البوليفاريون الجدد.. رصيد للقضايا العربية (1-2)
خبراء السياسة الخارجية والاستخبارات الأميركية في شؤون الحديقة الخلفية اطمأنوا –نسبياً– إلى قوة ونفوذ وهيمنة الأحزاب اليمينية فيها، برغم فضائح الفساد وحالات التدهور والانهيار الاقتصادي التي حدثت في بعض بلدان القارة.
إذا جاز للمحلل السياسي أو المؤرخ أن يصف قارة أميركا وسكانها بنعت من النعوت، فإن أصدقها سيكون بلا أدنى تردد هو أنها "القارة الفوارة"، فقد كانت هذه القارة على موعد مع القدر منذ أن اكتشف البحار والمغامر البرتغالي كريستوفر كولومبس هذه المساحات المترامية الأطراف منذ أواخر القرن الخامس عشر.
منذ ذلك اليوم، لم تهدأ القارة، ولم ينعم سكانها بالاستقرار. في شمالها، جرت أكبر عمليات إبادة جماعية لجنس بشري (الهنود الحمر) على يد المهاجرين البيض الذين طُردوا من بلدانهم في أوروبا أو هاجروا منها تحت معاول الاضطهاد الديني أو الاجتماعي، فإذا بهم يتحولون إلى وحوش كاسرة في هذه الأرض الجديدة التي أطلقوا عليها -تيمناً بالعهد القديم- "أرض الميعاد الجديدة" فقتلوا وأبادوا واستعمروا أراضي أهلها الأصليين، وزاد على ذلك أنهم -في مرحلة لاحقة- استقدموا من أفريقيا الغربية "العبيد السود" ليحلوا بهم محل السكان الأصليين، وينشئوا بذلك وطناً قائماً على العبودية والقتل.
أما جنوب القارة (أميركا اللاتينية)، فقد شهدت مبكراً صراعاً ضارياً ضد قوات الاستعمار الإسباني والبرتغالي –ذات الطابع الاستيطاني غير الإحلالي- منذ مطلع القرن السابع عشر تحت قيادة ضابط شاب هو سيمون دي بوليفار، فحرر معظم أرجاء القارة، وإن لم يفلح في توحيدها في دولة واحدة تحت قيادته، فتوزعت دولاً وحكومات هزيلة، احتاجت دائماً إلى مدد العون من "اليانكي" الشمالي، سواء أكان من حكومة الولايات المتحدة الأميركية أم من شركاتها العملاقة.
ومنذ ذلك التاريخ، لم تهدأ شعوب القارة من أجل التحرر: من قبضة "اليانكي" تارة أو من أعوانه المحليين المكوِنين لحكومات فاسدة ومرتشية وعديمة الكفاءة تارة أخرى.
وقد برزت في هذا الإطار التاريخي حركاتٌ ثورية عديدة وقادة مرموقون شكلوا عبر الزمن جزءاً من ضمير ووجدان عشرات الملايين من الفقراء والمضطهدين في هذه القارة، من أمثال خوسيه مارتي ولولا زاباتا وفورباندو مارتي ووتوباك أمارو وساندينو وسلفادور الليندي وتشي جيفارا وفيديل كاسترو وراؤول كاسترو وغيرهم.
والآن، تستلهم شعوب القارة من تاريخها النضالي الطويل زاداً لمرحلة جديدة من الكفاح والتحول الثوري العميق مع هوغو شافيز وخليفته نيكولاس مادورو في فنزويلا، وإيفو موراليس وخليفته لويس آرسي في بوليفيا، ولولا دي سيلفا في البرازيل، وغوستاف بيترو في كولومبيا، وغابريل بوريك في تشيلي، وغيرهم من ذوي الميول اليسارية.
ويتميز الصراع الجاري حالياً داخل القارة بسمات نوعية جديدة مقطوعة الصلة –ولو شكلياً– بالصراع الأيديولوجي الذي كان سائداً أثناء فترة الحرب الباردة بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي (1945 -1989).
