أميركا والهند... تقارب المصالح للحدّ من التمدّد الصيني
عملت الهند على استغلال المخاوف الأميركية لتخفيف حدة العداء الأميركي لها، والعمل ما أمكن للاستفادة من الدعم الأميركي لها بوصفها قوة نووية آسيوية قادرة على منافسة الصين والحد من طموحاتها.
لم تعد الولايات المتحد الأميركية تنظر إلى الصين بوصفها مجرّد منافس استراتيجي فقط، بل انتقلت للعمل على احتوائها بوصفها عدواً يسعى لإنزالها من قمة الهرم الدولي. وانتقلت حالة التنافس بين البلدين من مجرّد صراع بينهما، إلى ما يمكن أن نسميه بـ "صراع التحالفات"، بعد أن سعت كل دولة لبلورة تحالفاتها مع غيرها من الدول. فالولايات المتحدة وفي سعيها لاحتواء الصين عملت على نسج شبكة من التحالفات مع الدول المحيطة ببكين، التي تعيش حالة من الذعر والخوف لمن يجاور عملاقاً بحجم بكين.
الصين ورغم جميع محاولاتها التخفيف من مخاوف تلك الدول، إلا أنها فشلت في طمأنتها وإزالة المخاوف التي تعيشها، وذلك عائد لاعتبارات فرضتها الجغرافية السياسية للدول (كل دولة عدوّ لجارتها)، ونتيجة للتدخلات الأميركية في شؤون المنطقة، حيث عملت على تعزيز تلك المخاوف وتغذيتها. تلك التحالفات الأميركية اتخذت عدة تسميات، ووضعت أهدافاً مختلفة، لكن أهدافها الأساسية كانت تتمحور حول فكرة واحدة وهي "احتواء الصين" والعمل على إضعافها.
وكانت الهند من أهم الدول التي استفادت من تلك المخاوف الأميركية من الصعود الصيني، فعملت على استغلال تلك المخاوف لتخفيف حدة العداء الأميركي لها، والعمل ما أمكن للاستفادة من الدعم الأميركي لها بوصفها قوة نووية آسيوية قادرة على منافسة الصين والحد من طموحاتها. ولا سيما أن هناك خلافات حدودية تاريخية بين الهند والصين، وتلك الخلافات لم تجد الدولتين طريقة لحلها، فباتت نوعاً من "النزاعات المجمّدة" القابلة للانفجار في أي لحظة.
تتمتع الهند بمجموعة من المزايا التي تجعلها منافساً حقيقياً مستقبلياً لبكين، ومن أهم تلك المزايا: عدد السكان ونوعيتهم وتركيبتهم العمرية، فالهند باتت الدولة الأولى من حيث عدد السكان في العالم، متجاوزة بذلك الصين. والأهم من ذلك أن الشعب الهندي شعب فتي أكثر من الشعب الصيني، وهو ما ستكون له انعكاسات إيجابية كبيرة على الاقتصاد الهندي في الفترة المقبلة. وهناك عدد كبير من السكان يتكلمون اللغة الإنكليزية، يقدّر بـنحو 150 مليون شخص، وبالتالي هم أكثر قدرة على التواصل والتفاعل مع باقي دول العالم، وهي ميزة يفتقدها الشعب الصيني.
تحتل الهند المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة من حيث عدد القادرين على الحديث باللغة الإنكليزية، بينما تأتي الصين في المرتبة الحادية والعشرين، كما أن اللغة الصينية تعتبر لغة صعبة، ولا يعرفها إلا عدد قليل من الأجانب، وهو ما يقلّل من التواصل بين الصينيين وباقي شعوب العالم. إضافة إلى كون الصينيين لا يستخدمون برامج التواصل الاجتماعي التي تستخدمها باقي الدول، كما أن لديهم محرّك بحث على الإنترنت خاص بهم، كبديل عن محرّك غوغل الشهير الذي يستخدم في جميع دول العالم ربما.
