"إسرائيل" للأجانب: لا تدخلوا الضفة.. ولا القدس (1/2)
الضفة المحتلة بكل ما فيها اليوم هي عمق المشروع الصهيوني، والقدسُ درة التاج منه، ولهذا يريد الاحتلال، ويزاحمه المستوطنون، العملَ في هذه المرحلة الحساسة بالحد الأدنى من "التشويش".
منذ الشهر الثاني من 2022 و"إسرائيل" تتحدث عن نيتها تعديل إجراءات دخول الأجانب إلى الضفة المحتلة. والأجنبي وفق التعريف الإسرائيلي هو الذي "ليس مواطناً ولا مقيماً في إسرائيل وغير مدرج في سجل السكان الفلسطينيين". مع ذلك، تشمل هذه التعديلات الفلسطينيين الذين يحملون جنسيات أخرى.
ثم، بين شهر وآخر، كانت تصدر الأخبار عن قرب تنفيذ هذه الإجراءات أو النية في الشروع فيها الشهر المقبل وهكذا. لكن، في كل مرة، تخرج اعتراضات أميركية وأوروبية ترجئ التنفيذ من جهة، وتجبر الإسرائيليين على مزيد من التعديلات التي كثرت وتعددت بين المشكوك فيها وبين ما يُنشر في الإعلام لجسّ النبض.
بدايةً، قالت "إسرائيل" إن هذه الإجراءات، التي لم تُبتّ بعد، ستكون تجريبية لعامين من تاريخها، لكن حتى هذا النص التجريبي لا يزال غير مطبق، وقد خضع للمراجعة مرات عدة منذ أيلول/سبتمبر الماضي بعد اعتراضات قانونية من جماعات حقوقية فحواها أن القانون الجديد من تسعين صفحة (كان أربع صفحات فقط) "يضفي الطابع الرسمي على الممارسات الإسرائيلية التمييزية"، أو كما وصفته "منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية" (هاموكيد) بأنه "مقيِّد إلى أقصى حد" ويفرض "معايير تدخّلية ومبهَمة".
كيف تعامل المعنيون مع الحدث؟
تناولت وسائل الإعلام الأجنبية أولاً الخبر منذ تموز/يوليو الماضي، وتبعتها العربية والفلسطينية، لكن كثيرين قاسوا الأمر بداية من زاوية محددة هي البند الذي يلزم الأجانب إبلاغ السلطات الإسرائيلية في غضون ثلاثين يوماً إذا وقعوا في حب فلسطيني أو فلسطينية!
شرعت المؤسسات المعنية في انتقاد القانون من هذه الزاوية على أنه انتهاك صارخ للخصوصيات، ناسية أو متناسية الانتهاكات القائمة أصلاً بحق الفلسطينيين والأجانب في الضفة على حد سواء، أو التي سوف تحدثها التعديلات. وهذا أسلوب إسرائيلي تكرر دوماً في حالات شبيهة، ويقوم على خلق أكبر عدد من الإشكالات للتغطية على قضايا محددة يُراد تمريرها دون سواها.
نتيجة الاعتراضات، سقطت مهلة الشهر لإعلان العلاقة الرومانسية، لكن ذلك لن يعفي الأجانب من رقابة المنظومة الإسرائيلية الأمنية، وفي تحصيل حاصل الإبلاغ بعلاقاتهم العاطفية وغيرها، مثل معلومات متعلقة بالممتلكات أو الميراث وصولاً إلى العلاقات الشخصية والوضع المالي.
ثمة وجه آخر استنفر المؤسسات الدولية العاملة في المناطق الفلسطينية هو القيود على العاملين فيها. والمنظمة الدولية في التعريف الإسرائيلي هي "منظمة دولية ناشطة في المنطقة ومعترف بها من وزارة الرفاهية أو الخارجية الإسرائيلية أو من الإدارة المدنية في وحدة تنسيق أعمال الحكومة في المناطق الفلسطينية (هذه الإدارة تابعة للجيش حالياً)".
من جهة ثانية، تقرر في التعديلات إلغاء الحصص المفروضة على عدد المحاضرين والطلاب الأجانب، لكن بقيت حصص للتأشيرات الطويلة الأجل للأطباء والمعلمين (ستشرح على نحو وافٍ في الحلقة الثانية). المتوقع أن يخنق هذا الأمر الاقتصاد والمجتمع الأكاديمي وكذلك قدرة منظمات على العمل، وأولى بوادره جاءت السبت 10/12/2022 حين قالت الأمم المتحدة: "نعرب عن قلقنا من عدم منح إسرائيل موظفينا في مكتب أوتشا التأشيرات اللازمة للدخول إلى الأراضي الفلسطينية لمباشرة عملهم".
