الاتفاق السعودي الإيراني.. هل الطريق معبدة بالورد؟
يريد الخليج أن يرسي معادلة جديدة اسمها تنويع الشراكات الدولية، وهذا ما يفسر انفتاحه الاقتصادي الكبير على الصين، وتلاقيه في العديد من الملفات مع روسيا، وتحديداً في ملف إنتاج النفط.
كأن المنطقة تحاول التقاط أنفاسها. أجواء من التفاؤل ترفع سقف الآمال في إمكانية تفكيك العقد في العلاقة بين القطبين الرئيسيين في المنطقة، المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وذلك بعد الاتفاق الذي جرى إعلانه من بكين الأسبوع الماضي.
البيان المشترك حول استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة فتح السفارتين المغلقتين منذ عام 2016 في فترة لا تتجاوز شهرين قد يبدو مفاجئاً وسريعاً من ناحية الشكل، إلا أنه حصيلة جهود ومبادرات حثيثة سعت لفتح ثغرة في جدار العلاقة بين الطرفين قادتها دول في السر والعلانية خلال السنوات الماضية، سواء عبر الدبلوماسية الناعمة لمسقط التي ما زالت نشطة في هذا المجال، أو عبر بوابة العراق، ولكن يبدو أن الأجواء كانت أكثر نضجاً بعد دخول التنين الصيني على الخط أو ربما تلاقي رغبة الطرفين في أن يكون الضامن للاتفاق صديقاً دولياً مريحاً.
هذا الاتفاق قد يضع في أحد جوانبه جدية الطرفين وخطواتهما في بناء جسور العلاقة بدلاً من إحراقها وتخفيف التوتر في المنطقة تحت المراقبة، عبر تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة في 2001 بين البلدين، والاحترام المتبادل، والالتزام بعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
من جانب آخر، سيضع الاتفاق قدرة الصين على تحقيق الاستقرار في منطقة مشتعلة بفعل الحروب والصراعات تحت الاختبار. والأهم أن نجاح الأخيرة يضع واشنطن المتهمة باللعب على التباينات وإثارة النزاعات والفتن وخوض الحروب وإسقاط الأنظمة بالقوة في موقع الحرج.
هذا الاتفاق الطموح لا يكتفي بتطبيع العلاقة بين الطرفين، بل يسعى لبناء شراكات أوسع على مختلف الأصعدة، الدبلوماسية والأمنية والاقتصادية، ولكن الحقيقة تكمن في أن هذا التوجه يقابله سؤال مفصلي بقدر مفصلية هذه الخطوة الجريئة والمهمة بين الطرفين: هل الطريق معبدة بالورد؟ وهل تترك واشنطن الساحة مفتوحة للصين لابتلاع الخليج؛ الحليف التاريخي والتقليدي للبيت الأبيض في المنطقة؟ هل تقبل بإزاحتها جانباً؟ وهل يستبدل الخليج واشنطن بالصين؟
تنويع الشركات الخليجية
أولاً: تبدو واضحة التحولات المفصلية في الدبلوماسية الخليجية إزاء العلاقة مع واشنطن منذ فترة رئاسة الرئيس باراك أوباما، وإن كانت فترة رئاسة ترامب قد بددت التوتر بين البلدين، غير أن القناعة الخليجية بضرورة تنويع الشراكات الدولية أخذت في التوسع منذ ذلك الحين. وقد عززها وصول الرئيس بايدن إلى البيت الأبيض حاملاً خطاباً يتوعد فيه بتحويل السعودية، ثاني أكبر مصدر للطاقة في العالم، إلى دولة منبوذة.
يبدو أن هذا الخطاب أخطأ التقدير في التعامل مع الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد والحاكم الفعلي للمملكة، الذي يقود تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية ودبلوماسية كبرى في بلاده.
وقد تزامن ذلك مع ظروف دولية صبت جميعها في مصلحة الأمير الشاب، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا التي أدت إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية، ما اضطر الإدارة الأميركية إلى النزول عن الشجرة والتعامل بواقعية مع الرياض وبكثير من التواضع.