وقد أصبحت التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تجري الآن في قلب الحديقة الخلفية للولايات المتحدة، بما يؤهلها لأن تكون بمنزلة حائط الصد الأول أمام الاكتساح الأميركي لكل الحدود السياسية والقواعد الاقتصادية السيادية للدول تحت ستار العولمة globalization وشعار الحرب ضد الإرهاب war against terrorism.
ملامح تحولات القارة
تميزت الصراعات الاجتماعية والسياسية في أميركا اللاتينية طوال القرن العشرين بسمات معينة رتبت نمطاً من الاستقطاب الداخلي والدولي، وأدى عنصر الأيديولوجيا دوراً هائلاً في تلك القارة.
من جهة، برزت قوى اليسار الماركسي التي اتخذت في بعض المراحل من مفاهيم الحرب الثورية ومنهج حرب العصابات أساساً من أجل إجراء تغيرات في الأنساق السياسية والاجتماعية السائدة، والتي هيمنت عليها لعقود طويلة ماضية 3 قوى أساسية هي:
- قوى اليمين الرأسمالي والكمبرادوري المتحالف مع المصالح الأميركية.
- الشركات الأميركية والمتعددة الجنسيات.
- قيادات المؤسسة العسكرية المحلية.
- وأضيف إليها في بعض الدول –مثل كولومبيا والبيرو والمكسيك– عصابات الجرائم المنظمة وتجار وزارعي المخدرات بأنواعها.
وباستثناء حالة كوبا (التي نجحت فيها الثورة المسلحة مبكراً بقيادة فيديل كاسترو وتشي جيفارا ورفاقهما عام 1959 - في تغيير نظام الحكم الديكتاتوري لباتستا، ومن ثم إجراء تحولات اجتماعية وسياسية عميقة في هذا البلد)، تعثرت جل حركات الثورات المسلحة في القارة، حتى جبهة "السندينستا" التي نجحت في مطلع الثمانينات في إطاحة حكم المستبد ساموزا لم تتمكن من الاستمرار في الحكم وتنفيذ برنامجها الاجتماعي والسياسي بسبب ظروف التدهور في الموقف السوفياتي في الحرب الباردة في بداية عهد غورباتشوف، وإن كانت قد عادت إلى الحكم من خلال صناديق الانتخابات عام 2012.
وقد انعكس مناخ الحرب الباردة بين الكتلتين المتصارعتين: الشيوعية الشرقية والرأسمالية الغربية على طبيعة الصراع الاجتماعي والسياسي داخل القارة الأميركية اللاتينية، فأصبح أحد مفاتيح النصر أو الهزيمة لكل من الاتحاد السوفياتي وحلفائه من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى.
وقد مثلت وجسدت حالة الانقلاب العسكري الدموي الذي حدث تحت قيادة الجنرال أوجستو بينوشيه في تشيلي في أيلول/سبتمبر 1973 ضد الرئيس الاشتراكي المنتخب توا سلفادور الليندي -وبدعم ومساندة واضحين من جهاز الاستخبارات المركزية الأميركية CIA، وبتمويل من شركة AT& T الأميركية العملاقة، علامة فارقة في تاريخ القارة من ناحية، ورسخت حالة من العداء الممهور بالدم بين الولايات المتحدة والطبقات الفقيرة من الفلاحين والعمال والبرجوازية الصغيرة بالمدن من جهة أخرى.
والآن، علينا أن نتساءل: ما العوامل التي أدت دوراً فاعلاً في المشهد السياسي الراهن في القارة اللاتينية، وأحدثت تلك التحولات أو على الأقل ساهمت في تهيئة المناخ السياسي لحدوثها وعودة اليسار اللاتيني في معظم دول القارة بمثل هذا الزخم؟
في الحقيقة، هناك عدة عناصر نستطيع أن نشير إليها على النحو التالي:
أولاً: العوامل الاقتصادية
عبر العقود الطويلة الماضية التي هيمن فيها اليمين السياسي والاجتماعي في دول القارة البالغ عدد سكانها نحو 550 مليون نسمة لم تتحسن كثيراً الأحوال المعيشية والاجتماعية -التعليمية والصحية والمهنية وغيرها- لأكثر من 65% من سكان القارة، بل إنه وفقاً لبعض الإحصاءات الدولية –التي تفتقر في الكثير من الأحيان إلى المصداقية والعمق– فإن نحو 40% من سكان القارة اللاتينية يعيشون على حد الكفاف أو حد الفقر poverty line، وأكثر من نصف هؤلاء يعيشون على أقل من دولار للفرد يومياً.
