إيران وأميركا اللاتينية.. السرّ في "قصة الحب الغريبة"
صحيح أن نظام العقوبات الموحّد أميركياً، الذي تم توجيه حرابه إلى إيران وأميركا اللاتينية في الوقت نفسه، كان محفزاً للتحرك المشترك بين إيران وأميركا اللاتينية، إلا أن ذلك يبقى تفصيلاً من تفاصيل التكتيك والسياسة اليومية.
إضافةً إلى استفزاز القلق الأميركي، بدا الدفء في استقبال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا مشهداً غريباً للبعض، فالرجل الآتي من ثقافة الحوزات العلمية والدراسات العليا في القضاء والحقوق الدولية لا يمكن أن يكون منسجماً مع متمرّسي اليسار الثوري والمقاومة الشعبية في أميركا اللاتينية. هكذا اعتقد البعض!
السر في "قصة الحب الغريبة"
إبّان انتصار الثورة الإسلامية، وصلت أصداء وصف الولايات المتحدة بـ"الشيطان الأكبر" في إيران إلى مسامع قوى الثورة الصاعدة في أميركا اللاتينية. كان فيديل كاسترو من أوائل الرؤساء الذين اعترفوا بالثورة الإسلامية. أرسل وفداً يعلن هذا التأييد للإمام الخميني، وأكّد أن لا تناقض بين الثورة والدّين، ولا سيما أن البروبغندا الأميركية كانت تسعى جاهدة لزيادة الفجوة بين قوى اليسار الثورية ونظيرتها الدينية في العالم.
نظرت كوبا إلى نجاح الثورة الإسلامية من خلال 3 زوايا؛ الأولى أن ولادة هذه الثورة في الشرق أمر طبيعي، وهي في جوهرها تحدٍ لمنظومة العولمة والقيم الليبرالية الغربية، ودليل على حق الهويات المختلفة في العالم في أن تنتج أنظمتها الخاصة في الحكم، بعيداً من الكتالوغ الأميركي في شكل الترشح والانتخاب والاقتراع ولون الأحزاب السياسية وثقافة المجتمع.
الزاوية الثانية هي المكسب الكبير من انضمام إيران إلى محور المواجهة الواسع ضد سياسة الولايات المتحدة. لذلك، كان الاهتمام الكوبي بانضمام إيران إلى "حركة عدم الانحياز" سريعاً، وهي المنظمة التي نظرت إليها كوبا كتمثيل لأجندات دول الجنوب، بعيداً حتى من استقطابات الحرب الباردة بشكلها الثنائي (سوفياتي – أميركي). ويجدر بالذكر هنا أنّ كوبا وقفت إلى جانب إيران في برنامجها النووي السلمي، واعتبرته حقاً مشروعاً لدول الجنوب، وأطلقت حملة واسعة داخل أطر مجموعة "عدم الانحياز" لدعم هذا الموقف.
أما الزاوية الثالثة، فهي تأثر أميركا اللاتينية بنموذج لاهوت التحرير المستند إلى اتباع التعاليم الدينية بمنهج تفكير ثوري ضد الظلم والهيمنة. وبذلك، كانت مصطلحات الثورة الإسلامية في إيران (مواجهة الاستكبار، ثورة المستضعفين...) مثيرة لاهتمام قوى اليسار الثوري، لاعتبارها تجسيداً لـ"لاهوت تحرير إسلامي" في الشرق من جهة، وباعتبارها أيضاً مصطلحات رديفة لأدبيات اليسار الثوري (مواجهة الهيمنة والإمبريالية وثورة الفقراء...) من جهة أخرى.
صحيح أن نظام العقوبات الموحّد أميركياً، الذي تم توجيه حرابه إلى إيران وأميركا اللاتينية في الوقت نفسه، كان محفزاً للتحرك المشترك بين إيران وأميركا اللاتينية، إلا أن ذلك يبقى تفصيلاً من تفاصيل التكتيك والسياسة اليومية. أما الصورة الأوسع، فهي رفض منظومة العولمة الوحشية التي حاولت واشنطن فرضها على العالم.
عندما وصلت الثورة الإسلامية إلى الحكم في إيران، كانت زنازين تشيلي تعجّ بالمعتقلين السياسيين المناهضين لحكم الديكتاتور المدعوم أميركياً والمنقلب على الحكومة المنتخبة للسلفادور الليندي، أوغنستو بينوشيه، ولم تتردد الثورة الإسلامية في قطع هذا النوع من العلاقات التي كان الشاه قد عززها كثيراً.
