"الممر الهندي".. مشروع اقتصادي أم مؤامرة سياسية؟
هل الممر المقترح يشكل بديلاً من مشروع "الحزام والطريق" الصيني؟ وهل يمكن أن يكون بديلاً منه أو منافساً له؟
يبدو أن قمة العشرين الأخيرة كانت ناجحة لجهة تكريس نهاية عصر القطبية الأحادية، والإعلان عن تشكل نظام عالمي جديد بدأت أقطابه بالتشكل.
الحضور الأميركي في هذه القمة كان مختلفاً، فقد غاب عنه "الخطاب الاستعلائي" المعهود، فكان البيان الختامي للقمة بياناً توافقياً يعكس توازنات القوى الجديدة في العالم. يبدو أن الولايات المتحدة باتت مقتنعة بضرورة الانتقال من المناكفة إلى المنافسة، التي لا تقصي أي منافس ولا تضع العقبات أمام تطوره وتقدمه.
وتم الانتقال بمجموعة العشرين من النخبوية إلى العالمية، إذ كانت تقتصر على أكبر 20 اقتصاداً في العالم، ليتم الإعلان عن ضم الاتحاد الأفريقي إليها، والذي يضم 55 دولة نامية.
بدا أن الروس كانوا مرتاحين لتلك القمة، إذ غابت عنها نغمة التهديد والوعيد لموسكو. تلك النغمة التي لم تغير شيئاً من عزيمة الروس منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
أما الصين فكانت الغائب-الحاضر في تلك القمة، فقد تصدر غياب رئيسها عن القمة جل اهتمام وسائل الإعلام الدولية.
وكان الإعلان عن تأسيس "الممر الهندي" الحدث الأهم الذي تصدر أعمال تلك القمة، وكثرت التحليلات حول طبيعة هذا الممر وأهميته، وما سيترتب على تأسيسه من فرص وتحديات على المنطقة والعالم.
وكان السؤال الأهم والأبرز للكثيرين، هل الممر المقترح يشكل بديلاً من مشروع "الحزام والطريق" الصيني؟ وهل يمكن أن يكون بديلاً منه أو منافساً له؟ وما هي الدول المستفيدة والدول المتضررة من هذا المشروع؟ وما تأثير ذلك في دولنا العربية والكيان الصهيوني.
بداية، لا بد من الإشارة إلى أننا ما زلنا نعيش عصر العولمة، لجهة تلاشي حدود الدولة الطبيعية والسياسية، وظهور مفهوم جديد للحدود هو "الحدود الشفافة"، بمعنى أن حدود الدولة باتت حيث تصل مصالحها الاقتصادية، وهو ما سيرتب التزامات كبيرة على تلك الدول لحماية مصالحها في الخارج.
من المؤكد أن المشروع ليس وليد اللحظة، بمعنى أنه قد تم التخطيط له منذ فترة ليست بقصيرة، وبالتالي لم يكن الإعلان عنه مفاجئاً للعديد من دول العالم. بدأت فكرة المشروع في العام 2017، وخلال إدارة ترامب تم العمل على تأهيل الهند لتكون "نمراً اقتصادياً" في وجه التنين الصيني.
إدارة بايدن رأت أنه لا يمكن احتواء الصين من دون مساعدة قوى آسيوية، وخاصة الهند واليابان وكوريا الجنوبية، ولاحقاً إندونيسيا وماليزيا. لذا، فقد بدا أن المشروع هو مشروع أميركي يندرج في إطار سعي إدارة بايدن لاحتواء الصين، من خلال إعطاء دور أكبر للهند لتكون منافساً لها.
واللافت أن هذا المشروع قد استثنى سلطنة عمان، وهي التي تقع في قلب هذا الممر، وهو ما يفسر غياب السلطان هيثم بن طارق عن القمة، رغم الدعوة التي وجهت إليه، مكتفياً بأن يقوم نائب رئيس الوزراء بتمثيل السلطنة في القمة.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة الأميركية ليست جزءاً من المشروع، تم توقيع الاتفاق بينها وبين كل من: الهند والسعودية والإمارات والاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.