ولم تؤدِ السياسات الليبرالية الجديدة new liberalism -والتي استندت إلى مفاهيم ومناهج المدرسة النقدية في شيكاغو في الولايات المتحدة- إلا إلى مزيد من الإفقار المطلق لأعداد متزايدة من السكان.
صحيح أن هناك طبقة من رجال المال والأعمال في بعض الدول اللاتينية استفادت من تلك السياسات في فترات التطبيق الأولى، مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وفنزويلا، وأن حركة التجارة وعمليات التهريب في البضائع انتعشت، والسوق المالي والنشاط المصرفي نشطا، بيد أن هذه الفترة القصيرة التي لم تدم طويلاً أعقبتها مع مطلع عقد التسعينيات حالة من الانهيار الاقتصادي السريع، تمثلت فيما جرى من حالات إفلاس واسعة وانهيار النظام المصرفي في البرازيل (1986) والمكسيك (1994) والأرجنتين (1996 و2001) والباراغواي (1996) والبيرو…
ولم تنجُ فنزويلا من هذا المصير البائس إلا بسبب الوفرة النفطية التي تتمتع بها وبسبب قدراتها الإنتاجية العالية، فخلال أقل من 5 سنوات، تمكنت من مضاعفة إنتاجها من النفط الخام في ظل حاجة وتعطش مستمرين في السوق الأميركية والدولية، كما صرح غوستاف روسن GUSTAVE ROOSIEN رئيس الشركة الوطنية للنفط في ذلك الوقت، إذ زاد إنتاجها اليومي من 1.79 مليون برميل يومياً عام 1987 إلى 2.01 مليون برميل في المتوسط في العام التالي، واستمر في الزيادة حتى بلغ 2.49 مليون برميل يومياً في المتوسط عام 1991 (Source: financial times , July 23, 1992).
ورغم المداخيل الكبيرة التي ظلت فنزويلا تحققها من جراء الزيادة التي طرأت في بعض السنوات على أسعار النفط والغاز اللذين تتمتع بهما، فإن سوء توزيع المدخول، وسيطرة الولايات المتحدة على قرارات الشركة الوطنية للنفط في فنزويلا، وتحولها إلى مجرد أداة في يد الولايات المتحدة مثلها مثل دول الخليج العربية، أدت كلها إلى فقدان فنزويلا فرص تحقيق تنمية حقيقية، وظلت الأوضاع الاجتماعية في غاية التدهور، وتزايدت البطالة حتى قاربت عشية تولي هوغو شافيز الحكم عام 1998 نحو 18% من القوى العاملة في البلاد.
من ناحية أخرى، إن تمدد الفئات الوسطى في بعض أهم دول القارة اللاتينية منذ أواخر عقد السبعينات أخذ بالانحسار في نهاية عقد الثمانينيات ومطلع عقد التسعينيات، وأدخل هذه الفئات بدورها في خانة العوز الاقتصادي وتأكّل المدخرات التي حققتها في الفترة الأولى (حالة الأرجنتين والمكسيك والبرازيل وشيلي). ومع تنامي حالات الفساد –التي تكشفت طوال عقد التسعينيات في أكثر من بلد كبير في القارة، والمسؤول عنها النخب اليمينية الحاكمة فيها- تهيأت الظروف لمزاج سياسي ووعي سياسي يميل إلى اليسار.
