"طوفان الأقصى" وجبهة لبنان.. قصف الوعي (5)
تقلُّص المسافة بين التصوّر والتصديق في الجانب الإسرائيلي، وهما مستويان من الإدراك، تقابله فجوة عميقة بين التهديدات والانكفاء عن تنفيذها. كيف ينعكس ذلك على المستوطنين؟
تقلّصت المسافة الفاصلة بين التصوّر والتصديق في الجانب الإسرائيلي، عقب "طوفان الأقصى" وانخراط حزب الله فيها. ليس ذلك إلا أحد أبعاد معركة الوعي التي شهدت تقدماً نوعياً من جانب المقاومة اللبنانية، وهو ما يستحق التوقّف عنده.
في المقابل، ازدادت المسافة اتساعاً مع مرور الوقت بين مواقف صنّاع القرار داخل الكيان والوقائع الصلبة على الأرض، الأمر الذي من شأنه أن يخلّف مزيداً من الأضرار في المعركة على الوعي والحرب النفسية.
على رغم كل الإجراءات العسكرية، وما تسمّيه القيادات الإسرائيلية جباية أثمان باهظة من المقاومة، فإن ذلك لم يمنع الأخيرة من استمرار إطلاق النيران بصورة يومية، كما لم يبعدها عن الحدود. ما زالت المقاومة أقرب جغرافياً إلى منازل المستوطنين المهجورة من المكان الذي لجأوا إليه في عمق الكيان. أما آن للبنى التحتية، التي يقول العدو، في إحاطاته المتواترة، إنه يستهدفها ضمن شريط ضيّق عند تخوم مستوطناته، أن تنتهي بعد مرور أكثر من 4 أشهر على بدء المواجهة؟
المسافة بين التصور والتصديق في معركة الوعي
تجري معركة الوعي في مستويات متعددة. تستهدف الجبهة الداخلية والرأي العام، كما تستهدف المقاتلين في الجانبين. الهدف زرع أفكار وقناعات عبر أدوات ناعمة، كما عبر أدوات خشنة وعسكرية.
على امتداد الصراع، مارست "إسرائيل" حرب الوعي ضد أعدائها بأساليب متعددة. زئيف جابوتنسكي، واحد من الصهاينة الأوائل، صاغ عقيدة "الجدار الحديدي" في إطار الحرب على الوعي. تشكّل هذه العقيدة أيديولوجيا قادة الليكود وأحزاب يمينية أخرى. فحواها، باختصار، أن يصل أعداء "إسرائيل" إلى قناعة بأنه يستحيل هزيمتها، وأنها محمية رمزياً بجدار حديدي.
ما يحدث اليوم جنوبي لبنان وشمالي فلسطين المحتلة هو العكس تماماً.
يمكن عَدُّ التصوّر والتصديق مستويَّين متباينَين في إطار الوعي، والمعركة على الوعي. كلاهما يقع في دائرة الإدراك والمعرفة، لكنّ التصديق أقوى من التصوّر. أن تتصوّر الخطر، من خلال الأخبار والأحاديث المتواترة، أمر يتباين عن أن تصدّقه، لأنك تعيشه. يكمن الفارق في أن الأول مُتخيَّل ومُتصوَّر، بينما الثاني واقعي ومَعِيش وملموس وأكثر استثارة لمشاعر الخطر والخوف. الأول أبعد والثاني أقرب. لذلك، فإن التصديق أكثر فعالية وتأثيراً في معركة الوعي من التصوّر.
مثال على ما تقدّم يعبّر عنه رئيس بلدية "كريات شمونة"، أفيحاي شتيرن. يقول: "عام 2018، أصدر حزب الله شريط فيديو يشرح فيه كيف سيغزو الجليل، وأنه قادر تماماً على القيام بذلك. لم يعتقد أحد أنه يستطيع ذلك فعلاً. تعاملنا مع هذا بالطريقة التي تعامل بها الجيش مع التهديد في الجنوب. إذا كانوا يتدربون، فليتدربوا، لكنهم ليسوا قادرين على التنفيذ". ويتابع: "اليوم، ننظر إلى الأمر بصورة مغايرة، ونفهم أنه في ثانية واحدة يمكنهم اقتحام الأسوار. وعلى ما يبدو لن ينتهي الأمر بصورة جيدة" ("يديعوت أحرنوت"، 25 كانون الأول/ديسمبر 2023).