كلّ هذه الأسباب تشكّل عائقاً أمام تعزيز القوة الناعمة لبكين، وهو ما بدأت بالعمل عليه في السنوات الأخيرة عبر تأسيسها لمحطات إعلامية ناطقة بلغات أخرى، كما اتجهت إلى زيادة عدد الطلبة الدوليين والخبراء الأجانب سعياً منها لتعزيز قوتها الناعمة. ولأنّ النظام في الهند "أكثر ديمقراطية" من الصين وفقاً للرؤية الأميركية والأوروبية، ونتيجة لتمكّن عدد كبير من الهنود من اللغة الإنكليزية، فقد باتت الشركات الهندية العاملة في مجال الخدمات التكنولوجية قبلة للمشروعات الأوروبية، نتيجة لرخص الخدمات التي تقدّمها مقارنة بالشركات الأوروبية، ونتيجة للتفوّق الهندي في هذا الجانب.
تسعى الهند للاستفادة من نموذج التنمية الصيني عبر تقديمها العمالة الرخيصة، وهو ما سيشجّع الشركات الأجنبية على الانتقال للعمل في نيودلهي كما حدث مع شركة آبل التي انتقلت إلى الهند في العام 2021، نتيجة لسياسة صفر كوفيد التي كانت مطبّقة في الصين. وكانت الشركة قد أعلنت أنها أنتجت هاتفها آيفون 14 في الهند، رغبة منها في تنوّع سلاسل التوريد الخاصة بمنتجاتها بدلاً من التركيز على الصين.
وعلى الرغم من الخلافات التاريخية بين الهند والولايات المتحدة الأميركية، إلا أن الأخيرة باتت تدعم التوجّهات التنموية الهندية، لتكون الهند منافساً حقيقياً قادراً على الحد من التمدّد الصيني في العديد من مناطق العالم، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، التي كانت تاريخياً منطقة نفوذ للولايات المتحدة.
نتيجة لهذه الرؤية الأميركية والتوجّهات الجديدة لدى دول المنطقة، وخاصة الدول الخليجية، التي باتت تبحث عن التنوّع في تحالفاتها وشراكاتها الاقتصادية، فقد نجحت الهند في تعزيز شراكاتها الاقتصادية مع تلك الدول، وخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
تأتي الهند في المركز الأول عالمياً من حيث أعداد المغتربين حول العالم، حيث بلغ عدد الهنود المسافرين خارج الهند نحو 17.5 مليون مغترب، بحسب تقرير الأمم المتحدة للمهاجرين الدوليين الصادر عام 2019. ومع ذلك، تُرجِّح العديد من المصادر أن العدد الحقيقي للمغتربين الهنود يصل إلى 22-25 مليوناً في الوقت الراهن. نصف هؤلاء المغتربين تقريباً يعيشون في دول الخليج العربي، حيث يوجد هناك نحو 10 مليون عامل هندي، وهو ما يجعل دول مجلس التعاون الخليجي تضم أضخم تجمّع للهنود في العالم.
العلاقات الهندية مع دول الخليج هي علاقات تاريخية، وباتت الهند ثالث أكبر مستورد من الدول الخليجية، وثالث أكبر مصدّر لها. وبلغ حجم التبادل التجاري بين الهند والسعودية في العام الماضي 39 مليار دولار، منها 33 مليار دولار كصادرات هندية إلى المملكة، بينما لم تتجاوز الصادرات السعودية إلى الهند 6 مليارات دولار.
وتشهد العلاقة بين البلدين تطوّراً كبيراً، حيث أعلن الأمير محمد بن سلمان نيته استثمار 100 مليار دولار في الهند خلال السنوات المقبلة. أما العلاقة بين الهند والإمارات العربية المتحدة فقد كانت هي الأكبر والأهم بين دول المنطقة، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام الماضي نحو 60 مليار دولار، ومن المتوقّع أن يصل إلى 80 مليار دولار في العام الحالي.
