أوروبا بين السلام الفنلندي و"الناتوية"

لطالما حاولت الدول الغربية على ضفتي الأطلسي أن تظهر للعالم وجهين لـ"الناتو"، أحدهما وجه الردع العسكري الصلب الذي يراد منه إخافة الأعداء، وجعلهم يفكرون كثيراً قبل المغامرة في استهداف دول الحلف ومصالحه، والآخر هو وجه القيَم الموحدة بين الدول الأعضاء.

  • أوروبا بين السلام الفنلندي و
    أوروبا بين السلام الفنلندي و"الناتوية"

قبل نحو أسبوعين من انعقاد قمة حلف شمال الأطلسي في مدريد، أعلن الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ عما وصفها بـ"الوثيقة الأهم للناتو"، وهي العقيدة الاستراتيجية الجديدة التي سوف تعكس التغيّرات العالمية، وتتصدى لتأثير كل من روسيا والصين في أمن الفضاء الأطلسي.

لقد شكّل هذا الإعلان، بالإضافة إلى تصريحات المسؤولين الغربيين، مناخاً ترويجياً لمخرجات القمة التي استضافتها العاصمة الإسبانية، وحضر فيها الحلفاء على ضفتي الأطلسي، من أجل مواجهة التحديات الكبرى الراهنة، وفي طليعتها انعكاسات الأزمة الأوكرانية، بالإضافة إلى التهديدات الاستراتيجية التي تواجه الحلف، واستمرار تنفيذ سياسة الباب المفتوح لضم دول جديدة، وقد شهدت القمة إطلاق مسار ضم كلاً من فنلندا والسويد إلى الحلف.

لكن التدقيق في ما أعلن من مضامين العقيدة الجديدة الصادرة عن قمة مدريد يشير إلى استمرار النهج السابق للعقيدة الأطلسية السابقة، مع تصعيد النسق، إذ إن إعلان روسيا كتهديد رئيس ومباشر للحلف لم يكن جديداً في الوثيقة الحالية، بينما كان جديداً أن توضع الصين في عين الحلف من باب شراكتها مع روسيا. 

حلف دفاعي أم توسعي؟

لطالما حاولت الدول الغربية على ضفتي الأطلسي أن تظهر للعالم وجهين لـ"الناتو"، أحدهما وجه الردع العسكري الصلب الذي يراد منه إخافة الأعداء، وجعلهم يفكرون كثيراً قبل المغامرة في استهداف دول الحلف ومصالحه، والآخر هو وجه القيَم الموحدة بين الدول الأعضاء، والتي عادةً ما كانت تُزيَّن للدول الجديدة الراغبة بالانضمام، أو تلك التي يتم ترغيبها بالدخول إلى هذه المحمية الأمنية، التي تضمن للأعضاء استقراراً أمنياً مؤيداً بقدرات الإمبراطورية الأميركية من جهة، وتسويقاً سياسياً وقيمياً يجعل من العضو الجديد وافداً مقبولاً إلى نادي ما يسمى بـ"المجتمع الدولي"، وهو التسمية العصرية للدول الغربية المتحالفة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.

في العام 1949، عند تأسيس "الناتو"، كان البعد القيمي مهماً جداً في سياق الصراع، الذي بدأ يظهر بين المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، الحلفاء الغربيين والاتحاد السوفياتي. فهذا الأخير، كان يمثل منظومةً قيميةً مختلفة تماماً عن المنظومة الغربية من مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية… وكان مجموع القيم الموزعة على هذه المجالات كلها يحدد الإطار العام الذي يشكل صورة كل واحدة من هاتين الإمبراطوريتين العالميتين. 

لقد انطلق "الناتو" بتجمع 12 دولةً مهجوسةً بخطر توسع الاتحاد السوفياتي في أوروبا، من خلال تصدير النظام الشيوعي إلى الدول التي كانت تعاني من التداعيات المدمرة للحرب العالمية الثانية، خصوصاً بعد الدور الكبير الذي أدّاه السوفيات في القضاء على النازية. لقد هزمت النازية، تاركةً البلاد التي حكمتها مدمرةً على نطاقٍ واسعٍ. وفي الوقت نفسه، كانت صورة الجنود السوفيات يرفعون علمهم على مبنى البرلمان الألماني "رايخستاغ" تنذر بحقبةٍ جديدة قد يتسع فيها نفوذ الاشتراكية في أوروبا، الأمر الذي استدعى فيما استدعى إليه، تأسيس حلف شمال الأطلسي، وإطلاق مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا بعد الحرب الثانية.

ومع مرور الوقت، وانطلاق المواجهة الكبرى الباردة بين المعسكرين، كانت قدرة "الناتو" على ضم الدول لا تزال غير طاغية، فلم تنضم إليه، منذ تأسيسه وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1990، سوى أربع دولٍ فقط هي: ألمانيا، إسبانيا، اليونان وتركيا، فيما خرجت فرنسا من البنية العسكرية للحلف في العام 1966 ولم تعد إلا في العام 2008.