فجوة الخطاب الإسرائيلي
الجانب الآخر من معركة الوعي، الذي تعرّض لأضرار في الجانب الإسرائيلي، تجسّده الفجوة بين رفع منسوب التحدي في الخطاب وبين العزوفِ عن تنفيذه في الميدان.
يعبّر عن هذا الجانب نيسان زئيفي، أحد مؤسسي "اللوبي 1701" من مستوطنة "كفار غلعادي"، وهو يشير إلى تصريحات المستويات السياسية والعسكرية. يقول إن "الواقع الوهمي هنا هو أنهم لا يريدون قول الحقيقة العارية. هناك تنافر مجنون بين تصريحات صناع القرار والواقع على الأرض" ("هآرتس"، 19 كانون الثاني/يناير 2024).
لا يُتوقع أن يخرج غداً أي مسؤول إسرائيلي، ويتحدث إلى جمهوره عن الحقيقة العارية؛ أن يقول مثلاً إن "ما يمنعنا من خوض حرب شاملة ضد حزب الله هو الردع المتبادل، وإنه (حزب الله) قادر على تنفيذ تهديده بتهجير مليوني مستوطن من الشمال، أو توجيه ضربة قاصمة ربما لن نقوى على تحمّلها".
لذلك، عندما سمع سكان المستوطنات الشمالية وزير أمنهم، يوآف غالانت (15 شباط/فبراير) يقول إن حزب الله "ارتقى نصف نقرة في نشاطاته بينما ارتقت "إسرائيل" درجة في العمليات، لكنها ما زالت في درجة واحدة من أصل عشر"، فقدَ سكان شمالي الكيان صوابهم.
التصريح كان الهدف منه ردع حزب الله وتهديده، لكن مفاعيله جاءت في الاتجاه المعاكس. عزّز الشكوك والإحباط وعدم اليقين وسط مهجّري الجليل وأجّج تساؤلاتهم: "بعد 130 يوماً من القتال، ما زال الجيش الإسرائيلي و"دولة إسرائيل" الكبرى يوجَدان فقط في المستوى الأول من أصل عشر درجات، فما الذي يجب أن يحدث، وكم من الوقت يجب أن يمر كي يرتقيا درجة ويعالجا المشكلة الأمنية عند الحدود الشمالية"؟
يمثّل رؤساء السلطات المحلية في مستوطنات خط المواجهة، شمالي فلسطين المحتلة، مواقف سياسية متعددة ومتباينة. قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كانوا منقسمين بين داعم لأحزاب الائتلاف الحكومي، ومُؤيّد للمعارضة وحركة الاحتجاج. لكن اليوم، يُلاحَظ أن آراءهم متساوية في شيء واحد، كما ينقل مراسل "يديعوت أحرونوت" يائير كراوس، هو: نتيجة المعركة.
قبل أكثر من شهرين حاول كراوس عرض الواقع، نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، لسكان المستوطنات المُهجّرة، وتلك التي لم يتم إخلاؤها بعد. تبعد "معالوت ترشيحا" أكثر من ستة كيلومترات عن الحدود اللبنانية الفلسطينية، ويقطنها نحو 26,000 نسمة.
يقول رئيس بلديتها أركادي بومرانتس إن عدم اليقين يستنزف المستوطنين الذين لم يتم إجلاؤهم عنها، ويقودهم إلى حالة من اليأس ومزيد من الخوف. وبحسب توصيفه، فإن "هذا وضع موقت لا يُطاق"، إذ إن بطاريات المدفعية الإسرائيلية الموجَّهة إلى لبنان ليست أقل رعباً مما يُطلق على المستوطنات. من هذا المنطلق، يدعو بومرانتس المسؤولين إلى أن الوقت حان للاهتمام بالشمال.