وتشكّل الإمارات 40% من حجم تجارة الهند مع الدول العربية جميعها، كما أن للهند استثمارات كبيرة في الإمارات تصل إلى 50 مليار دولار. هذا التعاون الكبير بين الهند والإمارات العربية المتحدة ناتج من كون الإمارات تشكّل ميناءً لدخول البضائع الهندية إلى المنطقة العربية كلها.
واليوم، وفي ظل التنافس السعودي الإماراتي، فقد باتت المملكة متحمسة للاستحواذ على كل شيء، بوصفها الدولة الخليجية الأكبر، والدولة العربية الأهم. وخاصة بعد زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة في العام الماضي، وعقد القمم العربية الصينية فيها، بمعنى أنها أصبحت مدخل الصين إلى العالم العربي.
لذا فقد طلبت السعودية من الشركات الأجنبية العاملة فيها، والتي تتخذ من الإمارات مقراً لها، أن تبادر بنقل مقارّها إلى المملكة، وإلا ستحرم من العمل والاستثمار فيها. كذلك الأمر بالنسبة للعديد من المحطات الفضائية السعودية التي كانت تعمل من دبي، حيث بدأت بنقلها إلى المملكة، في ظل الانفتاح الذي باتت تعيشه الرياض اليوم.
والشيء نفسه حدث مع الخبراء الأجانب الذين يعملون في شركة آرامكو السعودية للنفط، حيث كان العديد منهم يعيشون مع أسرهم في البحرين، ويذهبون إلى العمل في المملكة ثم يعودون إلى البحرين، مستفيدين من الكم الكبير في عدد رحلات الطيران بين البلدين، ورخص ثمن التذاكر. لكن ذلك لم يستمر، إذ طلب منهم نقل أسرهم والاستقرار في المملكة.
الدور الأميركي في تعزيز الحضور الهندي
منذ استقلالها عن بريطانيا في العام 1947، كانت علاقة الهند مع الولايات المتحدة تتميّز بالتوتر والتناقض. ومع بدء الحرب بين الهند والصين في العام 1962 قامت الولايات المتحدة بالوقوف إلى جانب نيودلهي ودعمها. لكنّ ذلك الموقف لم يستمرّ طويلاً، ونتيجة لحاجة الولايات المتحدة لبكين في صراعها مع الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب الباردة، فقد اقتربت من الصين وأقامت علاقات استراتيجية معها وصلت إلى حد نقل مقعد الصين في الأمم المتحدة من تايوان إلى بكين في العام 1971.
كما دعمت الولايات المتحدة باكستان، اقتصادياً وعسكرياً، في حربها مع الهند، وفرضت العقوبات على نيودلهي بسبب تجاربها النووية. بمعنى أن الولايات المتحدة كانت معادية للهند ورافضة لظهورها كقوة إقليمية كبيرة ومهيمنة في منطقة جنوب آسيا. وفي التسعينيات من القرن الماضي، قامت الولايات المتحدة بحظر التكنولوجيا على الهند، وفرضت مزيداً من العقوبات الاقتصادية عليها بسبب تجاربها النووية.
وفي العام 1998 حدث تصادم مباشر بين الولايات المتحدة والهند فيما عرف بـعملية "بوكران الثانية"، حين قامت الهند بخمس تجارب نووية، معلنة بذلك امتلاكها للسلاح النووي، وهو ما أدى إلى فرض عقوبات عليها من قبل الولايات المتحدة واليابان. وفي العام 2000 حدث تطوّر إيجابي كبير في العلاقة بين البلدين حينما قام الرئيس بيل كلينتون بزيارة الهند، وكانت الزيارة الأولى لرئيس أميركي منذ عقدين من الزمن.
وفي العام 2005، وبعد الاتفاق النووي بين البلدين، والذي وافقت بموجبه الهند على إخضاع برنامجها النووي لرقابة هيئة الطاقة النووية، تطوّرت العلاقات بين البلدين وأصبحت أكثر عمقاً واستراتيجية. ومنذ العام 2007 بدأت الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا حواراً أمنياً شكّل النواة لتأسيس التحالف الرباعي (كواد)، بهدف مواجهة توسّع نفوذ الصين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وهو ما اعتبرته بكين "ناتو آسيوي".
