البريكس بين ديناميتها العالمية وتناقضاتها الداخلية (2/2)
ما هي مكامن الخطر التي قد تواجه مجموعة البريكس؟ وماذا عن درجة التناقضات بين بعض أعضائها؟
إذا كنّا قد عرضنا في الجزء الأول من المقال نقاط التطوّر الفكري والتنظيمي من ناحية، ونقاط القوة التي تمتلكها مجموعة البريكس (سواء في صورتها الخمسية الأولى، أو بعد توسّعها وضم ست دول أخرى في مؤتمرها الأخير في جوهانسبرغ في آب/أغسطس الماضي)، فإن اكتمال الرؤية وعمق التحليل يقتضي أن نعرض الجانب الآخر من الصورة، وهو نقاط الضعف ومكامن الخطر على قوة ومنعة هذا التكتل الاقتصادي والجيو سياسي.
وتتحدّد نقاط الخطر والضعف في 4 مصادر هي:
الأول: تفاوت الأهداف بين أعضائها.
الثاني: تباين السرعات بين أعضائها.
الثالث: التناقضات وعدم الانسجام بين بعض أعضائها.
الرابع: المؤامرات الأميركية والأطلسية.
فلنتناول كلّاً منها بشيء من التفصيل:
أولاً: تفاوت الأهداف
لا شكّ أن ما جمع أعضاء مجموعة البريكس الخمسة كان القلق والغضب والتحدي لتلك الهيمنة الأميركية والأوروبية على مفاصل ومنظمات العلاقات الاقتصادية الدولية، والرغبة في وقف هذا التدهور في نظام العلاقات الدولية والشرعية الدولية والقانون الدولي.
وقد زاد عليها تلك الغطرسة والغرور الذي ميّز السلوك الأميركي والأطلسي عموماً بالاستخدام المفرط والمكثّف وغير الأخلاقي، في كثير من الحالات، للعقوبات الاقتصادية والسياسية وعمليات الحظر، والحصار الذي تمارسه هذه الدول الإمبريالية ضد كثير من دول العالم (38 دولة حتى الآن)، وبلغ التجاوز أن مارست هذه الدول سياساتها العدوانية تلك في مواجهة قوى كبرى مثل روسيا والصين، هذا ناهيك عن دول مثل إيران وفنزويلا ومن قبلها كوبا... إلخ.
ومع هذه السياسات العدوانية برز دور الدولار كسلاح أميركي وعالمي في هذه المقاطعات والحصار، فأضيف إلى ضرورات البحث عن وسيلة للتخلّص من هذا السيف المسلّط على رقاب العالم كله. ومع تغيّرات سعر الصرف وما يسبّبه ذلك من خسائر في كثير من الحالات، وفي ظل الأزمات الدورية التي تضرب الاقتصاد العالمي كعدوى قاتلة من أزمات الولايات المتحدة المتكررة، سواء على المستوى المالي أو الاقتصادي أو المصرفي، أو البورصات وسوق الأوراق المالية. كلّ هذا كان يستدعي ضرورة التفكير في إعادة النظر في هذا النظام الاقتصادي والمالي والنقدي العالمي الراهن.
هذا هو الدافع والهدف الذي جعل الدول الخمس الكبار تفكّر في هذا التكتل الاقتصادي في البداية، فماذا عن بقية البلدان والحكومات التي تسعى للانضمام إلى هذا التكتل، والبالغ عددها حتى اليوم أكثر من 40 بلداً؟
هنا تتفاوت الأهداف وتتباين الرؤى والمسارات. وهذا الأمر ينطبق على هذه الدول جميعاً الراغبة في الانضمام، سواء التي لم تنضمّ بعد أو تلك الدول الست التي جرى ضمّها أخيراً إلى "بريكس بلس"، فكيف ستدور ماكينات العمل داخل هذا التكتل على الصعيدين الاقتصادي أو الجيو سياسي؟
فلنطبّق تحليلنا على الوضع الراهن "بريكس بلس".