تراكم التكلفة مع مرور الوقت
ربما يفسّر الواقعان، النفسي والمعنوي، الواردان أعلاه، أحدَ الأسباب الرئيسة التي تقف وراء تأييد نحو 71% من الإسرائيليين الخروج في عملية واسعة ضدّ حزب الله. هل يتعارض ذلك مع العرض السابق بشأن التصوّر والتصديق في مستوى معركة الوعي، والخطر الذي بات يمثّله حزب الله داخل الوعي الجمعي الإسرائيلي في أي مواجهة؟
على العكس. ما أصبح واقعاً مُصدقاً عند مستوطنات خط المواجهة ما زال واقعاً متصوراً في حال الحرب الشاملة الافتراضية. من جانب آخر، أصبح خطر حزب الله الماثل والملموس غير قابل للتعايش معه، ومطلباً جماهيرياً حثيثاً من أجل إزالته. يشبه الوضع مريضاً يعاني آلاماً مستمرة ولا يسعه سوى التفكير في عملية جراحية تريحه نهائياً على رغم ما تنطوي عليه من مخاطر عالية، لأن الاحتمال الآخر عبارة عن معاناة دائمة.
يوضح رئيس بلدية "كريات شمونة"، أفيحاي شتيرن، جوانب الصورة بعيون سكان مستوطنته. يشرح أن المستوطنين يدركون أنه لا يمكن التخلص من تهديد حزب الله عبر ضربة خاطفة، وأن الأمر يتطلب "حرثاً عميقاً، كما في الجنوب، من أجل ضمان الهدوء"، وأن هذا محتّم.
على الرغم من الصعوبة الكبيرة في تحقيق ذلك، فإنه يقرّ بأن "الأصعب هو أن تعيش في منزل وأنت تعلم أنه في صباح أحد الأيام يمكن لآلاف المخربين من قوة الرضوان، مثلما رأينا في الجنوب، أن يغزوا. وتخيَّل ما يمكن أن يحدث لعائلتك وأصدقائك وجيرانك" ("يديعوت أحرنوت"، 25 كانون الأول/ديسمبر 2023).
أتى هذا التصريح خلال اليوم الـ80 تقريباً على بداية المعركة، ويُفترض بعد 140 يوماً أن يكون الأمر ازداد سوءاً على وقع التهديدات المشحونة، على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين، والتي لا يوازيها على الأرض سوى حالة من المراوحة نسبياً، مع تصعيد مضبوط لا يغيّر كثيراً في الصورة العامة.
رئيس ما بات يُعرف بـ"منتدى خط المواجهة"، موشِه دافيدوفيتس، وهو رئيس المجلس الإقليمي (ماتِه إشر) في الوقت نفسه، يضع إصبعه على الجرح الإسرائيلي.
انطلاقاً مما يمثّل، فإن فهمه ما يحدث يعكس طبيعة إدراك مستوطني الشمال ومدى وعيهم خطورة الوضع الناشئ. يرى دافيدوفيتس أنه إذا كان حزب الله لا يزال قادراً على إطلاق صواريخ بركان، التي يقتصر مداها على خمسة كيلومترات، ويصيب مستوطنة شلومي، فهذا يعني أنه لا يزال لديه قدرات كبيرة، وأنه لا يزال على خط تهديد "دولة إسرائيل".
يَعُدّ دافيدوفيتس أن النظام المفاهيمي لـ"إسرائيل" تحوّل من الهجوم إلى الدفاع، وأن حزب الله هو من يحدد الوتيرة والواقع شمالي فلسطين. واقع يعارض القواعد، التي نشأ عليها المستوطنون، وخلاصتها: "من يأتِ لقتلك، اقتله أولاً". يقول دافيدوفيتس مختصراً المشهد: "هذا ليس البلد الذي وُلدت فيه، ولا الجيش الذي أنا ضابط فيه، ولا القيم التي تربينا عليها".
إذا ما أضيف إلى الواقع الأمني المستجد ما نجم عنه من أضرار اقتصادية وبيئة طاردة للاستثمار، فإن الشرط الأساسي لعودة المستوطنين بات يتمحور حول إبعاد حزب الله وتحقيق صورة انتصار. كلّما طال تحقيق ذلك، وهو متعذر حتى الآن، فإن تكلفته سوف تزداد مع الوقت، وهي لا تنحصر في جانب واحد:
أولاً: من شأن ذلك أن يؤدي إلى تكيّف شريحة من لاجئي المستوطنات مع واقعهم الجديد في أماكن إقامتهم الحالية، كما يلفت إلى ذلك رئيس مستوطنة "كريات شمونة"، الأمر الذي يؤدي إلى تفريغ منطقة الجليل من السكان، ويقوّض أحد مرتكزات المشروع الصهيوني القائم على الإحلال.
