الانتخابات الأميركية... بين التهويل والتهوين
الولايات المتحدة، اليوم، لم تعد هي أميركا التي عرفناها منذ عقود. كما أن القادة الأميركيين، كما هو واضح للجميع، أضحوا صغاراً لا تمكن المقارنة بينهم وبين الآباء المؤسِّسين للولايات المتحدة.
تابع العالم، باهتمام كبير، الانتخابات الأميركية، وهي حدث مهم، لأن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت تشكل القوة الأهم على مستوى العالم، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. لكنّ المبالغة في التوقعات لتلك الانتخابات وانعكاساتها على العالم أجمع، والمنطقة العربية بصورة خاصة، أمرٌ لا يخلو من الخطأ والمبالغة في تقدير حجم الدور الأميركي وفعله في الساحة الدولية اليوم.
لعلّ نقطة الانطلاق لفهم الموضوع أكثر، هي الانتباه إلى أن الولايات المتحدة، اليوم، لم تعد هي أميركا التي عرفناها منذ عقود. كما أن القادة الأميركيين، كما هو واضح للجميع، أضحوا صغاراً لا تمكن المقارنة بينهم وبين الآباء المؤسِّسين للولايات المتحدة، أو رؤسائها العظام، الذين تركوا بصمة في التاريخ العالمي، سياسياً وإنسانياً.
كما أن الناخب الأميركي بات انتهازياً، فسقف طموحاته وتوقعاته ورغباته يركّز على أموره المعيشية فقط، وبحثه عن المرشح الذي سيخفّض له التضخم أو يزيد له في الدخل، بغضّ النظر عن الطريقة أو الأسلوب الذي سيسلكه ذلك المرشح في سبيل تحقيق ذلك، وهو ما يجعل الناخب شريكاً في سياسة بلده القائمة على سلب ثروات الشعوب ونهب خيراتها، الأمر الذي يجعلنا نملك الحق في السؤال عما إذا كان هذا الناخب هو المواطن الذي سعت الديمقراطية الأميركية وقيم الحرية والعدالة لإنتاجه؟
وهل المواطَنة التي استطاعت البروباغندا الأميركية خداعنا بها، بل شكّلت حالة من الانبهار الذهني لدى كثيرين منا، هي المواطَنة التي أفضت إلى تشكُّل مجتمع تسيطر عليه الجريمة وتغذّيه المخدِّرات، حتى باتت الحرية تُختزَل لديه في الحق في الإجهاض!!
إن ضحالة البرامج الانتخابية لكِلا الحزبين تُرينا حقيقة المجتمع الأميركي، الذي بات مفكَّكاً ومهدَّداً في بقائه ووجوده. فكيف لمجتمع أن ينعم بالأمن والأمان وسكانه يمتلكون قِطَعاً من الأسلحة تفوق عددهم، بحيث تشير الأرقام إلى وجود نحو 450 مليون قطعة سلاح لدى الأميركيين، أي بمعدل بندقية ونصف بندقية لكل مواطن!!!
كما أن السؤال الأهم ربما هو ما الذي يدفع المواطن الأميركي إلى اقتناء السلاح إن كان يشعر بالأمان في دولته، التي تتغنّى بدورها بحفظ الأمن والسلام في دول العالم جميعاً!!
وكيف للعالم أن يثق بأن الولايات المتحدة قادرة على حمايته، في حين أنها لم تستطع حماية حدودها، فأصبحت ملاذاً للمجرمين الفارّين من المكسيك ودول أميركا اللاتينية، بحيث تشير الأرقام إلى دخول 4.2 ملايين مهاجر غير شرعي في عهد بايدن وحده، والذي لم يمضِ على استلامه السلطة سوى أقل من عامين!!!
وكيف لانتخابات أن تغيّر السياسة الأميركية تجاه العالم، والمحدِّد الرئيس لها: شرعنة الإجهاض أو منعه؟ تلك القضية التي جعل منها الديمقراطيون المقياس لتراجع الحرية في بلدهم، بحيث ركّزوا على فتيات يتساءلن: كيف لا أستطيع فعل شيء كانت أمي قادرة على فعله!!