بمعنى أن هذا التحالف يعيد العالم إلى "عقلية الحرب الباردة"، وهي العبارة التي تردّدت كثيراً على لسان المسؤولين الصينيين في انتقاداتهم لسياسة بايدن، وذلك لأنّ بايدن كان موجوداً منذ ذلك الوقت، ويبدو أن نمط تفكيره السياسي لم يتغيّر. لقد بدأت الولايات المتحدة تفكّر بالعودة إلى المنطقة، وتعتقد أنها ارتكبت خطأً بالخروج منها. وهو ما سمح لموسكو وبكين بالمزيد من التعاون مع دول المنطقة. وانطلاقاً من الهدف الأهم لأميركا وهو احتواء الصين، فقد رأت أن تشجيع الهند ودول المنطقة على المزيد من التعاون سيحقّق لها ذلك الهدف.
لذا فقد شجّعت مشروع بناء سكة حديد تربط الهند بالسعودية والإمارات وباقي الدول العربية، لتشكيل مشروع بديل عن "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، خاصة وأن الهند تمتلك القدرة على تنفيذ مشروعات البنية التحتية اللازمة لذلك. ولم تعلن الولايات المتحدة نيتها أن تكون "إسرائيل" جزءاً من المشروع حتى الآن، كي لا يثير ذلك حفيظة بعض الدول العربية.
لكنّ "إسرائيل" ستكون جزءاً من المشروع وستنضم إليه لاحقاً بكل تأكيد، خاصة وأنه كان قد طرح في منتدى مجموعة (I2U2)، وهو المنتدى الذي يضم "إسرائيل" إلى جانب الولايات المتحدة والإمارات والهند. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن الهند ما زالت تحاول البقاء خارج لعبة التحالفات الدولية، وتراهن ربما على أن أي صدام، فيما لو حدث بين الصين والولايات المتحدة، فإنه سيكون حتماً في مصلحتها، ويقلّص من الوقت اللازم لتقدّمها نحو قمة النظام الدولي.
كما أنها تدعم فكرة تغيير النظام الدولي الحالي، لأنه لم يعد مناسباً لتوزّع القوى الكبرى على الساحة الدولية. ويبدو أنها لن تغفر للولايات المتحدة استبعادها من مجلس الأمن الدولي كقوة آسيوية ثانية إلى جانب الصين، بينما أعطت مقعدين دائمين في حينه لكل من بريطانيا وفرنسا الأوروبيتين.
الصين لن تقف مكتوفة الأيدي تجاه طوق التحالفات الذي تنسجه واشنطن حولها، لذا فقد بدأت بالتوجه نحو الباكستان وأفغانستان ودول آسيا الوسطى. فباكستان هي العدو التاريخي للهند، والوصول بمبادرة الحزام والطريق نحو أفغانستان سيوصل الصين براً بإيران التي تربطها شراكة استراتيجية معها.
إضافة إلى المكاسب الاقتصادية والأمنية التي ستحقّقها بكين من علاقتها بأفغانستان، فإنها ستسعى لتكريس نموذج تنموي جديد في أفغانستان، سيكون فيما لو كتب له النجاح، مثالاً على الشراكات الاقتصادية التي تطرحها بكين على باقي الدول في العالم. وستكون حينها المقارنة حاضرة في ذهن كل إنسان في العالم، بين ما فعلته الولايات المتحدة لأفغانستان خلال العقود الماضية، وبين ما تسعى بكين لتحقيقه، وصولاً للانتقال بأفغانستان من دول فاشلة إلى دولة قادرة على النمو والتقدّم، اعتماداً على مقدّراتها الداخلية.
خاصة وأن أفغانستان غنية بالثروات الطبيعية كالذهب والنحاس والنفط، ولعل الثروة الأهم فيها هي الليثيوم، وهي المادة التي تحتاجها الصين وبشكل كبير في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وبطاريات الأجهزة الإلكترونية الأخرى.