هل نشهد انفراجة في العلاقات بين الجزائر وفرنسا قوامها "الغاز والاستثمارات"؟
ترى الصحافة الجزائرية أنّ على فرنسا بذل المزيد من الجهد لاكتساب ثقة الرأي العام المحلي. يأتي ذلك من خلال السعي لتعزيز مجالات التعاون الاقتصادي، بحيث لا تقتصر على النفط والغاز.
استقبلت الجزائر في أواخر آب/أغسطس من العام الجاري، بالتزامن مع الذكرى الستين لانتهاء حرب الاستقلال، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وخلال الزيارة، عُقد العديد من اللقاءات التي أسفرت عن توقيع ما سمي "إعلان الجزائر" أو "إعلان الشراكة"، وأعلن حينها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن الإعلان يهدف إلى تعميق التعاون والشراكة بين البلدين في العديد من المجالات.
في ثاني أسابيع شهر تشرين الأول/أكتوبر، تجددت اللقاءات، واستقبل الجزائريون رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن على رأس وفد يضم مجموعة من الوزراء ورجال الأعمال وأصحاب المشاريع في شتى المجالات. وقد سعت الحكومة الفرنسية من خلال هذا الوفد إلى إتمام المزيد من الاتفاقيات، كترجمة للإعلان الذي وقّعه الرئيسان.
وقد بدأت بورن برنامج الزيارة بوضع إكليل من الزهور في "مقام الشهيد" الذي يخلد ذكرى حرب الاستقلال عن فرنسا (1954-1962)، قبل التوجه إلى مقبرة "سانت أوجين" في أعالي حي "باب الواد" الشعبي، حيث يرقد العديد من الفرنسيين المولودين في الجزائر.
ألقت وسائل الإعلام المحلية والدولية مزيداً من الضوء على زيارة بورن إلى الجزائر، بسبب ضخامة حجم الوفد المرافق لها من جهة، إذ ضم 16 وزيراً، فضلاً عن المستثمرين، ولكونها من جهة أخرى الزيارة الأولى التي تقوم بها بورن خارج بلادها منذ توليها رئاسة الحكومة الفرنسية في شهر أيار/مايو الماضي. وكان من المقرر أن يقوم رئيس الوزراء الفرنسي السابق جان كاستكس بزيارة إلى الجزائر في نيسان/أبريل 2021، لكن تم تأجيلها في اللحظات الأخيرة في سياق توتر العلاقات الثنائية.
دارت الاجتماعات التي عُقدت على مدار يومين، وشارك فيها رجال أعمال فرنسيون، حول كلّ المجالات، وأطل في الخلفية ملف الطاقة، فمن المعروف أنّ الجزائر تعد من الدول الغنية بالنفط والغاز، إذ يعتمد اقتصاد البلاد بشكل رئيسي على هذا القطاع، ويشارك بنسبة 20% من الناتج المحلي الإجمالي، و85% من إجمالي صادرات البلاد، في الوقت نفسه الذي تعاني أوروبا أزمة في موارد الطاقة بعد الحرب الأوكرانية واشتعال حال العداء بين الدول الأعضاء في حلف الناتو من جهة، وروسيا من جهة أخرى.
11 اتفاقاً بين البلدين في مجالات متنوعة.. والعيون تترصّد إمكانية التنفيذ
في ختام اللقاءات بين الحكومتين الفرنسية والجزائرية، والتي دارت تحت شعار "الدورة الخامسة للجنة الوزارية المشتركة بين البلدين"، أعلن رئيس الوزراء الجزائري أيمن بن عبد الرحمن توقيع 11 اتفاق تعاون مع فرنسا، تشمل مجالات مختلفة. أما رئيسة الحكومة الفرنسية، فأكدت الاستمرار في بناء شراكة للمستقبل وطموح مشترك للبلدين. وشملت الاتفاقات مجالات الصناعة والتكنولوجيا، والمؤسسات الناشئة والابتكار، والزراعة، والتعليم العالي والبحث العلمي، والعمل والتشغيل، والسياحة والصناعة التقليدية.
