)، أن إجمالي عدد الأسرّة في مراكز رعاية المسنين سيصل إلى 10 مليون سرير بحلول عام 2025. وأنه في العام 2025، ستكون جميع المناطق الحضرية والمجتمعات السكنية المبنية حديثاً مجهزة بمرافق داعمة للمسنين، فيما سيغطي التأمين الأساسي ضد الشيخوخة 95 % من الإجمالي، وفقاً للخطة.

أما على الصعيد السياسي: فالصين تواجه تحديات كثيرة ومخاطر تستهدف وجودها وقوتها، هذه التحديات معلنة وليست خافية على أحد، فالولايات المتحدة وخلال إداراتها الثلاث السابقة والحالية، اعتبرت الصين هي العدو الأول لها، والذي يجب العمل على احتوائه وإضعافه، أو إيقاف تقدمه على أقل تقدير، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف وضعت الخطط وصيغت الاستراتيجيات، لكن الصين ما زالت تنجح في الإفلات من الشباك المعادية، مستفيدة من هدوئها وحنكتها السياسية، مستخدمة وسائل قوتها الناعمة وبخاصة الاقتصاد القوي، و"النموذج الاقتصادي الصيني الناجح" الذي نال إعجاب العديد من دول العالم التي رأت في "المعجزة الصينية" نموذجاً يمكن العمل على تحقيقه، إذا ما توافرت الإرادة السياسية الحقيقية، والقيادة الناجحة القادرة على بلورة تلك الإرادة ونقلها إلى حيز الواقع. وبالتالي: سيكون الشعب منفذاً لتلك السياسات بعد أن آمن بقيادته ووثق بها فكانت له النموذج والقدوة. وكذلك نجحت بكين في التوظيف الأمثل لقوتها الذكية (التي تجمع بين القوتين الصلبة والناعمة)، في حين لا يزال أعداؤها سجناء لقوتهم الصلبة، وسيطرة ثقافة "الكاو بوي".

واليوم، تسعى الولايات المتحدة إلى زعزعة البيئة الإقليمية المحيطة ببكين، بعد أن فشلت في استهداف الصين من الداخل (عبر دعوات استهداف المسلمين، وغياب الديمقراطية، ....إلخ)، فكانت زيارة الرئيس جو بايدن الأخيرة هي الأقسى والأكثر تهديداً لبكين، إذ يسعى بايدن إلى تطويق الصين عبر خطوات، أهمها:

- تفعيل تحالف كواد: أو ما يسمى بالحوار الأمني الرباعي، والذي يضم كلاً من: (الولايات المتحدة- أستراليا- اليابان- الهند)، هذا التحالف الذي كان قد تشكل في العام 2004، لكنه توقف في العام 2008 نتيجة لضغوط اقتصادية صينية مكثفة على الدول الأربع الداخلة في تشكيله، وأعيد إحياؤه في العام 2017 وسط مخاوف متجددة بشأن الصعود السريع للصين كقوة عظمى عالمية. ومنذ ذلك التاريخ، أصبح التحالف أكثر نشاطاً، وعقد رؤساء الدول الأربع اجتماعاً افتراضياً في آذار/مارس 2021، ثم عقدوا اجتماعاً شخصياً للمرة الأولى في أيلول/سبتمبر من العام نفسه. ولعل الهند هي بيضة القبان في هذا التحالف، فنيودلهي لا تزال تتخذ موقفاً مختلفاً، إلى حد ما، عن الموقف الأميركي من الحرب في أوكرانيا، كما أنها لا تريد الدخول في عداوة معلنة مع الصين. 

- اتفاقية أوكوس: وهي اتفاقية أمنية ثلاثية، تضم كلاً من: (الولايات المتحدة- أستراليا- بريطانيا)، تضمنت هذه الاتفاقية تزويد أستراليا بعدد من الغواصات النووية، مقابل دخولها في تحالف أمني مع كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، هذه الصفقة جعلت من أستراليا دولة نووية عبر امتلاكها هذا النوع من الغواصات. الهدف الأميركي المعلن من هاتين الاتفاقيتين هو احتواء الصين، وجعل منطقتي المحيط الهندي والهادئ منطقة مفتوحة.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى الخطوات العملية التي قامت بها بكين لإفشال هاتين الاتفاقيتين، فلم تكتف بكين بالإدانة والشجب، بل أقدمت على خطوات عملية تمنع تطويق بكين في المستقبل، فقامت بـ:

- التوقيع على اتفاقية أمنية مع جزر سليمان: هذه الاتفاقية ستسمح لبكين بانتشار أمني وعسكري صيني في الجزيرة. كما تضمنت مقترحاً بأنه: «يمكن للصين، وفقاً لحاجاتها وبموافقة جزر سليمان، إجراء مناورات وكذلك زيارات للسفن والقيام بعمليات تموين لوجستية والتوقف والعبور في جزر سليمان». وتسمح أيضاً للشرطة الصينية المسلحة بالانتشار بناء على طلب من جزر سليمان لإرساء «النظام الاجتماعي». وسيُسمح لـ«قوات الصين» بحماية «سلامة الأفراد الصينيين» و«مشروعات كبرى في جزر سليمان». ومن دون الموافقة الخطية للطرف الآخر لا يمكن لأي منهما الكشف عن المهمات والإجراءات والاتفاقات الموقعة. 

