"طوفان الأقصى" وجبهة لبنان.. مُحفّزات الحرب المُؤجَّلة (6)
في هذا الجزء نعرض حصراً دوافع "إسرائيل"، التي تحثّها على ضرورة المبادرة إلى حرب موسّعة من دون التطرّق إلى كوابح هذه الخطوة، التي نؤجلها إلى أجزاء لاحقة.
دوافع صنّاع القرار في "تل أبيب" إلى توسيع الحرب تجاه لبنان حاضرة ومُلحّة ومُتفاوتة في مستوياتها. أكثر من سبب بات يحثّ "إسرائيل" على تصعيد عدوانها والارتقاء درجات في استهداف حزب الله. من ذلك تعاظم التهديد الاستراتيجي، الذي بات يمثّله الأخير، وخصوصاً في الأعوام الأخيرة، وتقليص فعاليته في الحد الأدنى، إذا كان يتعذّر تحييده نهائياً. من ذلك أيضاً ترميم ميزان الردع الذي اختلّ لغير مصلحتها في الشهور والأعوام التي سبقت "طوفان الأقصى"، وفاقمت المواجهات الدائرة حالياً اختلال توازنه.
من ضمن سلسلة الأسباب الوجيهة، يمكن إدراج ما بات شائعاً على ألسُنِ قادة ومسؤولين إسرائيليين، ومفاده أن الشرق الأوسط برمته، أصدقاءً وأعداءً، يراقب مجريات الحرب الدائرة حالياً ومآلاتها، والتي من شأنها أن تحدّد، أو تؤثر، في موقع "إسرائيل" في المنطقة، وفي دورها وهيبتها.
هناك أيضاً اعتبارات مصلحية شخصية تخصّ بنيامين نتنياهو في الدرجة الأولى، ومعه مكوّنات الائتلاف اليميني المتطرف. ينظر هؤلاء إلى نهاية الحرب كونها اللحظة التي ترفع الستار عن بداية استحقاق داخلي مشحون يهدّد بقاء الحكومة واستمرار بعض أعضائها في السلطة، كما يهدّد الحياة السياسية لبعضها الآخر. الحرب أيضاً، وسيلة لتحقيق المشاريع والرؤى لبعض مكوّنات الائتلاف.
لذا، قد تسقط الحكومة كما هدّد إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش في حال جرى التوصّل إلى اتفاق نهائي لإطلاق النار، أو تم إبرام تسوية مع حماس لا تراعي معاييرهما.
وفق هذه القراءة، قد يشكّل التصعيد في جبهة "إسرائيل" الشمالية بديلاً لاصقاً لأكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وتعويضاً من تنازلات في الجبهة الجنوبية.. نظرياً.
فرصة قد لا تتكرّر
الأهم من ذلك كلّه، وما يمكن عدّه سبباً داهماً، هو تأمين الظروف الملائمة لإعادة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم في ظل معضلة معقّدة باتت تتحكّم في المنظومة الإسرائيلية برمتّها. تشير معطيات هذه المعضلة إلى تأكُّل ثقة سكان الجليل بقدرة جيشهم على تأمين الحماية لهم، وإجماعهم على رفض العودة إلّا بعد ضمان استتباب الأمن، الأمر الذي يستدعي المبادرة في نظرهم إلى حملة عسكرية تُبعد حزب الله عن الحدود بالقوة، وتقلّص إمكاناته العسكرية، بحيث لا تعود تشكّل خطراً مستقبلياً عليهم، وتعيد ثقتهم بقدرة الجيش على الردع والحماية.
في هذه الجزئية ما عاد في استطاعة مستوطني الشمال المساومة على العودة إلى الواقع الذي كان سائداً قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ما حدث في ذلك اليوم رسّخ مخاوفهم العميقة من أن عبور حزب الله إلى الجليل، والوصول إلى مضاجعهم، باتا واقعاً قابلاً للتحقق أكثر من أي وقت مضى، وخصوصاً أنهم باتوا على قناعة بأن إمكانات الأخير، عتاداً وعديداً، تفوق إمكانات المقاومة الفلسطينية، التي تمكّنت، على رغم الحصار، من تنفيذ أكبر عملية عسكرية في تاريخ الصراع.