ولم يحضر الأردن توقيع الاتفاق ولا الكيان الصهيوني، رغم الحديث عن أنهما جزء من هذا المشروع، وهو ما يطرح تساؤلات كثيرة عن سبب غيابهما.
يبدو أن المشروع يشكل مطلباً انتخابياً للرئيس بايدن الذي يسعى إلى تحقيق أي تفوق على الصين، كما يسعى إلى تحقيق اتفاق للسلام بين السعودية و"إسرائيل" قبل الانتخابات الأميركية. ويتوقع الكثير من المراقبين أن يتم هذا الاتفاق قبل نهاية العام، في ظل الحماس الذي يبديه رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو.
نتنياهو المأزوم داخلياً وخارجياً، والذي يبحث عن أي انتصارات يسعى إلى تحقيقها، حتى لو كانت تلك الانتصارات زائفة، فالهدف هو التأثير في الرأي العام الإسرائيلي لا أكثر.
أما المملكة العربية السعودية، فيبدو أنها تسعى لتنويع شراكاتها، ولا تقيم وزناً لأي اعتبارات قد تهدد مصالحها الاقتصادية، حتى لو كان ذلك على حساب شقيقتها الكبرى (مصر).
مصر التي كانت حاضرة في تلك القمة، لكن رئيسها لم يلتقِ بولي العهد السعودي وهو ما يؤكد ما يشاع عن خلافات كبيرة بين البلدين.
ترى المملكة أن المشروع المقترح يسلط الضوء على إمكاناتها الاقتصادية، ومكانتها التي تعززت كونها الدولة الأسرع نمواً في مجموعة العشرين. تلك الإمكانات جعلت من المملكة هدفاً للدول العظمى (أميركا والصين وروسيا)، التي سعت لإقامة العلاقات معها.
كما أن السعودية نجحت في تنويع شراكاتها، فباتت صديقاً للدول المتعادية (روسيا والصين من جهة، والولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى).
في العام 2021، احتلت السعودية المرتبة الـ17 على قائمة أكبر المستثمرين في الهند، وتشمل الاستثمارات السعودية البارزة مشروع الساحل الغربي للتكرير والبتروكيماويات في ولاية ماهاراشترا بقيمة 44 مليار دولار.
وترتبط المملكة بعلاقات متميزة مع الهند، فهي رابع أكبر شريك تجاري لنيودلهي، بعد الولايات المتحدة والصين والإمارات في 2022.
بينما تنظر الهند إلى السعودية على أنها شريك تجاري مهم في قطاع أمن الطاقة والاستثمار، فيما ترى الرياض أن الهند سوق نامية وتمثل فرصاً عديدة تخدم وبشكل كبير الاقتصاد السعودي، ما يحفز التوقعات في شأن ازدهار التعاون المستقبلي بين البلدين، وبخاصة في مجال الطاقة.
كما تعتمد الهند على السعودية في تزويدها بالنفط الخام، إذ تحصل على 18% من احتياجاتها النفطية من الرياض.
وبلغ حجم التجارة الخارجية بين البلدين 42,8 مليار دولار في العام 2022، من بينها صادرات سعودية إلى الهند تقدر بـ 34,1 مليار دولار.
ويوجد في المملكة العربية السعودية أكثر من 2,6 مليون هندي، يعملون في مختلف المستويات، وتقدر حوالاتهم الخارجية إلى الهند بـ 8 مليار دولار سنوياً.
يبدو أن مصر حاولت عدم الدخول في مناكفات سياسية، والتزمت سياسة ضبط النفس، رغم المخاوف التي عكستها كتابات المحللين وآراء الصحفيين لجهة تراجع دور قناة السويس وإيجاد بديل منها.