ثانياً: العوامل السياسية والدولية
بحدوث الانهيارات الاقتصادية المتكررة في أكثر من بلد في القارة منذ مطلع التسعينات، حدث تطوران هامان في القارة؛ أحدهما داخلي، والآخر خارجي أو دولي.
بالنسبة إلى التطورات الداخلية، تبين من ناحية مقدار الفساد والنهب الذي تحقق في ظل هيمنة اليمين السياسي في هذه الدول، وبرعاية من الشركات الدولية الكبرى –ومعظمها كان وما زال أميركياً وكندياً وإسبانياً– سواء أكان ذلك في الأرجنتين أم المكسيك أم فنزويلا أم البيرو... وفي الوقت نفسه، طور تحالف قوى اليسار (الشيوعية والاشتراكية)، ما أنهى فترة من الضباب السياسي والتخبط الفكري فيما بينها، فتملكت بذلك برنامجاً إصلاحياً محل إجماع من كل الفئات والطبقات الاجتماعية التي تضررت طوال أكثر من عقدين من سياسات اليمين الرأسمالي أو بالأحرى الكمبرادوري.
وعلى صعيد التطورات الدولية، كان لانهيار الكتلة البيروقراطية (الاشتراكية) في الاتحاد السوفياتي وبقية دول أوروبا الشرقية تأثيرات بعضها سلبي وبعضها الآخر إيجابي؛ فبقدر ما شكل هذا الانهيار المفاجئ وغير المتوقع صدمة لكل الحالمين بالعدل والمساواة المجسدة في الاشتراكية، وأدى إلى ارتباك هذه القوى الاشتراكية والشيوعية في طول القارة وعرضها، فإنه أنهى أسطورة الارتباط التبعي بين هذه الأحزاب والقوى في الاتحاد السوفياتي، وحرّرها نسبياً من تبعات الحرب الباردة بين العملاقين بكل أبعادها السياسية والتنظيمية والأيديولوجية، وأنهت إلى غير رجعة تهمة العمالة للاتحاد السوفياتي التي ظلت سيفاً مسلطاً على رقاب هذه القوى والحركات الثورية، وهو ما أوجد لها أرضية سياسية واجتماعية جديدة، سواء في التخاطب مع جماهير البرجوازية الصغيرة في الريف والمدينة أو في قطاعات الطبقة الوسطى.
من ناحية أخرى، فإن انهماك الولايات المتحدة ودول الغرب الأوروبي والعالم بما جرى في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 -من هجوم انتحاري على الأراضي الأميركية وتركيز الجهد الأميركي السياسي والعسكري والاستخباراتي على منطقة الشرق العربي والإسلامي، سواء في الإعداد لغزو أفغانستان (تشرين الثاني/نوفمبر 2001)، والعراق (آذار/مارس 2003)، ثم في عمليات التحرش والتجهيز ضد إيران، وما ترتب عليه من تورط أميركي فاضح وجارح لهيبة ونفوذ الدولة العظمى الأولى في العالم والمنفردة وحدها دون شريك تقريباً بالقرار الدولي- كل ذلك قد منح اليسار في أميركا اللاتينية فرصة تاريخية لجمع الصفوف وتوجيه ضربة موجعة إلى الولايات المتحدة وسياساتها في القارة.
ويبدو أن خبراء السياسة الخارجية والاستخبارات الأميركية في شؤون الحديقة الخلفية كانوا قد اطمأنوا –نسبياً– إلى قوة ونفوذ وهيمنة الأحزاب اليمينية فيها، برغم فضائح الفساد وحالات التدهور والانهيار الاقتصادي التي حدثت في بعض بلدان القارة، فتصوروا أنه لم يبقَ مصدر للخطر سوى جيوب معزولة، سواء في كوبا أو في الجيش الثوري في كولومبيا أو البيرو أو الأوروغواي.
وفجأة، نجح الضابط الشاب هوغو شافيز –ذو التجربة الانقلابية الفاشلة عام 1994– في الانتخابات الرئاسية في فنزويلا عام 1998، وأخذ المشهد في التحول ببطء، ولكن بثبات.