هنا لدينا 3 مجموعات من الدول والحكومات تتفاوت نظرتها وأهدافها إلى هذا التكتل على النحو التالي:
المجموعة الأولى: والتي تضم روسيا وإيران والصين، وإلى حد ما، البرازيل ترغب في التخلّص فوراً من هيمنة الدولار الأميركي على المبادلات التجارية، وعلى الدولار كعملة احتياطيات دولية وكوسيلة للقياس، فمن شأن التخلّص من هيمنة الدولار تقليص الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأميركية ذاتها، كما تسعى هذه الدول في صياغة طريقة ما لخلق عملة دولية بديلة للمعاملات بين دول المجموعة في المرحلة الأولى، ثم تصبح عملة دولية لما هو أوسع كثيراً من "البربكس بلس". وقد بلغ التوافق بين هذه البلدان الثلاثة درجة عالية من التنسيق في المجال العسكري والاستخباري قد يتطوّر في المستقبل إلى درجة التحالف العسكري.
قد تشاركهم فيما بعد دول وحكومات مثل فنزويلا وكوبا وبوليفيا والأكوادور ونيكاراغوا في هذه الأهداف.
المجموعة الثانية من الدول: مثل السعودية والإمارات، لديها بعض القلق والمخاوف من السياسات الأميركية الأخيرة، والمخاطر المحيطة بأموالها واستثماراتها في دول الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً، فهناك قوانين تصدر من الكونغرس الأميركي مثل قانون "جاستس "Justusالصادر منذ عدة سنوات، والذي يعد سيفاً مُصْلَتاً على الأموال السعودية في الولايات المتحدة، وقانون الصلاحيات الاقتصادية للرئيس الأميركي في ظروف الطوارئ الصادر عام 1977 في عهد الرئيس جيمي كارتر، والذى يستخدم في كثير من الحالات منذ ذلك التاريخ لمصادرة أو تجميد أو الاستيلاء على أموال دول وحكومات معادية للولايات المتحدة: مثل إيران وفنزويلا وروسيا.
هذه القوانين كلّها خناجر وسيوف جاهزة للاستخدام ضد من يخرج عن الأهداف أو الأوامر الأميركية، لذا فإنها تحرص على تنويع محافظها المالية واستثماراتها الخارجية، خاصة وأن معادلة "البترول مقابل الأم " لم تعد صالحة تماماً، وثبت في حرب العدوان السعودي والإماراتي على اليمن منذ عام 2015 أنها لم تكن كافية.
المجموعة الثالثة: مثل مصر والأرجنتين وأثيوبيا تحرص في وضعها الحالي والمأزوم اقتصادياً ومالياً على استخدام البريكس كمنصة للاقتراض أحياناً، أو تخفيف حدة أزمة الدولار في تبادلاتها التجارية مع مجموعة البريكس أحياناً أخرى.
أما الأهداف الأخرى والصدام مع الولايات المتحدة والغرب الإمبريالي فهو آخِر ما تفكّر فيه مثل هذه الدول أو تقدر على تحمّل تبعاته.
والحقيقة أنّ ضمّ دول مثل مصر وأثيوبيا والأرجنتين واستبعاد دولة مثل الجزائر في التوسّع الأخير، جاء مخالفاً لشروط الانضمام الاقتصادية التي وضعتها مجموعة الخمس المؤسِّسة (من قبيل: استقرار سياسي في الدولة، والقدرة على تحقيق نمو سريع واقتصاد رئيس في منطقتها، ومرونة تجارية، ووجود علاقات مع الدول الأعضاء). فهي جلّها تتناقض مع حال هذه الدول الثلاث، والجزائر التي هي أفضل حالاً من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، لكن ربما كانت العوامل الجيو سياسية والتأييد الروسي والصيني لضمّ هذه الدول هو ما دفع القرار بضمّها على هذا النحو.