هناك زاوية ثالثة عالج عبرها الإعلام التعديلات، محاولاً تفسير أهدافها، وهي منع نقل الرواية الفلسطينية بوضوح إلى الغرب لما لذلك من تأثيرات في العقد الأخير في صورة "إسرائيل"، إضافة إلى التضييق على مزدوجي الجنسية، إذ تخلق التعديلات تعقيدات لمئات الآلاف من العائلات الفلسطينية المزدوجة الجنسية التي تعاني أصلاً من نظام تصاريح ملتوٍ.
كذلك، جاء في النص الأصلي إن أزواج الفلسطينيين الأجانب سيُمنحون في البداية تصاريح مدتها ثلاثة أشهر أو ستة، وسيُطلب من معظمهم بعد ذلك مغادرة الضفة ستة أشهر قبل الحصول على تصريح جديد، لكنّ شرط البقاء خارج الضفة ستة أشهر لم يرد في مسوّدة لاحقة.
في التفاصيل، لن يتمكن أي أجنبي يرغب في دخول الضفة من الحصول على تأشيرة عند الوصول إلى "إسرائيل" وسيتعين عليه طلبها قبل 45 يوماً، وتحديد هل لديه عائلة من الدرجة الأولى أو هل يمتلك أرضاً أو قد يرث واحدة. كما لن يتمكنوا من الدخول عبر مطار "تل أبيب" إلا في حالات استثنائية، وعليهم الدخول عن طريق جسر الملك حسين بين الأردن والضفة ثم المعبر الذي تسيطر عليه "إسرائيل".
بالتوازي، تضمّن الأمر الإداري حظر دخول المولودين في الأردن ومصر والمغرب والبحرين وجنوب السودان إلى الضفة حتى لو كانوا يحملون جنسية ثانية ما عدا حالات استثنائية، علماً أن نحو 60% من الشعب الأردني لهم أصول فلسطينية (التعديل يشمل حملة البطاقة الصفراء). كما يبدو من صوغ العبارة أن من لديه أقارب في الضفة (إخوة أو أجداد أو أحفاد) ويحمل جوازاً أجنبياً لن يمكنه الحصول على تأشيرة زيارة.
ما وراء الأكمّة
كما جرت العادة مع "إسرائيل"، ثمة وراء الأكمّة ما وراءها، وبينما غرق الجميع في مناقشة تفاصيل القرارات وتأثيراتها، قل التساؤل عن الأسباب التي تدفع الاحتلال في هذا التوقيت إلى هذه التغييرات. فلماذا بعد 28 سنة على اتفاقات أوسلو ونحو عقد ونصف على الانتفاضة الثانية تتذكر "إسرائيل" تلك التعديلات؟
لا يوجد من سيقدم إجابة واضحة عن هذه التساؤلات بخلاف المنظومة الأمنية الإسرائيلية نفسها التي لم تكلف خاطرها عناء الشرح، مع أن "وحدة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية" التابعة لوزارة الأمن برّرت إجراءاتها بأنها "تجعل من الممكن إدارة طلبات التأشيرات بطريقة أكثر فعالية وأكثر تكيّفاً مع الظروف المتغيرة في الوقت الحالي"، وهو كلام فضفاض في السياسة والأمن.
لكن، تحضر بين ثنايا الكلام الإسرائيلي، في عدد من التقارير والمقالات، إشارات أكثر وضوحاً إلى قضايا عدة، آخرها اغتيال الصحافية شيرين أبو عاقلة في 11/5/2022، التي كانت تحمل الجنسية الأميركية، وقبلها استشهاد المسنّ عمر أسعد (78 عاماً) في 12/1/2022، الذي صادف أنه يحمل الجنسية نفسها.
وقد اشتعل خلاف أميركي-إسرائيلي على قتل أسعد الذي لم يكن يشكل أي خطر، وتُرك مكبلاً في ظروف قاسية على من في مثل سنّه ليكون شهيد الطقس البارد. من بعدها، انطلقت نقاشات أميركية إلى العلن للمرة الأولى حول أوامر إطلاق النار وإجراءات الاعتقال في الضفة والقدس، وهو ما أزعج "إسرائيل" التي لا تتحمل أي انتقاد، خاصة الغربي، في شأن تراه يمسّ أمنها المباشر.