خاصة بعد تراجع المملكة عن تنفيذ جسر الملك سلمان الذي يربط بين السعودية ومصر، وهو ما يشير إلى تغيير في التوجهات الاستراتيجية السعودية.
لكن ذلك من الناحية العملية يبدو أنه غير مجد، خاصة وان الممر الهندي المقترح يسلك طريقاً معقداً (بحر- بر- بحر- بر)، وبالتالي هناك حاجة إلى عدد كبير من القطارات واليد العاملة.
وتشير الأرقام إلى أن 80% من التجارة الدولية تتم عبر البحار، فالطرق البرية لا يمكن أن تغني عن الطريق البحري، إذ إن كل سفينة يمكن أن تحمل 25 ألف حاوية، بينما لا تتجاوز حمولة القطار 100 حاوية. بمعنى أن كل سفينة سوف تحتاج إلى 250 قطاراً لينقلها. كما أن تفريغ السفن ونقلها بالقطارات مكلف من الناحية العملية، خاصة وأن اليد العاملة ليست رخيصة في كل من الإمارات العربية المتحدة والسعودية.
وتشير الإحصائيات إلى أنه يمر في مصر كل يوم 80 سفينة كبيرة، بمعنى أن نقل حمولة تلك السفن سوف يحتاج إلى 20 ألف قطار! كما أن العلاقات المصرية-الهندية جيدة وتتطور بشكل كبير، إذ بلغت استثمارات الهند في قناة السويس 8 مليار دولار.
وكانت الهند قد وجهت دعوة إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ليكون ضيف الشرف الوحيد بمناسبة الاحتفال بيوم الجمهورية في الهند في كانون الثاني/ يناير من هذا العام. واتفقت الهند مع مصر على التبادل التجاري بينهما بالعملات الوطنية والاستغناء عن الدولار، وهو ما يشير إلى عمق العلاقات بين البلدين.
تركيا، من جهتها، كانت الغاضب الأكبر، إذ عبّر الرئيس إردوغان عن غضبه من عدم مرور المشروع بتركيا، وقال: إن هذا المشروع لن يكتب له النجاح من دون المرور بتركيا. يبدو أن ما قصده إردوغان هو أن هذا المشروع يريد المرور بليبيا، وصولاً إلى باقي الدول الأفريقية، مع الإشارة إلى الدور الكبير لتركيا في ليبيا اليوم. ولتركيا مخاوف أمنية تتعلق بمدى شمول المشروع لكل من قبرص واليونان، اللتين تربطهما علاقات متوترة مع أنقرة.
كما ركز المشروع على القارة الأفريقية التي باتت ساحة للمنافسة بين الدول العظمى، وهو ما يفسر ما يحدث من انقلابات في عدد من دول القارة السمراء.
يبدو أن المشروع بحاجة إلى وقت طويل لتنفيذه أو حتى البدء به، ولا يتعدى كونه مشروعاً للنقل وليس لتوطين الصناعات، على غرار مشروع "الحزام والطريق".
يعد المشروع الهندي مشروعاً تنافسياً، وليس واقعياً من الناحية العملية، وليس له أثر في الاقتصاد والتجارة العالمية. وهناك تنافس دولي يجري اليوم بين تكتل شرقي يتمثل في الصين وروسيا وإيران وبعض الدول الأخرى، في مواجهة تكتل أميركي مرتبط ببعض الدول الخليجية.
ويحتاج هذا المشروع إلى عدة سنوات للبدء في تنفيذه، فيما لو تم تأمين التمويل اللازم لذلك، واستطاعت الدول الداخلة فيه تجاوز تحدياتها الأمنية. وبالتالي، فإن هذا المشروع لا يتعدى كونه إعلاناً سياسياً أميركياً لمناكفة الصين في مشروع "الحزام والطريق"، كون أميركا بعيدة كل البعد عن امتلاك مقومات المنافس وأخلاقياته.