في المحصّلة، فإن الانتخابات النصفية، كما بدا منها، أضحت شأناً داخلياً أميركياً، وطريقاً إلى المناكفات السياسية والحزبية بين المرشحين، الذين غلّبوا مصالحهم الانتخابية الضيقة (الشخصية والحزبية) على المصالح الوطنية، التي لم تعد واردة في حساباتهم ربما.
وبالعودة إلى انعكاسات تلك النتائج على العالم، من غير المتوقع حدوث تغيير في السياسة الأميركية تجاه كل من روسيا والصين. فالحزبان، كِلاهما، كانا متفقين على دعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا، كما أن الجمهوريين طالبوا الرئيس بايدن بتقديم مزيد من الدعم إلى أوكرانيا، وشجّعوه على ذلك. وهو ما سيستمر في العامين المقبلين بكل تأكيد، على رغم الدعوات الهادفة إلى التدقيق في تلك المساعدات وتركيزها، في إشارة واضحة إلى حالة الفساد التي تشوب تلك المساعدات.
أمّا على صعيد العلاقة بالصين، فالجمهوريون، خلال ولاية ترامب، بدأوا حرباً تجارية ضد الصين، كان لها انعكاسات سلبية على البلدين. ولم يستطع بايدن في بداية رئاسته إيجاد حل لتلك المشكلة على رغم الوعود التي كان تعهّدها للرئيس الصيني.
كما أن إدارة بايدن استمرت في التصعيد ضد الصين عبر تقديم مزيد من الدعم إلى تايوان، إدراكاً منها حساسية تلك القضية بالنسبة إلى بكين. وبالتالي، فلا تغيّر متوقعاً في السياسة الأميركية تجاه الصين بعد تلك الانتخابات.
أمّا بالنسبة إلى انعكاس تلك الانتخابات على منطقتنا العربية بصورة خاصة، والشرق الأوسط بصورة عامة، فذلك يمكن رصده وفقاً لثلاثة ملفات، هي: الملف النووي الإيراني والموقف الأميركي تجاهه، وعملية السلام الفلسطيني الإسرائيلي، والعلاقات الأميركية بالدول العربية الحليفة لها.
على صعيد الملف النووي الإيراني، لطالما كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مصدر قلق وخوف وتوجّس للإدارات الأميركية المتلاحقة. فإيران، بعد الثورة الإسلامية، لم تعد إيران الشاه؛ تلك الدولة التي كانت بمثابة قاعدة متقدمة للولايات المتحدة وحليفتها "إسرائيل".
واستمرت تلك السياسات حتى عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي استطاع كسر بعض الثوابت في التعاطي الأميركي مع إيران، فوقّع، بالشراكة مع الدول الست (1+5)، الاتفاق النووي التاريخي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية في عام 2015، والذي كان من أُولى نتائجه الرفعُ الجزئي للعقوبات المفروضة على إيران، وخصوصاً الإفراج عن بعض الأموال المجمّدة لطهران، والتي هي في أمسّ الحاجة إليها اليوم من أجل تحقيق الرفاه الذي يطلبه الشعب الإيراني، ويسعى لتحقيقه.
لكن طهران، في الوقت نفسه، أثبتت صلابة في الموقف وثباتاً على المبادئ. وكان المفاوض الإيراني خصماً كبيراً تصدى لكبار المفاوضين الغربيين، ونجح في انتزاع الاعتراف بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية الضرورية بالنسبة إليها في عدد من الاستخدامات السلمية التي تحتاج إليها.
ولعلّ إشراك ألمانيا، بالإضافة إلى الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، في المفاوضات مع إيران، خير دليل على النفاق الأوروبي وموقفه تجاه إيران. فألمانيا هي الدولة التي قامت بتأسيس البرنامج النووي الإيراني في عهد الشاه، بموافقة الولايات المتحدة والدول الغربية بصورة عامة، بحيث كان من المقرر أن تصبح "إيران الشاه" دولة نووية في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني. لكنّ قيام الثورة الإسلامية جعل الغرب يتراجع عن موقفه بشأن البرنامج النووي الإيراني، بل وصل به النفاق إلى حد توجيه الاتهام إلى إيران بالرغبة في التحول إلى دولة نووية.