ثانياً: تباين السرعات بين أعضائها
وبالقدر نفسه فإن هناك تبايناً واضحاً في سرعات التعاون والتحالف وتحقيق أهداف البريكس فيما بين الدول الإحدى عشرة. فإذا كان هناك توافق بين هذه الدول والحكومات بشأن توسيع نطاق التعاون التجاري فيما بين أعضائها، واستخدام العملات الوطنية في تسوية المدفوعات والمعاملات فيما بينها، فإن حماس واندفاع وسرعة استجابة هذه الدول متباينة إلى حد كبير، فدول مثل إيران وروسيا والبرازيل أكثر سرعة ورغبة في تنفيذ هذا الهدف.
في المقابل نجد أن السعودية والإمارات وربما مصر وأثيوبيا أقل حماساً وسرعة في تنفيذ هذا الهدف، أما الهند والصين (ونظراً لحجم تجارتهما الواسعة جداً مع الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي) فربما تكونان أقلّ سرعة ولهفة في تنفيذ هذا الهدف.
وقس على ذلك بقية أهداف مجموعة البريكس، مثل هدف تعزيز الشفافية في العلاقات الدولية، أو الالتزام بإصلاح المؤسسات المالية والمصرفية الدولية، أو ترشيد استخدام الطاقة من أجل مكافحة التغيّرات المناخية... إلخ.
ثالثاً: درجة التناقضات بين بعض أعضائها
في تحليل مواقف الدول الأعضاء في مجموعة البريكس سواء قبل التوسيع أو بعده، نجد درجة من التناقض وعدم الانسجام – وربما العداء أو الصراع – بين بعض هذه الدول، مثلما هو الحال بين الهند والصين، أو بين السعودية والإمارات من جانب والجمهورية الإسلامية في إيران من جانب آخر، أضف إلى ذلك تفاوت الارتباطات بين بعض هذه الدول ودول التحالف الغربي/الأطلسي وعلى رأسها الولايات المتحدة.
فما زالت البنية الاجتماعية والسياسية والعشائرية لبعض هذه الدول – مثل السعودية والإمارات – تميل أكثر إلى عدم الصدام أو فك التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرهما من دول الاتحاد الأوروبي، بل إن المملكة السعودية أدّت على مدار 60 عاماً أو يزيد دوراً أشبه بحصان طروادة في منظمة الدول المصدّرة للبترول (أوبك) مساندة للسياسات الأميركية وتنفيذاً للمطالب الأميركية.
وهناك دول أخرى مثل مصر مربوطة باتفاقيات تسلّح وقطع غيار ومعونات عسكرية واقتصادية سنوية، تجعل من الصعب على الفئات الحاكمة (وهم من أصول عسكرية محافظة) التحرّك المكشوف والصدام مع سياسات الغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً لسنوات طويلة مقبلة.
وقس على ذلك دول مثل الإمارات وأثيوبيا وغيرها من الدول التي قد تنضم في السنوات القليلة المقبلة إلى "بريكس بلس"، وهنا سوف يظل الأمل في مزيد من الانسجام لتحقيق أهداف هذا التكتل الاقتصادي والجيو سياسي معقوداً على انضمام دول أخرى، مثل دول وحكومات اليسار في أميركا اللاتينية، والجزائر وغيرها.
ويكفي أن نتأمل قائمة الدول التي تقدّمت بطلبات للالتحاق بتكتل البريكس (مثل الجزائر الأرجنتين والبحرين وبنغلاديش وبيلاروسيا وبوليفيا وكوبا وهندوراس وإندونيسيا وكازاخستان والكويت والمغرب ونيجيريا وفلسطين والسنغال وتايلاند وفنزويلا وفيتنام) لنعرف طبيعة التحديات والمخاطر الداخلية التي سوف تواجه هذا الكيان الضخم؛ فهي دول تمثّل مروحة واسعة جداً من الانتماءات والارتباطات والتحالفات العلنية والخفية بدول التحالف الأطلسي، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها.