في المقابل، تأسس حلف "وارسو" في العام 1956 ليشكل الذراع العسكرية للمنظومة الاشتراكية المنافسة، ومن مقره في العاصمة البولندية كان الحلف يقيم توازناً عسكرياً يمنع توسع حلف شمال الأطلسي، ويضبط الرغبة الأميركية في ضم دول إضافية، مستنداً بذلك إلى قدرة الردع التي امتلكها من جهة، وتردد الأوروبيين وعدم مخاطرتهم باندلاع مواجهة كبيرة مع السوفيات في الفضاء الأوروبي. 

استفاد العالم من هذا التوازن طوال مرحلة الحرب الباردة، إلى أن تفكك حلف "وارسو" في العام 1989، مع انهيار الاتحاد السوفياتي. في تلك اللحظة، لم يعد من مبررٍ لبقاء حلف شمال الأطلسي بعد حل غريمه، وانتفاء التهديد الذي كان يمثله. لكن ذلك لم يحصل، بل استمر "الناتو"، وسرّع من توسعه نحو الشرق، ليغتنم فرصة ضعف روسيا، وعدم وجود قوة قادرة على منعه، وغيّر الأوضاع في شرق أوروبا فأدخل بولندا وجمهورية التشيك والمجر في العام 1999، ثم ضم 9 دول بين عامي 2004 و2009 (منها دول البلطيق الثلاث لاتفيا وليتوانيا وأستونيا)، ليتابع توسعه في العام 2017 مع دخول الجبل الأسود ومقدونيا.

مهمات خارج الفضاء الأطلسي

إذاً، في سياقٍ طبيعي، كانت ستنتفي علّة وجود "الناتو" بعد تفكيك حلف "وارسو"، لكن قادة الحلف الغربي لم يفعلوا ذلك، بل وسّعوه منذ التسعينيات بصورةٍ أكثر تسارعاً لا ليضم دولاً جديدة فحسب، بل ليعدل من مهماته التي كانت دفاعيةً، بحسب ميثاق تأسيسه، ويعلن "الحرب على الإرهاب"، ويشارك في اجتياح أفغانستان، وهناك كانت تجربة الحلف ضعيفة عسكرياً، إذ واجه صعوبةً في حشد الجنود المقاتلين الذين ترددت دولهم في إرسالهم إلى الحرب، واختلفت فيما بينها حول أي منها يتوجب عليها أن ترسل أعداداً أكبر، فيما بقي الاعتماد على الجيش الأميركي بصورةٍ أساسية. وبالنتيجة النهائية لهذا الاجتياح، خرج "الناتو" من أفغانستان ولحقت به الولايات المتحدة، وعادت إلى الحكم حركة طالبان، وهي الجهة نفسها التي اجتيحت أفغانستان للقضاء عليها. لكن المدهش في هذه التجربة الأطلسية كان تصريح القيادة الأميركية عقب الانسحاب بأنهم لم يذهبوا إلى أفغانستان لبناء دولة هناك.

لا تزال سياسة الباب المفتوح هي الاستراتيجية المتبعة بخصوص ضم الدول الجديدة، وبالتالي فإن النص المؤهل للدول للانضمام يشير إلى استقبال أي دولة أوروبية تساهم في أمن منطقة شمال الأطلسي، وهي تدخل بعد طلبها الانضمام في مسار تحديد السياسات الأمنية والمعايير السياسية لتتناسب مع منظومة القيم الأطلسية، ويبقى البت في أمر طلبات العضوية مرهوناً بآراء الدول الأعضاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من هذه السياسة التوسعية، لا تزال حتى اللحظة 20 دولةً أوروبية خارج "الناتو"، وعلى رأسها روسيا التي حاولت في التسعينيات الاندماج في منظومة الأمن الأوروبية، وجس رئيسها فلاديمير بوتين نبض الرئيس الأميركي جورج بوش الابن حول موقف بلاده من احتمال طلب روسيا الانضمام، وتلقيه جواباً غير مشجع (معلومة كشفها بوتين خلال العام 2022 بعد انفجار الأزمة الأوكرانية). وبالإضافة إلى روسيا، هناك أيضاً أوكرانيا التي انفجرت الحرب فيها بفعل نيات ضمها إلى الحلف، ومن هذه الدول فنلندا والسويد اللتان أعلن عن ترشيحهما للعضوية، وتبقى خارج "الناتو" 16 دولةً أوروبية أخرى هي: النمسا، أرمينيا، جورجيا، سويسرا، آذربيجان، أيرلندا، صربيا، بيلاروس، كوسوفو، البوسنة والهرسك، مالطا، إمارة موناكو، مولدوفا، سان مارينو، أندورا وقبرص.