فعلاً، لم يمضِ الشهر حتى بدأ الحديث في 2/2022 عن هذه الإجراءات التي تشمل الأجانب والفلسطينيين الذين يحملون جنسيات أخرى. لكن قطبة أخرى مخفية سبقت هذه الأحداث وقرعت جرس إنذار لدى المؤسسة الأمنية: عملية حاجز "زعترة" العسكري (2/5/2021) التي نفذها منتصر شلبي (44 عاماً) وانسحب بسلام قبل أن يجري اعتقاله بسبب وشاية إلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية.
تبين أن شلبي يحمل الجنسية الأميركية، ولم يكن هو الوحيد أو الأول الذي يحمل جنسية أخرى غير الفلسطينية وينفذ عملية، فتقرر أن يصار إلى محاسبة الفلسطينيين مزدوجي الجنسية في الضفة على أنهم أجانب قبل أن يكونوا فلسطينيين، بعدما كان يجري العكس. مثلاً، كان يمنع من يحمل هوية فلسطينية (البطاقة الخضراء) حتى لو كان كندياً أو بريطانياً من دخول مناطق 1948 من دون تصريح أمني.
هذه القضية تحمل تعقيدات كثيرة لا يفصح عنها مسؤولو الأمن الإسرائيليون، خاصة أن عوامل خطرة كادت أن تقود الانتفاضة الثانية إلى اتجاه مغاير، بعدما سبق أن استغل عناصر من حزب الله حمْلهم جنسيات أجنبية للدخول إلى فلسطين من أجل تنفيذ عمليات أو الإشراف على تدريبات، ومنهم الشهيد فوزي أيوب والجريح حسين المقداد، لكنّ إشكالات تقنية ولوجستية أعاقت ذلك المسار.
حتى إن حساسية هذه القضية تمسّ علاقات "إسرائيل" مع بلد عربي مثل الأردن الذي لديه 18 أسيراً في سجون الاحتلال هم فلسطينيون يحملون جوازات سفر أردنية، فكيف الحال بمن يحملون جوازات أوروبية وأميركية وكندية، وربما في يوم ما - قريب مثلاً - قد يكون هناك في السجون الإسرائيلية من هم من أصل أجنبي بحت، تماماً كما في قائمة الشهداء (ريتشل كوري مثلاً).
هذا كله يفسّر الإصرار الإسرائيلي على إبعاد الأسير صلاح الحموري (18/12/2022) من القدس إلى فرنسا التي يحمل جنسيتها بالرغم من الانتقادات الدولية، ليكون ذلك مثل بطاقة حمراء إزاء الضغوط في ملفات أخرى بين الإسرائيليين والأميركيين من جهة، والإسرائيليين والأوروبيين من جهة أخرى.
أهداف أكثر عمقاً
نخلص إلى أن ثمة نيراناً تحت المرجل عجّلت في الغليان وظهور فقاعات التعديلات والخلافات، مع أن مثل هذا الاهتمام لم ينل الفلسطينيون، ممن يحملون جنسيات أخرى أم لا، نصيباً منه، بالرغم من عقود من التشريد والقتل والإمعان في انتهاك الخصوصيات، بل حتى تحديد مسارات الحياة بناء على ما يريده الاحتلال.
إن الضفة المحتلة بكل ما فيها اليوم هي عمق المشروع الصهيوني، والقدسُ درة التاج منه، ولهذا يريد الاحتلال، وبخاصة "الجيش" ويزاحمه المستوطنون، العملَ في هذه المرحلة الحساسة بالحد الأدنى من "التشويش"، وهذا ما يستوجب تقليل، أو حتى إنهاء، دخول الأجانب إلى فلسطين، في حين أن القناصل والسفراء هم إما جزء من اللعبة، وإما يمكن تقديم ما يجب من صورة محددة إليهم.
لقد اكتشف الإسرائيليون أن التأثير الكبير للتضامن مع فلسطين لم يكن حصراً بسبب مواقع التواصل الاجتماعي التي تشارَكت معها في تحديد سياسات صارمة اتجاه "المحتوى الفلسطيني"، وإنما بسبب الشهادات التي ينقلها الأجانب إلى شعوبهم، وهي شهادات حية لا تقبل التكذيب، وأدت على مدار عقود إلى تغيير الصورة على نحو ملموس.