- الاتفاقية بين الصين وكيريباتي: كيريباتي جمهورية استقلت عن المملكة المتحدة في العام 1979. وهي عضو في الكومنويلث وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وأصبحت عضواً كامل العضوية في الأمم المتحدة في عام 1999. كيريباتي وغيرها من الدول الصغيرة باتت تحتل عناوين كبيرة لأنها باتت جزءاً من الصراع الدولي الضخم في منطقة المحيط الهادئ. وبالتزامن مع زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى منطقة آسيا، فقد سعت بكين إلى توسيع تعاونها مع عدد من الجزر الاستراتيجية في منطقتي المحيط الهندي والهادئ، فكان الاتفاق الذي وقع مؤخراً مع جمهورية كيريباتي، استكمالاً للاتفاقات التي تسعى بكين إلى تنفيذها، والتي بدأت بالاتفاقية التي وقعت سابقاً مع جزر سليمان. 

وفي السنوات الأخيرة، شهدت القوة العسكرية الصينية تطوراً ملحوظاً وخاصة في مجالي القوات البحرية والجوية، وهو ما جعلها تسعى إلى بناء قاعدة بحرية لها في كيريباتي بالقرب من أستراليا، الحليف الأقرب للولايات المتحدة. وتحديث مطار في جزيرة فانواتو التي كانت قاعدة عسكرية أميركية في الحرب العالمية الثانية، كما ستعمل بكين على بناء مهبط لطائراتها في جزيرة كانتون، كما استطاعت بكين جعل كيريباتي تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان في العام 2019. وبالتالي، استطاعت بكين من خلال هذه الاتفاقيات تقليل عدد الدول التي تعترف بتايوان، وهو نجاح له أهمية كبيرة من وجهة نظرها.

أما على صعيد السياسة الداخلية: فسيشهد هذا العام انعقاد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وهو اجتماع يعقد كل 5 سنوات، وفيه سيحدد من هو الرئيس القادم للبلاد، على الرغم من أن أكثر التوقعات تشير إلى بقاء الرئيس شي رئيساً بعد أن سمح التعديل الأخير للدستور الذي جرى في العام 2018 بذلك، ونتيجة للشعبية الكبيرة التي يحظى بها في الصين، بعد نجاحه في عملية مكافحة الفساد والكسب غير المشروع والتي بدأها منذ وصوله إلى السلطة في العام 2012، حيث فرضت عقوبات على أكثر من مليون ونصف مليون مدير تنفيذي كجزء من حملة واسعة لمكافحة الفساد، وفقاً لأرقام رسمية. وفي الآونة الأخيرة، استهدفت الحملة القطاع الخاص بشكل أكبر، تطبيقاً لسياسة "قطع الصلة بين السلطة ورأس المال"، حيث جرى التركيز على الشركات الكبرى التي يكون أصحابها من "الأمراء الحمر"، وهم ورثة مؤسسي النظام الشيوعي الذين جمعوا ثرواتهم بفضل الإصلاحات الاقتصادية، ويملكون حصصاً في العديد من الشركات. لذا، فإن الرئيس شي يسعى إلى تصحيح المسار والعودة إلى تطبيق "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، بعد أن أدى النمو السريع الذي شهدته الصين في العقود الأربعة الماضية إلى تفاقم التفاوتات، فبحسب بيانات رسمية نشرت عام 2021، فإن متوسط عائدات أغنى 20 % من الصينيين، أعلى ب10 مرات من أفقر 20 % منهم. ولتصحيح ذلك، أطلقت الحكومة الصينية حملة "الازدهار المشترك" التي تهدف إلى معالجة هذا الانقسام. ويبقى النجاح في تطبيق سياسة "صفر كوفيد" هو الشعار الأهم للحملة الانتخابية للرئيس شي.

وختاماً، ونتيجة للاعتبارات السابقة، فإن بكين منشغلة في تحقيق أولوياتها التي صاغتها بعناية، والتي لا تريد لأي عارض خارجي أن يجبرها على إعادة ترتيب تلك الأولويات، ويبقى العامل الداخلي هو الأهم لبلد اعتاد على الاعتماد على نفسه، والانغلاق على الذات، إذا استدعت الضرورة ذلك.