بحسب مراقبين، فإن الزيارة شملت العديد من الجوانب السياسية، وخصوصاً أنَّ وزيرة الخارجية كاترين كولونا ووزير الداخلية جيرالد دارمانان كانا ضمن الوفد المشارك في الاجتماعات، وبالتالي تم التطرق إلى العلاقات السياسية بين الجزائر وموسكو، وهي علاقات تاريخية ومستقرة، إضافة إلى مناقشة الهجرات غير الشرعية التي تفد إلى أوروبا وتتسبب بحال من القلق لدى العديد من الحكومات. وكانت باريس قد خفضت عدد التأشيرات الممنوحة للجزائر بنسبة 50% للضغط على الحكومة، نظراً إلى عدم تعاونها في إعادة مواطنيهما المطرودين من فرنسا.
ورغم الإعلان عن العديد من مجالات التعاون بين البلدين في نواحٍ مختلفة، فلا شك في أن مجال الطاقة استحوذ على النصيب الأكبر من التفاهمات، وربما ضغطت الجزائر على فرنسا بسبب حاجتها إلى الغاز لتوسيع مساحة الاستثمارات، وخصوصاً أن الجزائر في أمس الحاجة لضخ المزيد من الأموال بهدف تقوية بنية البلاد التحتية وتنشيط الاقتصاد.
أما فرص نجاح الشراكة بين البلدين وتفعيل هذا الكم الضخم من الاتفاقيات، فإنها تتناسب طردياً مع استقرار الأوضاع السياسية بين المستعمر القديم والبلد العربي الغني بالنفط، وخصوصاً أن توتر العلاقات كان العنوان الصحيح لوصف العلاقات بين البلدين خلال السنوات الثلاث الماضية. ومن المؤكد أن فرنسا تسعى اليوم لإذابة الجليد الذي طغى على العلاقات خلال تلك الفترة وطي صفحة الماضي وبناء علاقات جديدة.
مصدر للطاقة أم شريك اقتصادي متكامل؟
ترى الصحافة الجزائرية أنّ على فرنسا بذل المزيد من الجهد لاكتساب ثقة الرأي العام المحلي. يأتي ذلك من خلال السعي لتعزيز مجالات التعاون الاقتصادي، بحيث لا تقتصر على مجالات النفط والغاز، بل تتعداها لتحلّق في فضاء أوسع يشمل العديد من أطر التعاون والشراكة التي تنعكس إيجاباً على أوضاع المواطنين الجزائريين.
وتعلن الحكومة الجزائرية في أكثر من مناسبة حاجتها إلى الاتفاق مع مستثمرين مباشرين وفتح الأسواق أمام شركات اقتصادية عالمية لتعزيز اقتصاد، وتنويع مجالات العمل، وعلاج البطالة التي باتت أمراً مزعجاً في البلاد.
ويمكن لفرنسا أن تؤدي دوراً مؤثراً في هذا الإطار، وخصوصاً مع تصديق السلطات الجزائرية على قانون استثماري جديد أكثر انفتاحاً ودعماً لرجال الأعمال، وتريد الحكومة الجزائرية أن تثبت لشعبها أن إقرار هذه الحزمة من قوانين الانفتاح، إن جاز التعبير، انعكس بالإيجاب على المناخ المالي، وخصوصاً أن قوانين من هذا النوع دوماً ما يتم مواجهتها بسيل من المعارضة من جانب بعض الناشطين والمثقفين اليساريين والقوميين على حد سواء.
ويبدو أن بورن كانت على وعي بما يحتاجه الجزائريون لاكتساب ثقتهم، إذ صرحت أنَّ ملف الغاز "ليس على جدول أعمال" الزيارة، وهو ما أثار موجة من الهجوم عليها من جانب المعارضة. وقد تساءلت النائبة عن حزب الجمهوريين اليميني المعارض ميشيل تابارو عن هدف الزيارة: "إذا لم تكن مسألة الأمن أو إمداداتنا (بالغاز) في جدول أعمالها، فما فائدة زيارة بهذا الحجم؟"، وهو الأمر الذي دفع بورن إلى أن تؤكد مرة أخرى أن "فرنسا ستستمر في تطوير شراكتها في هذا القطاع مع الجزائر، لا سيما فيما يتعلق بالغاز الطبيعي المسال، وزيادة كفاءة طاقاتها الإنتاجية من الغاز".