وهناك تحدٍ آخر يواجه هذا التكتل (والذي تراهن عليه شعوب الجنوب والشرق في التخلّص من الهيمنة الإمبريالية لدول التحالف الأطلسي)، وهو التغيير الذي قد يحدث في حكومات بعض الدول الأعضاء في انتخابات عامة، فيأتي بحكومات ونخب يمينية وتابعة فكرياً وسياسياً ومالياً للغرب الإمبريالي، مثلما حدث في البرازيل خلال الفترة من (كانون الثاني/يناير 2019 حتى تشرين الثاني/نوفمبر 2022)، حيث تولّت فيها حكومة يمينية متحالفة ومتعاونة وتابعة للولايات المتحدة في أشدّ صورها عنصرية في عهد الرئيس جيار بولسنارو، فتعطّلت قوة الدفع لمجموعة البريكس.
هذه التحديات والتناقضات ستؤدي حتماً إلى تعطيل مسيرة هذا التكتل التاريخي لبعض الفترات الزمنية، وتؤخّر تنفيذ بعض تلك الأهداف الاستراتيجية، وقد تحدث انسحابات لبعض تلك البلدان والحكومات، بيد أنه ستظل الكتلة الحيوية والاستراتيجية لهذا الكيان قائمة، وفي الصدارة الصين وروسيا والهند وإيران، وكثير من دول أميركا اللاتينية ذات المنحى اليساري الاستقلالي عن الهيمنة الغربية البغيضة.
وقد ينجح هذا التكتل خلال السنوات القليلة المقبلة، ولا سيما بعد أن تتكلّل معركة روسيا ضد التحالف الأطلسي في أوكرانيا بالنجاح، في تحقيق ما طالب به وتمنّاه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، الذي حضر إعلان التوسّع في آب/أغسطس الماضي، حين ردّد مطالبات متكرّرة لـ "بريكس" بإصلاح مؤسسات مثل: مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي. مشيراً إلى أن هياكل الإدارة العالمية "تمثّل عالم الأمس"، وشدّد غوتيريش قائلاً: "لكي تبقى المؤسسات متعدّدة الأطراف عالمية حقاً، يتعيّن إصلاحها لتعكس سلطة اليوم والحقائق الاقتصادية، ومع غياب هذا الإصلاح يصبح الانقسام حتمياً".
والحقيقة أن الإصلاح لا يتوقّف فقط على مجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة العرجاء، وإنما في استبدال هياكل بعضها تماماً، وفي مقدّمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
رابعاً: المؤامرات الأميركية والأطلسية
لا يمكن أبداً النظر إلى هذه العملية التاريخية وتكوينها وسط التحديات الكبرى من دون الالتفات إلى الموقف المعادي من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، والرغبة المعلنة لوأد وقتل هذا الجنين الذي تنتظره الإنسانية، وخصوصاً شعوب الجنوب المظلومة والمضطهدة، وقد أسهب الكاتب والمفكّر الأردني الدكتور إبراهيم علوش في شرح ووصف الموقف الغربي المعادي للبريكس في مقالته (استراتيجية الغرب في مواجهة بريكس) في موقع الميادين نت، والمنشورة بتاريخ 25 آب/أغسطس 2023 (1)، والتي أنصح جميع القرّاء بمراجعتها، وأجدني في حلّ من تكرار شرح الخطط الغربية لإفشال بناء هذا التكتل الاقتصادي والجيو سياسي العظيم.
وفي الختام نؤكد أننا بصدد عملية تاريخية قد تستغرق عدة عقود حتى يكتمل بنيانها، وتترتّب آثارها ونتائجها المفيدة على النظام العالمي الجديد، لكنها بالقطع قد بدأت، وكما قالت الحكمة الصينية البليغة (طريق الألف ميل يبدأ بخطوة)، وها هي الخطوات الأولى قد بدأت بنجاح.