ثانياً: إعطاب الثقة بقدرة "الجيش" على توفير الحماية المستدامة والأمن، كونهما شرطين وجوديين للاستقرار في المستوطنات.
الحقيقة الظاهرة
تَشَكَّلَ "اللوبي 1701"، بصورة أساسية، من مستوطني خط المواجهة، الذين تم إجلاؤهم تباعاً عن مستوطنات الشمال مع تصاعد المواجهات مع حزب الله. على رغم تمايز أعضاء اللوبي، بعضهم عن بعض، وخلفياتهم السياسية المتباينة، فإنهم يجتمعون على ضرورة ممارسة ضغط على الحكومة الإسرائيلية من أجل إبعاد حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح جنوب النهر.
تعبّر مواقف اللوبي عن جانب من المأزق الماثل اليوم في الجانب الآخر. بداية شهر شباط/فبراير، عندما جرى تداول أخبار عن وساطات دولية، وحُكي في "إسرائيل" عن احتمال إنجاز اتفاق مع حزب الله، أصدر اللوبي بياناً تضمن ما يلي: "لا توجد فرصة في أن نعود إلى أي تسوية نابعة من التنازلات والضعف، على نحو من شأنه أن يدفع حزب الله إلى خط الحدود ويقرّب الكارثة القادمة إلى مستوطنات الشمال وكل إسرائيل، لن نوافق بعد الآن على العيش تحت التهديد المستمر بالمذبحة وإطلاق النار والاختطاف".
ورداً على أحد المؤتمرات الصحافية للناطق باسم "جيش" الاحتلال، بشأن إطلاق صلية صواريخ كبيرة من جانب حزب الله، أعلن اللوبي أن أي مؤتمر صحافي، مهما كان مثيراً للإعجاب، لا يستطيع أن يخفي الحقيقة الظاهرة، ومفادها أن قصف المستوطنات مستمر، بينما تحوّل المستوطنون إلى لاجئين. أكّد اللوبي أيضاً أن "سكان الشمال يتوقعون أن يروا أفعالاً وليس أقوالاً، فسكان الشمال ليسوا أقل أهمية من سكان منطقة الوسط، وصبرنا بدأ ينفد".
تقدير الموقف ونظرة سكان مستوطنات الشمال إلى ما يجري يختصر جانباً كبيراً منه رئيسُ مجلس مستوطنة "مرغليوت"، إيتان دافيدي (17 شباط/ فبراير)، الذي يرى أن "إسرائيل" تقوم بكل ما تستطيع من أجل عدم الدخول في مواجهة مع لبنان، ومن أجل الوصول إلى تسوية سياسية. لكنّه يسجّل اعتراضاً وامتعاضاً إزاء ذلك، داعياً حكومته إلى الخروج في عملية عسكرية، حتى لو تطلّب الأمر ستة أشهر. يقول: "في نهاية الأمر علينا إعادة السكان إلى البلدات بصورة آمنة، وهذا لا يحدث حالياً، والحكومة الإسرائيلية، وَفق هذه الصورة، تُفكّك الشمال".
في هذا الإطار، يكتب عاموس هرئل في صحيفة "هآرتس" (19 كانون الثاني/يناير) أن المطلب المفهوم لرؤساء المجالس والبلديات هو ضمان الهدوء التام، مشيراً إلى أن كثيرين منهم يعتقدون أن هذا الأمر لن يتحقق إلا من خلال حرب مبادر إليها وكبيرة، لكن "الجيش"، وفق ما ينقل، غير مقتنع بأن هذا هو الحل. لكن، لماذا؟
عقب استهداف المقاومة اللبنانية منشأة رأس الناقورة بصاروخ دقيق يحمل كاميرا للتوجيه، ونشر توثيقاً عن العملية، شرحت وسائل إعلام إسرائيلية لجمهورها أن الأمر لا يتعلق بصاروخ كورنيت، وإنما "بمصيبة يعدّونها لنا".
وذكرت أن هذا الأمر يُفترض به أن يشعل أضواء تحذير في "الجيش الإسرائيلي" في حال أي مناورة برية في لبنان "لأسباب لن نفصلها".