عدا عن ذلك، يفترض البعض أن "طوفان الأقصى"، وما خلّفه من آثار نفسية وأمنية واجتماعية، باتا يشكّلان حافزاً إضافياً وفرصة قد لا تتكرّر لـ"إسرائيل" من أجل توسيع عدوانها ضد لبنان، ولاسيما أن أغلبية صهيونية ما زالت تؤيّد القيام بمثل هذه الخطوة، على قاعدة أن الحرب لم تعد خياراً بقدر ما أصبحت واقعاً مفروضاً. الفرضية هذه تجد قبولاً أوسع في أوساط تَعُدّ أن هذا الاحتمال يتعزّز أكثر كلما اقتربت الحرب على غزة من وضع أوزارها، أو كلما لاحت هدنة، أو تخففت "إسرائيل" من تكريس معظم ترسانتها العسكرية وأصولها البشرية والتقنية والتسليحية والإدارية لجبهتها الجنوبية.
ضمن فرضيات الحرب المُوسّعة، لا يغيب احتمال أن يحدث ذلك في سياق متدرّج، بحيث تنجرّ أطراف الصراع إلى ردود متبادلة تُفضي إلى تدحرج المواجهة وخروجها عن السيطرة، نتيجة تقديرات خاطئة. لكن، إذا كانت "إسرائيل" تبيّت أيّ مُخطط لعدوان مُوسع، أو محدود، لكن في إطار جرعة تصعيد نوعية، فالأرجح أن تفعل ذلك بصورة مُباغتة ومدروسة، في الأسلوب والتوقيت.
التوقيت والمبادرة
على رغم تضاؤل فعالية عنصر المباغتة بعد مضي أكثر من 5 أشهر على بدء المواجهة، فإن الحديث عن التوقيت والأسلوب الملائمين يجد صداه في الجانب الإسرائيلي. ينقل محلل الشؤون العسكرية في "قناة كان"، روعي شارون، بتاريخ 4 شباط/فبراير الماضي، عن مسؤولين، أنه في حال توجّهت "تل أبيب" إلى حرب شاملة مع حزب الله فالأفضل أن تحدد هي توقيت المبادرة، وألا تتدهور إلى ذلك في إطار ضربات متبادلة بصورة تصاعدية، تجعلها مُكبّلة عن تقرير متى وكيف تحدث الأمور.
يشير شارون إلى أنه، في إطار اتفاق افتراضي مع حزب الله ينسحب بموجبه إلى مسافة 10 كلم بعيداً عن الحدود، هناك حدود لما يمكن لـ"إسرائيل" أن تمنحه في مقابل هذا الانسحاب في إطار التسوية.
من هذا المنطلق، ينقل شارون، عن دوائر في الكيان، تقديراً يفيد بأن احتمال الاتفاق السياسي يتقلّص، الأمر الذي يعني أن احتمال الحرب يتزايد. لم ينسَ الصحافي الإسرائيلي التشديد على أن "إسرائيل" تستعد لهذا الخيار.
الاستعداد لهذا الخيار سبق أن تكرّر في عشرات التصريحات الإسرائيلية العائدة إلى مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. مرة يتردّد في إطار التهديد، وأخرى في إطار ترويض سكّان الشمال، ومرة في إطار تهيئة الجمهور الإسرائيلي لكل الاحتمالات. بمعزل عن ذلك، فإن الاستعداد لخيار التصعيد يمكن النظر إليه كونه حالة طبيعية وإجراءً بديهياً في ظل الظروف السائدة، وهو غير محصور في طرف من دون آخر، انطلاقاً من أننا ما زلنا في خضم الحرب التي ما برحت احتمالاتها مفتوحة بدرجات متفاوتة.
من الجدير، في هذا الإطار، عدم إغفال جانب الحرب النفسية التي يتساوق معها الإعلام الإسرائيلي في كثير من الأحيان. تتوجّه المذيعة في "قناة كان" إلى زميلها روعي شارون، الذي سبق عرض إجابته، بالقول: "يبدو أنه مهم جداً لإسرائيل التشديد على أن الخيار العسكري طوال الوقت مطروح على الطاولة". عبارة قد تنطوي على توجيه أو على استنتاج، لكنّها في كل الأحوال تعبّر، بانسجام، عن زاوية الرؤية الإسرائيلية من الموقع الذي تتموضع فيه "تل أبيب".
لا يغيب الخيار العسكري، من باب إعداد الجمهور، عن لسان الناطق باسم جيش الاحتلال في إحاطاته الإعلامية المتكررة. هو لا يفتأ يكرر أن على الجمهور أن يبقى على استعداد لاحتمال توسّع الحرب.
نهاية شهر كانون الثاني/يناير الماضي، طرحت وسائل إعلام إسرائيلية المعضلةَ، التي تمثّل الجانب الآخر من إعداد الجمهور الإسرائيلي لإمكان توسُّع القتال، وهو جانب شغل طوال أعوام قيادة الجيش الإسرائيلي.