لكن النجاح الذي حققه أوباما لم يستمر طويلاً، فلقد تمّ نسف الاتفاق على يد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الذي أعلن إلغاءه من جانب واحد، وهو ما يشير إلى الاستخفاف الأميركي بشأن التعاطي مع الاتفاقيات والأعراف الدولية، وتقديس واشنطن منطق القوة الذي يعلو على كل المبادئ لديها.
ولم يستطع الرئيس بايدن حتى الآن إعادة الحياة إلى هذا الاتفاق، على رغم تصريحاته ورغباته المعلنة بشأن ذلك. وهذا الأمر يعود أيضاً إلى أن إيران لم تعد تقبل أنصاف الحلول، فهي تريد ضمانات لاستمرار هذا الاتفاق في حال التوقيع عليه، بغضّ النظر عن ساكن البيت الأبيض وانتماءاته الحزبية، وهو مطلب محق، وما عدا ذلك ليس سوى سراب ووهم لا نية لطهران في السعي خلفهما بكل تأكيد.
وعلى الرغم من أن كثيرين اعتقدوا أن بايدن سيتابع سياسة أوباما كونه كان نائبه حينها، لكن ذلك لم يتحقق نتيجة اعتبارات داخلية، ترى أن إيران عدو لا يمكن التعامل معه، أو حتى مهادنته، بسبب ما تشكله طهران من خطر يهدد الكيان الصهيوني، وهو ما جعل الدولة العميقة تتحرك لتكون لها كلمة الحسم فيما يتعلق بإيران وملفها النووي تحديداً.
لذا، فإن انتخابات الكونغرس الأميركي لن تغير شيئاً فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني. ففي حال فوز الجمهوريين، سيُطوى هذا الملف إلى غير عودة، كما كان في عهد ترامب. وفي حال فوز الديمقراطيين، فسيكون هذا الفوز نسبياً، وسيجعل الرئيس بايدن يبدأ التحضير للانتخابات الرئاسية المقبلة منذ اليوم الثاني لإعلان النتائج.
أمّا ملف القضية الفلسطينية، فلن يشهد أيّ تغيرات قد تطرأ عليه، وخصوصاً أن نتنياهو سيكون رئيس الحكومة المقبلة لـ "إسرائيل"، وهو من المتشددين تجاه المفاوضات مع الفلسطينيين، وليس لديه الرغبة في تقديم أيّ تنازلات من أجل تحقيق أي تقدم في هذا الملف. لذا، فإن الجمهوريين والديمقراطيين غير متحمسّين للضغط على نتنياهو من أجل دفع المفاوضات مع الفلسطينيين قُدُماً، وخصوصاً في ظل الانقسام الفلسطيني وحالة الضعف والانقسام العربيَّين، وسعي كثير من الدول العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وخصوصاً بعد الانسحاب الأميركي من المنطقة، بحيث باتت تلك الدول تشعر بحالة من الانكشاف الاستراتيجي، وهو ما يحتّم عليها، بحسب وجهة نظرها، التقارب مع الكيان الصهيوني من أجل مواجهة العدوّ المشترك لها وله.
أما الملفّ الثالث فهو ملف العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والدول العربية، التي تعدّ نفسها حليفةً لها في المنطقة. وأعتقد أيضاً أن هذا الملف لن يشهد أيّ تطورات في ظل استراتيجية الانكماش التي تتّبعها الإدارة الأميركية، وفي ظل تراجع الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي أصبحت تفضّل إدارة ملفات المنطقة عن بُعد، ومن دون الحاجة إلى الانغماس في ملفاتها العصية على الحلّ، بحسب القناعة التي تشكّلت لديها بعد أعوام من الانغماس في مشاكل المنطقة وتعقيداتها.
وختاماً، فإن تأثّر العالم بالانتخابات الأميركية تراجَعَ بصورة كبيرة، وهو ما يدلّ على تراجع مكانة الولايات المتحدة وضعف مناعتها الاستراتيجية بكل تأكيد. لقد باتت الانتخابات الأميركية شأناً داخلياً إلى حد كبير، بل إنها صارت شأناً حزبياً في كثير من الأحيان، شأنها شأن الانتخابات في كثير من دول العالم. وهو ما يحتّم على دول المنطقة السعي لحل مشكلاتها بنفسها، من دون الاستقواء بالأجنبي الذي لم ينسَ العالم بعدُ طريقتَه في التخلص من قفازاته القذرة في العراق وأفغانستان.