"طوفان الأقصى": عودة التطبيع العربي/الإسرائيلي إلى المربع صفر
عدة أسئلة طرحتها وسائل الإعلام الغربية منذ صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لكن ثمة سؤال بارز بقي من دون إجابة: كيف تمسّك المواطنون العرب بكل تلك المشاعر الرافضة لـ"إسرائيل" والمؤيدة للمقاومة؟
نجحت قوى المقاومة في إجبار شعوب العالم كافة على التوجه نحو فلسطين وقضية شعبها الذي يعاني ويلات الاحتلال منذ عقود، وكان الشعب العربي في المقدمة بطبيعة الحال، فعادت صور الأقصى لتُرفع مرة أخرى في العواصم العربية كافة من المحيط إلى الخليج، وقفزت الفيديوهات التي تم تصويرها أثناء عمليات المقاومة إلى خانة "الترند" في مواقع التواصل العربية.
حتى "قطار التطبيع" الذي انطلق من محطته الأولى في القاهرة في سبعينيات القرن الماضي، مروراً بعمّان، وانتهاءً بأبو ظبي والرباط، بات مهدداً بالعودة للصيانة، رغم أنه كان يستعد للوصول إلى محطته شبه الأخيرة مع الرياض، وهو السيناريو الذي أفسدته بين طرفة عين وانتباهها عملية "طوفان الأقصى" التي تعدّ عملاً استثنائياً في تاريخ المقاومة كسَر هيبة العدو، ربما للأبد.
عدة أسئلة طرحتها وسائل الإعلام الغربية منذ صباح السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لكن ثمة سؤال بارز بقي من دون إجابة: كيف تمسّك المواطنون العرب بكل تلك المشاعر الرافضة لـ"إسرائيل" والمؤيدة للمقاومة رغم مرور 5 عقود على حرب 1973 (التي صنّفها البعض كآخر الحروب)، ورغم موقف الأنظمة الرسمية التي كانت دوماً في صفّ تطبيع العلاقات وتجنّب أي لغة تصعيديّة؟
لسنوات، ادعى الاحتلال الإسرائيلي أنه بات مقبولاً لدى المواطنين العرب خارج فلسطين، وأن العرب صاروا يفكرون بشكلٍ أكثر عمليّة مما يجعلهم أكثر استعداداً للانفتاح على "تل أبيب" التي تعتبر بوابتهم للولوج إلى العالم الأورو/أميركي، حتى الخارجية الإسرائيلية زيّفت استطلاعاً للرأي نهاية عام 2018، مفاده أن أكثر من 40% من شعوب العراق والمغرب والإمارات باتوا يفضّلون التعاون مع "إسرائيل".
كل تلك الادعاءات باتت اليوم مرفوضة وغير معتمدة من جانب المراكز البحثية المختصّة بالسياسة الدولية في العالم الغربي ذاته، والكل صار ملزماً بالاعتراف بأن "إسرائيل" باتت ملفوظة أكثر من أي وقت مضى من محيطها، وأن من المستحيل الاعتراف بها كدولة طبيعية في منطقة الشرق الأوسط، سواء في القريب العاجل أو البعيد الآجل.
في مقابل مزاعم الاحتلال الإسرائيلي، فإن آخر استطلاع للرأي العام العربي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أكّد أن الرأي العام العربي متوافق بنسبة أكبر من 84% على أن سياسات "إسرائيل" والولايات المتحدة الأميركية تهدد أمن المنطقة واستقرارها، وأنهم يرفضون إقامة علاقات طبيعية مع حكومة الاحتلال لأسباب مرتبطة بطبيعتها الاستعمارية والعنصريّة والتوسعية.
تبعات "طوفان الأقصى": دعاة التطبيع في مأزق
ينظر البعض إلى عام 2020 بأنه "عام الحظ" للقلة المؤيدة للتطبيع في العالم العربي، إذ وقعت فيه كل من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان على اتفاقيات متتالية لإقامة علاقات سياسية واقتصادية مع حكومة الاحتلال، وهو ما أشاد به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الجمعية للأمم المتحدة في وقت سابق، معتبراً أن العملية أطلقت "عهداً جديداً من السلام".
لكن من يتابع صورة العالم العربي اليوم يُدرك أن اندفاعة النظام الرسمي العربي نحو التطبيع منذ 3 أعوام لم تُغيّر شيئاً في رؤية الشارع، فالجماهير العربية الرافضة للتطبيع لا تزال تضغط على حكوماتها لاتخاذ مواقف أكثر دعماً للقضية الفلسطينية، والحكومات تضطر إلى مواءمة مواقفها وإصدار البيانات الرافضة للاعتداءات الإسرائيلية، وذلك تجنباً لخسارة المساندة الشعبية.