التواضع لم يشفع لإدارة بايدن، والظروف التي دفعته إلى الاستدارة وزيارة المملكة لم تحرك العلاقة بين الطرفين إلى الأمام، وذلك لعدة أسباب، وعلى رأسها ما اعتبرته الرياض تخلياً عن أمنها من قبل واشنطن، بعد تعرض منشآتها النفطية للهجوم نفذته حركة أنصار الله من دون أن تحرك ساكناً، ناهيك بما استشعرته الرياض من مضي واشنطن قدماً نحو إحياء الاتفاق النووي مع إيران من دون وضع مخاوفها الأمنية في عين الاعتبار. وعلى الرغم من تأكيد واشنطن، على لسان مسؤوليها، التزامها أمن الخليج، فإنَّ ذلك لم يكن كافياً لتهدئة الهواجس الخليجية.
ثانياً: يبدو أنَّ الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، باتوا يميلون إلى التعامل مع ما يسمّونه "شريكاً مريحاً" لا يضعهم تحت ضغط الابتزاز، وليس مهتماً بالتدخل في شؤونهم الداخلية، إذ تسوق الصين نفسها كشريك اقتصادي مريح يحترم سيادة الدول، ناهيك برسو قناعة خليجية بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة الوحيدة التي تقود العالم، سواء ذلك بفعل التحولات الدولية التي تشهد صعوداً للصين وروسيا كقوى دولية أو بفعل الانقسام الحاد في الداخل الأميركي وأفول نجم إمبراطورية العم سام، كما يحلو للبعض وصفها.
هذا الأمر يبدو مريحاً لإيران أيضاً التي شهدت احتجاجات داخلية خلال الفترة الماضية، واتهمت دولاً مثل بريطانيا وأميركا بتغذيتها من أجل إثارة الفوضى وتغيير النظام، إذ بات الجانبان ينظران إلى الصين بوصفها شريكاً نظيفاً لا يمتلك تاريخاً من دعم الانقلابات ولا الغزو، ولا يستخدم العقوبات أداة للضغط على الدول.
دخول الصين إلى المنطقة من شأنه أن يفرض واقعاً جديداً على واشنطن، وذلك بضرورة التعامل مع دول المنطقة بمنطق أكثر احتراماً، إذ لم تعد الساحة الدولية بلاعب واحد، ما يعطي الخليج مساحة أكبر للتحرك والتخلص من ثقل الابتزاز الأميركي الذي دام لعقود لسد الثغرة المتعلقة بأمنه.
من جانب آخر، لا يمكن القفز على حقيقة أن الولايات المتحدة ما زالت الشريك الأول السياسي والاقتصادي والمصدر الرئيسي للأسلحة للخليجيين، والحديث عن إزاحته بين ليلة وضحاها لا يبدو واقعياً، ولا يتوافق مع المصلحة الخليجية الحالية.
في الحقيقة، يريد الخليج أن يرسي معادلة جديدة اسمها تنويع الشراكات الدولية، وهذا ما يفسر انفتاحه الاقتصادي الكبير على الصين، وتلاقيه في العديد من الملفات مع روسيا، وتحديداً في ملف إنتاج النفط.
وقد تجلى ذلك بعد موافقة السعودية على قرار "أوبك بلس" بخفض إنتاج النفط في تشرين الأول/أكتوبر 2022 الماضي، الأمر الذي اعتبرته واشنطن طعنة من حليف، وهذا ما كان له أن يكون قبل عدة سنوات، إذ يمكن القول إن السياسة الخليجية في هذه المرحلة تعبر عن حالة من الاستقلالية أكثر من أي وقت مضى، والظروف الدولية باتت تلعب لمصلحتها في هذا الشأن.
هذا القدر من الاستقلالية جاء بالتوازي مع خطوات جادة نحو تصفير المشاكل مع المحيط، بدءاً بالمصالحة مع قطر عام 2021، ومن ثم عودة العلاقات التركية السعودية عبر بوابة الدوحة عام 2022، تبعتها خطوات إماراتية سريعة في تطبيع العلاقة مع سوريا، تُوجت منذ أيام بزيارة الرئيس بشار الأسد لأبو ظبي، وهي زيارة مهمة من حيث التوقيت الذي يتزامن مع أجواء إعادة صياغة العلاقات الخليجية الإيرانية التي من شأنها أن تغير الكثير من المعادلات في المنطقة في حال نجاحها.