المنافسة بين فرنسا وإيطاليا على غاز شمال أفريقيا
منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، اتجهت أبصار الأوروبيين صوب الجزائر، وهي من أكبر 10 منتجين للغاز في العالم، وتمد أوروبا بنحو 11% من احتياجاتها. وقد باتت الجزائر مورد الغاز الرئيسي لإيطاليا في الأشهر الماضية عبر خط أنابيب "ترانسميد" الذي يمر عبر تونس. أما فرنسا، فإنها تواجه صعوبات في الجزائر بحصة تناهز 10% من السوق. وقد تجاوزتها الصين بنسبة 16%، وصارت المورد الأول للبلد الأكبر جغرافياً في أفريقيا، وسط تنامٍ ملحوظ في العلاقات بين الجزائر وبكين.
وتدرك باريس أنّ من الصعب تحقيق أدنى اختراق في ملفي الساحل وليبيا من دون التعاون مع الجزائر، ناهيك بالدول الأفريقية التي تؤدي فيها الجزائر دوراً كبيراً اليوم، والتي كانت خاضعة في الماضي للاحتلال الفرنسي.
ورغم تأكيد الرئيس الفرنسي ماكرون أنَّ التعاون مع الجزائر لن يغير وضع إمدادات الطاقة إلى فرنسا، وأنّ بلاده أقل اعتماداً على الغاز الروسي، وأن هذا الشتاء سيمر من دون مشكلات، فإنَّ أزمات الطاقة هي أمر حاصل بالفعل في فرنسا هذه الأيام، ولا يمكن إنكاره، ما يجعل البحث عن تنويع المصادر التي تزوّد البلاد بالطاقة أمراً لا مفر منه.
وتكشف التحركات الخارجية لزعماء كلّ من إيطاليا وفرنسا اندلاع حرب خفية بين البلدين على غاز شمال أفريقيا، إلا أنَّ الحرب قوامها الدبلوماسية، وأيّ الفريقين سيكون أجدر باكتساب ثقة الحكومات أو اختراق المجموعات المسلحة التي تشهد السلطة فيها حالاً من الفوضى، كما هو الوضع اليوم في ليبيا.
وكان ماكرون قد نفى خلال زيارته الجزائر نياته "منافسة إيطاليا" على الغاز الجزائري، مشدداً على "ضعف أهمية الغاز في مزيج الطاقة" في فرنسا.
الذاكرة الاستعمارية
يعرف الفرنسيون، رغم مرور نحو 6 عقود على استقلال الجزائر، أن جراح الجزائريين ما زالت تؤلمهم، إلا أن باريس لم تدرك حتى الآن أنَّ قضايا الذاكرة والتاريخ لا تحلّ بكلام معسول واعترافات مبتورة. لذلك، من مصلحة البلدين التركيز على البعد الاقتصادي، وتغليب المصلحة المشتركة على أيّ شيء آخر، وأن يتحاشى الفرنسيون خدش كبرياء الجزائر بأي شكل، حتى لا يخيم التوتر على العلاقات من جديد؛ فحين زار ماكرون الجزائر للمرة الأولى في كانون الأول/ديسمبر 2017، في بداية حكمه، بدت حينها العلاقات بين البلدين واعدة مع رئيس فرنسي شاب ولد بعد عام 1962، يصف الاستعمار بأنه "جريمة ضد الإنسانية"، ويستنكر المذبحة التي تعرض لها المتظاهرون الجزائريون في باريس في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1961.
لكن الآمال سرعان ما تلاشت مع صعوبة توفيق ذاكرة البلدين بعد 132 عاماً من الاستعمار والحرب الدموية، إذ توترت العلاقات بينهما عندما شكّك الرئيس الفرنسي في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار، وهو ما يشير إلى وجود "حنين استعماري قوي" لدى بعض مستشاري الرئيس الفرنسي أو لدى بعض القوى السياسية التي يأمل الحصول على دعمها.
بحسب مراقبين، ليس من مصلحة فرنسا تلويث علاقتها مع الجزائر بأيِّ درجة اليوم، كما أن الحكومة الجزائرية تركّز على الشق الاقتصادي وحاجتها إلى الاستثمار، وأن البلدين يمكنهما التوافق على عدم التعرّض لكلّ ما يثير التوتر بينهما على الصعيد السياسي والتاريخي، وتقديم "المصالح الاقتصادية المشتركة" على أي صعيد آخر، على أن يتم إعطاء المجال للجان المؤرخين المشتركة لإتمام التأسيس، ومن ثم العمل والتركيز على مجالات التعاون المتنوعة.