بحسب التحليلات التي تناولت خطاب نتنياهو يوم السبت الماضي، الذي أعلن فيه أن "إسرائيل في حالة حرب"، فإن الكيان يعيش أزمة وجود حقيقية لا تتعلق بقدرته على التصدي للمقاومة داخل الأراضي المحتلة فقط، إنما بوزنه الإقليمي، وبتمكّنه من إقناع أنظمة عربية جديدة على عقد معاهدات معه، وأنه، ربما للمرة الأولى، سيكون مضطراً إلى طأطأة الرأس أمام الفلسطينيين للحفاظ على العلاقات القائمة بالفعل مع دول عربية بعينها.
أجهزة التلفاز في المقاهي العربية، المُثبّتة على القنوات الإخبارية التي تعرض كل مستجدات عمليات المقاومة وتبعاتها والتظاهرات الضخمة التي تهتف باسم فلسطين في صنعاء وعمّان والمنامة والرباط وتونس، تعرض مشاهد ربما لم يختبرها الشارع العربي منذ أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية واستشهاد محمد الدرة في أيلول/سبتمبر عام 2000.
تلك المؤشرات كافة، مضافاً إليها نشاط الشباب العربي في مواقع التواصل، والإعلان عن تأييد كل عملية جديدة تنفذها المقاومة، واستدعاء صور القائد سمير قنطار في لبنان، والمجند محمد صلاح في مصر، والمهندس محمد الزواري في تونس، أصابت التيار المؤيد للتطبيع بالصدمة، إذ تبين لهم بالتجربة العملية أن الجهود التي بذلتها وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية بهدف حرف بوصلة الشعب العربي ضاعت هباءً.
أما المأزق الذي يواجه المطبّعين العرب، فيتمثل في انكشاف "إسرائيل وظهورها ككيان واهن منقسم داخلياً ولا يقوى على "صلب عوده" من دون الدعم الأميركي والأوروبي، ولطالما روّج المطبّعون لأفكارهم اعتماداً على "قوة إسرائيل" و"تقدمها" و"صلابة مؤسسات الحكم فيها"، معتبرين أن على العرب إقامة علاقات معها للاستفادة منها ومحاكاتها. أما الآن، فقد انكشفت الحقائق أمام الجميع.
مستوطنو الأراضي المحتلة: الأمن أولاً
على الرغم من الأهمية الحثيثة لإتمام التطبيع مع مختلف الدول العربية بالنسبة إلى حكومة الاحتلال، إذ يرى نتنياهو أن فتح مسارات للعلاقات الطبيعية مع أنظمة جديدة في المنطقة يشكل طوق نجاة له ولحكومته قبيل الانتخابات المقبلة، وذلك بعد فشله في إدارة العديد من الملفات، فإن الوضع يبدو مختلفاً بالنسبة إلى الداخل الإسرائيلي، إذ يبدو المستوطنون غير مبالين بإتمام تلك الصفقات السياسية التي تبرمها الحكومة لتعزيز موقفها من دون جدوى.
بعيداً عن الأزمات الداخلية التي شهدها "المجتمع الإسرائيلي" في الفترة الأخيرة، فجرت عمليات المقاومة غضب الشارع في وجه نتنياهو بشكل يبخس من قيمة عمليات التطبيع، إذ يرى المستوطنون انعدام قيمة أي خطوة سياسية ما دامت أرواحهم مهددة في الداخل ولا تستطيع حكومتهم حمايتهم وحماية ذويهم.
يشكل هذا أكبر تحدٍ وعامل ضغط على حكومة الاحتلال التي أصبحت أمام تحدٍ كبير، هو ضرورة تحقيق مكسب الأمن والاستقرار مع تلك الاتفاقيات السياسية لإثبات نجاحها.
ضربة لمساعي التطبيع بين الرياض و"تل أبيب"
وجّه الهجوم المباغت الذي شنته حركات المقاومة انطلاقاً من قطاع غزة ضربة إلى الزخم الذي اكتسبته خلال الأشهر الماضية المساعي الأميركية لإبرام اتفاق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وحكومة الاحتلال، وهو الاتفاق الذي كان ينظر إليه المسؤولون الإسرائيليون باعتباره "حسن الختام" لرحلة شاقة من العمل الدبلوماسي وإثبات القدرات العسكرية.
ويدفع البيت الأبيض في اتجاه هذا الاتفاق لما سيشكله من مكسب دبلوماسي للرئيس جو بايدن، بما يعزز حملته للانتخابات الرئاسية عام 2024، وخصوصاً أنه يواجه تراجعاً في شعبيته بين المواطنين الأميركيين، لكنّ عملية "طوفان الأقصى" أعادت العملية برمتها إلى المربع صفر، وقضت على أحلام بايدن الذي صار اليوم مهموماً بضمان أمن "إسرائيل" ذاتها.