عنونت "الفورين بوليسي" أحد تقاريرها المنشورة سابقاً: "من هافانا إلى طهران، علاقة الحب الغريبة بين ثيوقراطية وديكتاتورية ملحدة". أخطأت الصحيفة حينها في هذا التوصيف، فما بين الطرفين، إيران وأميركا اللاتينية، أعمق من براغماتية سياسية، وربما أقل من "حبّ" بالمعنى التوافقي الكامل. وفي الكراسي المتقابلة، لا تنظر كوبا إلى إيران كنظام ثيوقراطي (تعتبر شكل الحكم خيار الثورة الإسلامية، واستحقاقاً للاستفتاءات الشعبية بعد الثورة)، ولا تنظر إيران إلى كوبا كـ"ديكتاتورية ملحدة"، بموجب فهمها لدور الإعلام الغربي في شيطنة كوبا في الشرق.
العقوبات والمقاومة الاقتصادية.. النفط والصحة والسايبر
أفرزت العقوبات الأميركية على قطاعات النفط في إيران وفنزويلا مشكلتين مختلفتين نسبياً؛ ففي إيران، القدرات الاستخراجية والقدرة على التكرير متوفرة، إلا أنّ المشكلة كانت في عزلها عن السوق العالمي وحرمانها من تصدير نفطها.
أما في الحالة الفنزويلية، فكانت العقوبات بمنزلة مقتل لقطاع النفط في الدولة، نظراً إلى اعتمادها في التكرير على معالجات ومعامل خارج حدود فنزويلا، وأهمها شركة "CitGo"، التي سيطرت عليها الولايات المتحدة في إطار محاولات إسقاط الحكومة البوليفارية.
حين كانت حزمة العقوبات المفروضة على إيران أغلظ من العقوبات المفروضة على فنزويلا، ساهمت الأخيرة في إجراءات مساعدة تمكّن النفط الإيراني من الوصول إلى مناطق مختلفة في العالم. وقد ردّت إيران "الجميل" مضاعفاً، ومن ذلك:
o عندما حرّكت واشنطن إضراب الإدارات المتوسطة والعليا في شركة "بتروليوس دي فنزويلا" عام 2000، محاولةً إسقاط الرئيس الراحل هوغو تشافيز، كانت إيران وحدها تمتلك مفاتيح الحل للمعضلة الصعبة، فإعادة تشغيل المنشآت النفطية ذات الخصائص الفنية الغربية لم تكن أمراً سهلاً. وحدها الهندسة العكسية الإيرانية تمكّنت من إعادة تشغيل الآلات وقطع الطريق على واشنطن في توريط تشافيز في مشكلة عميقة.
o المشكلة التي أنتجتها السرقة الأميركية لشركة "CitGo" هي حرمان فنزويلا نفسها من المشتقات النفطية، وهو الأمر الذي عالجته إيران عبر حلول فورية وأخرى جذرية، بإرسال مشتقات نفطية جاهزة ومواد لازمة للتكرير وقطع غيار متوائمة مع المنشآت، والأهم العمل على تشغيل خط إنتاج متكامل للتكرير.
أفلتت إيران وفنزويلا من قبضة العقوبات الأميركية على قطاع النفط، وإن كانت تلك العقوبات قد أحدثت ضرراً اقتصادياً لا يمكن إنكاره. اليوم، تشنّ الدولتان هجوماً مضاداً على النهج الأميركي في عالم الطاقة، يتمثل في تنسيقهما الحثيث والمستمر في إطار "أوبك"، ومن ذلك أيضاً تقريب المسافة مع جهات مثّلت طويلاً الصوت الأميركي داخل "أوبك"، وأهمها السعودية.
في البعد الاستراتيجي للطاقة، يأتي اكتشاف حقل الليثيوم في إيران ليزيد الأمور تعقيداً أمام واشنطن، فمعنى أن تكتسب إيران تكنولوجيا استخراج الليثيوم وتمتلك رفاهية التجريب داخل حدودها، يعني ببساطة إمكانية توسيع التعاون التقني مع الدول التي ترفض تسليم هذه الثروة للشركات الأميركية، ومن ذلك بطبيعة الحال بوليفيا والأرجنتين وتشيلي، التي تمتلك كميات هائلة من هذا العنصر الثمين.