المصالحة حاجة إستراتيجية
لقد أنهكت الصراعات الإقليمية الخليج واستنزفت ثرواته، وخصوصاً الحرب السعودية في اليمن التي تحولت إلى مستنقع صار الخروج منه ضرورة. ويبدو أن هذا الخليج فقد حماسته لخوض المعارك الإقليمية لمصلحة الاقتصاد والتنمية، وعلى رأسه السعودية، التي باتت تسابق الزمن من أجل تحقيق رؤية 2030، إذ تتجه الأخيرة إلى التربع على عرش الاقتصاد الأسرع نمواً في العالم، بعد فقدان الهند النمو نتيجة ضعف الطلب في الداخل والخارج.
ليست السعودية وحدها، بل صارت العواصم الخليجية، مثل أبو ظبي والدوحة، تتنافس من أجل التحول إلى مراكز عالمية، وهذا بطبيعية الحال ما يجعل الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي ضرورة ملحة، ولا يمكن تحقيق ذلك مع استمرار حالة الاستنزاف الإقليمية، ولكن الأمر لا يخلو من التحديات.
الحفاظ على التوازنات أكبر التحديات
على الرغم من أن الظروف تبدو أكثر نضجاً لعقد الاتفاقيات بين الخصمين الإقليميين، السعودية وإيران، فإن التحديات كبيرة في ظل المنافسة الدولية بين الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى؛ هذه القوى التي تشهد حالة كباش غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا الكباش قد يتحول إلى حرب عالمية ثالثة بين ليلة وضحاها، ما من شأنه أن يحول الخليج إلى بؤرة ساخنة، وخصوصاً مع دخول بكين، لمنافسة واشنطن في هذه المنطقة الحيوية من العالم، وإن من بوابة الاقتصاد.
من جانب آخر، يبدو أن واشنطن والاحتلال الإسرائيلي أكبر الخاسرين من الاتفاق السعودي الإيراني الذي أدى إلى تراجع حماسة الرياض خطوات إلى الخلف في مسألة التطبيع في مقابل التقدم خطوات في المصالحة مع الخصم.
هذا ما عبر عنه عبر رئيس كتلة المعارضة يائير لبيد الذي قال إنَّ الاتفاق بين طهران والرياض "فشل كامل وخطر في السياسة الخارجية للحكومة الإسرائيلية"، معتبراً أن استئناف العلاقات بين البلدين بمنزلة انهيار لجدار الدفاع الإقليمي الذي بدأت حكومته في بنائه ضد إيران.
ليس ذلك فحسب، بل إن الإمارات الأكثر حماسةً للانفتاح على "إسرائيل" تراجعت أيضاً خطوات إلى الخلف، بعدما جمدت صفقة أسلحة مع حكومة نتنياهو، محذرة من أن الشراكة مع حزب "الصهيونية المتدينة" من شأنها تقويض العلاقات بين الطرفين، فهل تسمح "إسرائيل" بنجاح الاتفاق؟
العثرات كثيرة
في الحقيقة، إنَّ مسألة نجاح الاتفاق وانقلاب المعادلة الخليجية الإيرانية من الخصومة إلى الشراكة ليست أمراً مستحيلاً، ولكن من الصعب الاستغراق في التفاؤل، وخصوصاً أن الملفات والتشابكات بين الطرفين يشوبها الكثير من التعقيد، سواء في اليمن أو سوريا أو لبنان أو العراق، وتحتاج إلى كثير من العمل والكثير من التنازلات.
كما أنَّ الانقسام العالمي الحاد والظروف والتباينات الدولية هي تحدٍّ آخر لا يمكن تجاوزه، ومن الصعب التصور أن واشنطن ستسلم الساحة للصين في منطقة حيوية وإستراتيجية تعوم على بحيرة من النفط ما زال العالم يعتبره المصدر الأول للطاقة.
تدخل "إسرائيل" على الخطّ، وهي التي بات لها موطئ قدم في الخليج على الصعيد الأمني والاستخباري، وهذا بحدّ ذاته يمثل تحدياً أمام الخليجيين في أمنهم واستقرار دولهم، والخوف هو أن يكون للوجود الإسرائيلي ثمن باهظ في منطقة نجحت في أن تحافظ على استقرارها وأمنها ورفاهها الاقتصادي في أوج الأزمات والحروب، فهل تقفز الإرادة السعودية الإيرانية على كلّ هذه التحديات؟