يدرك صنّاع القرار في "إسرائيل" أن الخروج في حملة لإعداد الجمهور إزاء حرب مُوسعة من شأنه أن يعزّز الاستعداد في الجبهة الداخلية، لكنّه في المقابل سوف يؤدي إلى تبعات سلبية تصبّ في مصلحة حزب الله. بالإضافة إلى الذعر في صفوف الجمهور، فإنه، وفق إعلام إسرائيلي، يمكن أن يؤدي إلى انهيار في الأسواق وتأكّل ثقة الجمهور في حال لم يحدث أي تصعيد.
ضرورة تغيير المعادلة
من ينظر فقط من زاوية الأسباب الموجبة المذكورة أعلاه، والتي تحفّز "إسرائيل" على الحرب، معطوفة على تهديدات قادة وآراء خبراء إسرائيليين نعرضها لاحقاً، بالإضافة إلى تعاظم الاستعدادات لهذا الخيار، فليس من الغريب أن يخرج باستنتاج، مفاده أن الحرب واقعة لا محالة.
بينما يقوم الجيش الإسرائيلي بنقل ألوية وتشكيلات خرجت من غزة في اتجاه الجبهة اللبنانية، وتعزيز مناوراته وتدريباته وتجهيز ترسانته وذخائره، فإنه لا يتوانى عن تذكير جمهوره بضرورة الاستعداد لهذا الخيار. في الآونة الأخيرة، قامت الحكومة الإسرائيلية بتمديد إجراءات إقامة المستوطنين، الذين أخلوا الجليل، لأشهر مقبلة، على نحو يؤشّر على أن الحرب مستمرة ومرشّحة لاحتمالات التصعيد، وهو ما بدا واضحاً منذ أشهر خلت، من خلال تصريحات نتنياهو، الذي أشار منذ البداية إلى حرب طويلة.
يرى العميد في الاحتياط، أمنون صوفير، في حديث إلى "قناة كان"، أن حزب الله هو التهديد الأكبر على "دولة إسرائيل"، وهو التنظيم الأكثر مركزية والأكثر استكمالاً والأكثر أهمية. كلامه هذا لم يأتِ في سياق المديح، وإنما للقول إن وجود الحزب عند السياج الحدودي أمر لم يعد ممكناً التعايش معه بعد الـ7 من أكتوبر، لأن ما حدث في غلاف مستوطنات غزة سيحدث بأضعاف مضاعفة إذا جرى السماح باستمرار هذا الواقع.
وزير الأمن السابق وعضو الكنيست، أفيغدور ليبرمان، يحتمل كلامه المزايدة ومحاولة تسجيل نقاط على حكومة نتنياهو من موقعه المعارض، إلا أن حديثه إلى القناة الـ"12" بات يعبّر عن قناعة شريحة واسعة من الإسرائيليين.
بتاريخ 26 شباط/فبراير الماضي، يصف تهديد حزب الله بالتهديد الخطير الذي لا يقلّ عن التهديد الوجودي (أي أعلى مستوى من التهديد الاستراتيجي) بسبب امتلاكه كمية هائلة من الصواريخ الدقيقة والسلاح المتطور، عدا عن مئات آلاف الصواريخ غير الدقيقة. يقول: "إذا لم نغير المعادلة قلن يبقى سكان في الشمال. هناك الآلاف من الذين يبحثون عن نقل سكنهم بصورة ثابتة، حتى أولئك الذين لديهم إمكانات مادية أقل".
يقترح ليبرمان أن تبادر "إسرائيل" إلى حل هذه المشكلة "المزدوجة" وحدها. من وجهة نظره، إن أي قرار سياسي لن يحلّها، عدا عن أن قدرات حزب الله آخذة في التعاظم مع مرور الوقت، و"هذا تهديد لا يمكن تحمّله".
المشكلة الكبرى، التي نشأت بفعل "طوفان الأقصى" داخل الكيان، هي ارتطام ما يجب القيام به على صخرة ما يمكن القيام به. على امتداد الشهور الفائتة، استفاض خبراء وسياسيون وصحافيون وشخصيات اعتبارية إسرائيلية في شرح الأسباب الموجبة التي تستدعي ضرورة المبادرة إلى حرب موسّعة تجاه لبنان.
إذا لم يحدث ذلك، فسوف يدرك حينها رواد "التيتانيك"، الذين يتابعون من كثب كل ما يُقال في إعلامهم، أن الحفلة انتهت، وأن سفينة الحلم ما عاد في الإمكان تعويمها. إنه الغرق البطيء، والذي لم يتسنّ للمُرفَّهين في الطوابق العليا بعدُ أن يروا حجم الثقوب ومنسوب المياه الذي غمر غرفة المحركات.