واليوم، يقول القادة الغربيون إن حرب أوكرانيا هي التي قلبت العلاقات بينهم وبين روسيا من حالة الشراكة إلى حالة العداء. لكن استرجاع أدبيات "الناتو" طوال العقود الثلاثة الفائتة يظهر عكس ذلك. فلطالما أشارت مواثيق "الناتو" إلى مفهومين متناقضين، أولهما أن روسيا تشكل تهديداً دائماً وكبيراً لدول الحلف، وثانيهما أنها شريك كبير لهم. لكن الممارسات الأطلسية أثبتت خلال هذه العقود المشار إليها أن رؤية الأطلسيين لروسيا تنطلق دائماً من تصنيفها كتهديدٍ حقيقي. حتى أن الجولات الطويلة في مجلس روسيا-الناتو كانت تسودها دائماً أجواء الارتياب من الدور الروسي المتصاعد.

لقد وجه قادة "الناتو" المجتمعون في مدريد الدعوة الرسمية لفنلندا والسويد للانضمام، وفي بال الدول المنضمة أن ذلك سيساعد في تعزيز أمنها، فيما الحقيقة أن دخول الدول إلى "الناتو" في إطار البيئة العدائية التي تضمنتها العقيدة الاستراتيجية الجديدة التي أعلن عنها في القمة، يزيد من المخاطر الأمنية على الدول المنضمة، إذ إن دخولها إلى الحلف يعني وصول جنود أميركيين بالدرجة الأولى إلى أراضيها، لمواجهة روسيا. ووجود هؤلاء الجنود سوف يجعل البلاد التي يتمركزون فيها عرضةً للمتابعة الأمنية والرصد العسكري بالضرورة، وهو ما يمكن أن يزيد من المخاطر وليس زيادة الأمن.

أوروبا الناتوية

لقد كان تعليق الرئيس الأميركي في قمة مدريد بالغ الدلالة حين علق على الحياد الطويل الأمد الذي كانت تتمتع به فنلندا مع روسيا، قائلاً: "إن بوتين كان يريد أن تصبح أوروبا فنلندية، وبدلاً من ذلك، أضحت أوروبا ناتوية"، وهو ما يمكن أن يعني عكس مقصد بايدن نفسه، أي أن بوتين يريد السلام الأوروبي بينما يريد هو عسكرة الدول الأوروبية وجعلها "ناتوية"، وإرسال المزيد من الجنود إليها، وإرهاقها بالإنفاق العسكري مجدداً، لمواجهة "عدو" يطلب بدوره "ضمانات أمنية" فحسب.

 وها هو ستولتنبرغ يتحدث عن تغيير جوهري في كيفية توزيع الحلف لقواته في مهمات الردع والدفاع. "سوف نعزز قواتنا القتالية على الجانب الشرقي، ونزيد قوات الرد السريع لدينا إلى 300 ألف، وسننشر المزيد من المعدات والمزيد من مراكز القيادة"، يقول الأمين العام للحلف.

لكن هذا التوجيه العدائي للأوروبيين لا يمكن أن يحدث من دون ثمن باهظ، فالدول الأوروبية التي ستنتقل، وفق تصنيف بايدن "من حالة السلام الفنلندي إلى الحالة الناتوية"، ستضطر إلى تخصيص ميزانيات إضافية مضاعفة للإنفاق العسكري، في الوقت الذي تعاني من تداعيات الأزمات المتزامنة، والتي يعود سبب بعضها إلى الصراع الدائر مع روسيا. ففي حين ستكافح هذه الدول للحصول على الغاز والنفط والمواد الأولية وتلك الغذائية بأسعار معقولة، سوف تكون ملزمةً بزيادة الإنفاق العسكري، وبالتالي فإنها ستضطر إلى طلب المساعدة الدائمة من واشنطن، والمساعدة بحسب النهج الأميركي الذي كشف ترامب وجهه تعني الدفع مقابل الحماية، ما يعني حكماً المزيد من السيطرة الأميركية على الفضاء الأطلسي بضفتيه.

في تعليقه على القمة الأطلسية، بدا رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن كريستوف هويسغن متحمساً حين قال إن: روسيا الآن عدونا، وهي دولة تنتهك القانون الدولي وترتكب جرائم حرب - ويجب على "الناتو" الرد على ذلك.

لكن هذه الحماسة تعني بالضرورة التعبير عن الخوف لا عن القوة، فالإدارة الأميركية تمارس حرفياً القاعدة التي تقول إنك "إذا أردت السيطرة التامة على أحد ما، اجعله يبقى خائفاً"، وهم بتغذيتهم التاريخية والحالية للـ"روسوفوبيا" في أوروبا يضمنون الانصياع التام للحلفاء، والانتظام خلف واشنطن في مواجهة كبرى، ليس مع روسيا فحسب، بل مع الصين، وإلا ما معنى إشارة العقيدة الجديدة إلى ضرورة مواجهة "الناتو" للشراكة الروسية-الصينية؟ ما دخل الصين بالفضاء الأطلسي؟ وكيف يمكن لحلف "أطلسي" أن يشمل في عقيدته مواجهة الصين؟ 

إنها ليست حرب أوكرانيا، وليس خوف الأوروبيين من بوتين، وليس ضمان إمدادات الطاقة وحدها، بل كل ذلك مجتمعاً وأكثر، إنه صراع الإمبراطورية الأميركية لإبقاء التفوق، وصراع روسيا والصين للتعددية، وصراع بقية العالم للعيش.