وبحسب مراقبين، فإن المكاسب التي كان يفترض أن تعود على السعودية من اتفاق التطبيع، مثل امتلاك برنامج نووي سلمي، تعدّ محدودة للغاية مقارنة بالمكاسب الأميركية والإسرائيلية على المستوى السياسي الداخلي والخارجي، إضافةً إلى المكاسب الاقتصادية، إذ كانت "تل أبيب" تقترح ما يسمي بـ"قطار الازدهار"، وهو "مبادرة تربط السعودية ودول الخليج بميناء حيفا مروراً بالأردن عبر شبكة للسكك الحديدية".
وقد ذكر عدد من وسائل الإعلام، إضافةً إلى السفير الأميركي السابق مارتن أنديك، أنَّ الرياض وضعت شروطاً للموافقة على التطبيع مع "إسرائيل"، منها توقيع اتفاقية أمنية مع واشنطن يقدم فيها الأميركيون ضمانات للمملكة شبيهة بالتزام الناتو بموجب المادة الخامسة من الدفاع المشترك بين أعضائه، إضافة إلى مساعدتها في تطوير برنامج نووي سلمي، والموافقة على صفقات الأسلحة التي كانت الإدارة الأميركية الحالية قد أوقفتها، بما في ذلك طائرات أف-35.
بشكل عام، فإن "تل أبيب" كانت تريد إبعاد الرياض عن طهران قدر المستطاع، وخصوصاً بعد الاتفاق السعودي-الإيراني في بكين في العاشر من آذار/مارس الماضي برعاية صينية، ودائماً ما كانت طهران تؤكد حاجة دول المنطقة للتقارب وعقد التفاهمات لتحقيق المصالح المشتركة والتصدي للأعداء المشتركين.
ورغم تصريحات ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الشهر الماضي عن "الاقتراب أكثر فأكثر من التطبيع مع إسرائيل"، فإنَّ ما يجري في الأراضي الفلسطينية اليوم عقّد احتمال عقد اتفاق بين الرياض و"تل أبيب" في القريب العاجل على الأقل.
هذا ما أشار إليه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بعد يوم واحد من عملية "طوفان الأقصى"، إذ قال إن "عرقلة التطبيع المحتمل للعلاقات بين إسرائيل والسعودية ربما يكون من دوافع الهجوم الذي شنته حماس على إسرائيل"، كما أكده نائب رئيس السياسات في معهد الشرق الأوسط في واشنطن براين كاتوليس، إذ قال إن اتفاقاً كهذا "كان دائماً قمة يصعب تسلقها، والآن ازداد ذلك صعوبة".
العالم يتغيّر.. والكل يقدّم أوراق اعتماده لفلسطين
في مرات كثيرة، اتهم الإعلام العبري بعض الزعماء العرب بـ"النفاق"، لأنهم يلومون "إسرائيل" في العلن، ويتوددون إليها في الخفاء. وأياً كانت حقائق الأمور، فإن ما يهم هو أن للقضية الفلسطينية حضوراً عربياً طاغياً يجبر أي مسؤول عربي على إعلان الولاء لها، بصرف النظر عن قناعاته الخاصة أو ممارساته السياسية غير المعلنة.
ورغم مرور عقود على تطبيع دول عربية مثل مصر والأردن، لا تزال حكومات تلك الدول تقدّم الدعم للفلسطينيين، وتدين سياسات الاحتلال الإسرائيلي التوسعيّة، حتى الإمارات، التي تزعّمت طابور الدول المطبّعة في السنوات الأخيرة، وجدت نفسها مدفوعة إلى تقديم ملايين الدولارات كمساعدات عاجلة إلى فلسطين.
ويؤكّد الخبراء أن صمود المقاومة وتطويرها مستوى عملياتها يجلب تأييداً أوسع من الشارع العربي للقضية الفلسطينية. وبالتبعيّة، يمثل هؤلاء المؤيدون الذين يكتسبون ثقةً أكبر في قضيتهم عامل ضغط على المسؤولين داخل دولهم، ما يضطرهم إلى التخفيف من اندفاعهم نحو التطبيع أو التوقف عنه بالكلية.
ولا شك في أن تغيّر الأوضاع العالمية، وتراجع مكانة الولايات المتحدة الأميركية، وبروز قوى دولية جديدة كالصين وروسيا، واتساع رقعة تكتلات اقتصادية مثل منظمة بريكس، سيكون له مردود إيجابي على القضية الفلسطينية، فانشغال الدول الغربية بمشكلاتها الخاصة وهمومها الداخلية وعدم وجود فائض قوة لديها يعني بالضرورة خسارة "إسرائيل" داعميها من الخارج بالشكل الذي يسهل مهمة قوى المقاومة في النيل منها.