في مشوار العقوبات الأميركية ضد إيران وكوبا، كان رهان الولايات المتحدة الأميركية كبيراً على القطاع الطبي، فلم تكن تريد للاقتصاد وحده أن يصرخ، إنما المجتمع أيضاً. بعدما خرجت إيران من الحرب المحرّكة غربياً ضدّها في نهاية الثمانينيات، كانت كوبا على موعد مع انهيار المنظومة التي عزّزت تبادلها التجاري لعقود (الكوميكون). كانت هافانا بحاجة إلى تصدير أكثر ما تجيد صنعه (المنتجات الطبية والأدوية)، وكانت إيران بحاجة إلى هذه المنتجات.
يقول تقرير "الفورين بوليسي" المذكور سابقاً في هذا المقال: "بدأت هافانا بتصدير المنتجات الطبية الحيوية إلى إيران، ودرّبت العلماء الإيرانيين على استخدامها، وتمّ إرسال الفنيين الكوبيين إلى مراكز الأبحاث الإيرانية". مهما كانت تفاصيل هذا التعاون، فما وصل إليه الطرفان معاً اليوم، إيران وكوبا، هو تقدم كبير في ميدان التكنولوجيا الحيوية والطب المجتمعي والمعدات الطبية. كلّ ذلك أسَّس للحظة التعاون البحثي الثنائي أثناء جائحة كورونا. لقد كان هذا المشهد المتطور هو الثمرة التي حصدتها واشنطن من سياسة العقوبات على البلدين.
على المستوى الأمني، تعدّ واشنطن زيارة رئيسي دول أميركا اللاتينية الثلاث بمنزلة هزة عميقة لمبدأ مونرو، الذي تعتبر الولايات المتحدة أميركا اللاتينية، استناداً إليه، الحديقة الخلفية التي لا يسمح لأحد بـ"التدخل" فيها.
من زاوية عملية، إن الوجود الإيراني، والروسي والصيني كذلك، يعدّ تحدياً لسياسة "الأطواق القريبة" أو "الخواصر الرخوة" الأميركية على خصومها في العالم، فهي تتعمد الحضور أمنياً وعسكرياً على حدود تلك الدول (أذربيجان وأفغانستان بالنسبة إلى إيران، وتايوان بالنسبة إلى الصين، وأوكرانيا بالنسبة إلى روسيا)، إما لغايات الأمن السيبراني، وإما الحضور العسكري المباشر، وإما التجسس... الوجود الإيراني في هذه الدول يعني إمكانية الرد (وهو رد يعني الجميع بالمناسبة) على أي نشاطات سيبرانية أميركية ضدها.
يورد تقرير "الفورين بوليسي" معلومات عن هجمات إلكترونية إيرانية ضد الاتصالات الأميركية التي شكلت تهديداً للدولة الإيرانية، ومن ذلك التشويش على إشارات قمر اصطناعي لبث أخبار باللغة الفارسية. المسافات الجغرافية القريبة لازمة بالتأكيد للرد على هجمات السايبر الأميركية (قطع الكهرباء عن فنزويلا، خادمات الأخبار التضليلية في إيران وكوبا...).
الحضور في الجوار القريب لا يُختصر في السايبر، إنما أيضاً في الإعلام، وهناك فرصة حقيقية للمنصّات ووسائل الإعلام الناطقة بالإسبانية لاستكمال ما أحدثته حقيقة السياسة الأميركية نفسها في مزاج اللاتينيين بشأن سياسات واشنطن، فبحسب مركز "بيو" للأبحاث، التراجع في الرأي العام اللاتيني بخصوص السياسات الأميركية كبير وحادّ (البيرو من 70% إلى 51%، كولومبيا من 64% إلى 51%، البرازيل من 73% إلى 50%).
وإذا كانت وسائل الإعلام الأميركية تجتهد لخلق مزاج تضليلي بشأن "الثيوقراطية الدينية" و"الديكتاتورية الملحدة" و"قصة الحب بينهما"، فمن حقّ الطرف الآخر بث الرواية الحقيقية عن السياسة الأميركية في أميركا اللاتينية، من الانقلابات إلى فرض الإنجيلية على السكان الكاثوليك فيها.