مشكلة المرحلة المقبلة إسرائيلياً أنه لم يعد في إمكان الحكومة و"الجيش" إخفاء "دولة المستوطنين" التي تكونت ونضجت في الضفة. فهؤلاء خلال إحدى عربداتهم ربما يقتلون أجنبياً هنا أو هناك، ما سيمثّل في حال تكرر مرتين أو ثلاثاً خلال سنة مثلاً إحراجاً كبيراً، خاصة مع وجوه الحكومة الجديدة، فلا بد من التغطية على هذه الدولة ونتائجها بتخفيض أكبر عدد من الأجانب ومزدوجي الجنسيات، ممن يؤدي قتلهم أو اعتقالهم أو الاعتداء عليهم إلى أزمات، كما أظهرت وتظهر التجارب.
فوق ذلك، هناك تقدير إسرائيلي أن مزدوجي الجنسيات لهم دور ما في نقل التمويل والخبرات والتسليح إلى داخل فلسطين، وهذا ما أظهره بعض التحقيقات مع الأسرى والمعتقلين، ليجد الإسرائيلي نفسه مضطراً إلى تطبيق نموذج ما فعله مع لبنان بين 2015 و2019، حين قرر أن أي تواصل من لبناني مع فلسطيني في الضفة أو القدس أو مناطق 1948 هو مشبوه حتى لو كانت هيفاء وهبي هي المتصلة، وفق ما عبّر محقق إسرائيلي لأسير في إحدى الجلسات.
أياً يكن، إن الاحتلال في أساسه فلسفة قبل أن يكون جيشاً ومؤسسات أمنية ودولة وأذرعاً تنفيذية وخلاف ذلك. وبعيداً من الأسباب الدقيقة أو التقديرية سيكون أفضل مشهد للاحتلال أن تبقى الساحة أمامه خالية من أي عنصر قد يشوش بطريقة أو بأخرى على مخططاته، حتى لو بنسب متدنية.
مع ذلك، لا بدّ دوماً من التذكير بأن احتلال المكان سلوك لا يقتصر على الحواجز والجدر والأسلاك الشائكة، بل هو فكرة يريد المستعمِر أن يزرعها في عقل المستعمَر قبل كل شيء، وهذا أمر من الصعب مناقشته في مثل هذا الموضوع المركّز الاهتمام. لكن، لا ضير في التذكير بأن هذه الضجة وقعت لأن هناك جوازات أجنبية في النقاش، وإلا تكفي نظرة ملخصة إلى الواقع الفلسطيني من حيث حرية التنقل والحركة، ليُعلم أنْ لا جديد تحت الشمس.
فابن الضفة مثلاً لا يستطيع دخول القدس أو مناطق 48 إلا بتصريح، إضافة إلى عذاباته في التنقل بين مدن الضفة نفسها، فضلاً عن أن عدداً كبيراً من أهالي الضفة ممنوعون أمنياً من السفر خارجها عبر الأردن وغيره. أما غزة، فإنها حلم بعيد المنال بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الضفيين.
بالنسبة إلى الغزيين، يحتاج كل ما سبق، الضفة والقدس ومناطق 48 والعبور إلى الأردن، إلى تصريح إسرائيلي محدد وخاص، فضلاً عن الاستحالة الكبيرة لإمكانية الإقامة الدائمة في أي من تلك المناطق. أما حملة هوية القدس أو بطاقة الهوية الزرقاء (فلسطينيو الـ 48)، فصحيح أن في إمكانهم التجوال داخل مناطقهم والضفة والسفر عبر الأردن أو المطارات والموانئ الإسرائيلية، لكن غزة بالنسبة إليهم خط أحمر.
في المحصلة، لا يملك الفلسطيني داخل فلسطين نفسها حق التنقل أو الإقامة أين يشاء ووقت يشاء، بسبب قمع الاحتلال أما اليهودي فلا يملك هذا الامتياز لأسباب أمنية. ووراء هذا كله تحضر قضية أن من حصل على جنسية أجنبية، سواء من سكان القدس أو الضفة، الأفضل له من وجهة نظر الاحتلال البقاء في الخارج، وذلك عبر خلق بيئة طاردة أكثر فأكثر، ليجد الفلسطيني صاحب الجنسية الأخرى أن التعامل معه كنصف فلسطيني ونصف أجنبي انقلب من امتياز إلى جحيم.
بعد هذا العرض، ستسلط الحلقة المقبلة الضوء على الوضع القائم والتعديلات الجديدة وتفاصيلها، وتحديداً انعكاسها على "المجتمع الأكاديمي" وبرامج تبادل الطلبة، لتستكمل توضيح الأسباب الكامنة وراء هذا القرار، وليس أخيراً بعض الردود عليه خاصة الأميركية، ومستقبل الصراع في الضفة انطلاقاً من هذا الخلاف المستجد.