هل تنجح زيارة وزيرة المالية الأميركية إلى الصين في وضع حد لتدهور العلاقات بين البلدين؟
لرؤية الأميركية "لاحتواء الصين" ركّزت على استراتيجية قائمة على ضرورة فصل بكين عن موسكو، لأن أيّ تطوّر في العلاقة بينهما سيكون في غير صالح الولايات المتحدة بكل تأكيد.
يبدو أن الحديث عن تطور العلاقات الصينية الأميركية لم يعد ممكناً في ظل ما صلت إليه من انعدام للثقة بين مسؤولي البلدين، فبات سقف الطموحات هو وضع حد للتدهور في العلاقة بينهما.
يأتي ذلك كله في ظل التصريحات المتبادلة عن حرص البلدين على التعاون والحوار، والسعي إلى عدم "تحويل التنافس بينهما إلى صراع"، ستكون نتائجه أكبر من قدرة البلدين والعالم كله على تحمّلهما.
من الناحية الشكلية تبدو الولايات المتحدة أكثر حرصاً على استئناف الحوار مع بكين، لكنها ومن الناحية العملية تفعل كل ما من شأنه أن يوتر تلك العلاقات، ويعمل على تقويضها.
بكين من جهتها لطالما دعت إلى التعاون والحوار، إدراكاً منها لأهمية ذلك في استمرار خططها وبرامجها التنموية، وسعيها إلى تنفيذ مشروعها الاستراتيجي العظيم (مشروع الحزام والطريق).
ولعل ما يؤكد صحة التوجّهات الصينية، هو أن تلك التصريحات تأتي منسجمة مع مبادئ السياسة الخارجية الصينية وتوجّهاتها، وسعيها إلى صياغة نظام دولي "أكثر عدلاً"، تكون فيه الدول جميعاً (الصغيرة والكبيرة) متساوية في الحقوق والواجبات.
هذه الرؤية الصينية تنطلق أيضاً من كون الوقت بالنسبة لبكين يعد "مكسباً صلباً"، بمعنى أنه يسير لمصلحتها، ولجهة تقليل الفجوة بينها وبين القوة الأعظم (الولايات المتحدة الأميركية).
هذا يعني أن نجاح السياسة الخارجية الصينية يتمثّل اليوم في قدرتها على استيعاب المخاطر والتهديدات، والابتعاد عن أي مواجهة عسكرية قد تؤدي إلى حرف بكين عن المسار الذي رسمته لنفسها، وتعرقل سعيها إلى بناء "الدولة العصرية" التي خططت لاستكمال بنائها في الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، أي في العام 2049.
لقد سعت بكين إلى التركيز على الاقتصاد كقوة أساسية وقاطرة للسياسة، فسعت إلى توثيق علاقاتها الاقتصادية مع العديد من دول العالم، لأن تشابك العلاقات الاقتصادية سوف يسهم في تطور العلاقات السياسية وحلحلة الملفات العالقة بينها وبين باقي الدول.
ولم تشذ العلاقات الصينية الأميركية عن تلك القاعدة، فرغم العداوة السياسية بينهما، إلا أن التعاون الاقتصادي ظل مستمراً ولسنوات عديدة، حتى باتت فكرة "فك الارتباط" بين البلدين فكرة مستحيلة من الناحية العملية.
لقد باتت الصين تشكّل "معضلة" بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، بمعنى أن التعاون معها مشكلة، أما التفكير في قطع العلاقات معها فقد بات كارثة وضرباً من الخيال، فباتت الولايات المتحدة إذا أرادت أن تطلق النار على بكين ليس كمن يطلق النار على قدميه فقط، بل ربما على صدره أيضاً.
الرؤية الأميركية "لاحتواء الصين" ركّزت على استراتيجية قائمة على ضرورة فصل بكين عن موسكو، لأن أيّ تطوّر في العلاقة بينهما سيكون في غير صالح الولايات المتحدة بكل تأكيد.
لكن الذي حدث على أرض الواقع، وخاصة بعد قيام الحرب في أوكرانيا، أن أصبحت العلاقات بين بكين وموسكو أكثر تطوراً، وانتقلت إلى مرحلة من التقدم والتطور لم تشهده من قبل.
"تحالف الضرورة" بين بكين وموسكو، يشكّل انعكاساً لفشل الاستراتيجيات الأميركية التي صيغت منذ عهد الرئيس أوباما، مروراً بفترة الرئيس ترامب، وانتهاء بإدارة بايدن التي أدت توجّهاتها السياسية تجاه البلدين إلى دفعهما إلى التعاون والتنسيق لمواجهة العدو المشترك.
لقد استمرت إدارة بادين في تبنّي العداء لبكين، والتعامل معها انطلاقاً من "عقلية الحرب الباردة"، وهي السياسة التي لطالما رفضتها الصين ودعت الولايات المتحدة إلى التخلي عنها، والتعامل معها من منطلق الندية وإدراك حجم الصين وثقلها على الساحة الدولية.
لقد أدت الحرب الأوكرانية إلى تصاعد حدة العداء الغربي لبكين، سعياً إلى حثها على اتخاذ موقف أكثر تشدّداً من موسكو، وإعلان موقفها الرافض للحرب في أوكرانيا.
هذا المطلب يبدو بعيداً عن المنطق والقراءة الواقعية لتوزّع القوى على الساحة الدولية، ذلك أن الموقف الصيني أدّى "دور الموازن الدولي"، وحال دون تطوّر تلك الحرب إلى حرب عالمية ثالثة.
فلو أعلنت بكين رفضها لتلك الحرب ووقوفها إلى جانب الولايات المتحدة والدول الغربية ضد روسيا، فهذا يعني إما هزيمة سريعة لموسكو، أو لجؤها لاستخدام القوة النووية، وهو المشهد الذي لا يريد أحد تخيّل عواقبه.
إن التطوّر الاقتصادي للصين، والذي رافقه نجاح سياسي وانخراط في المشكلات الدولية، وملء للفراغ الاستراتيجي الناجم عن ضعف الولايات المتحدة الأميركية، أدى إلى تعاظم المكانة الدولية لبكين، وظهور أصوات داخل الإدارة الأميركية وخارجها تنادي بحتمية المواجهة مع بكين.
إما الآن... أو فات الأوان
هذه الأصوات باتت ترى أنه إذا لم تبادر الولايات المتحدة اليوم لوضع حد للنفوذ الصيني، فإنها لن تعود قادرة على مواجهة هذا النفوذ في المستقبل. من هنا فقد سعت الولايات المتحدة إلى صياغة استراتيجيات اقتصادية وعسكرية وأمنية للضغط على بكين، وإجبارها على تقديم المزيد من التنازلات.
فعلى الصعيد العسكري والأمني، سعت الولايات المتحدة إلى نسج طوق من التحالفات العسكرية والأمنية في الحدود الإقليمية لبكين، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادي، وبحر الصين الجنوبي والشرقي. فسعت إلى إقامة عدد من التحالفات (أوكس-كواد)، وعملت على تفعيل دور كل من اليابان وكوريا الجنوبية، وتعزيز التعاون مع الفلبين وأستراليا وجزر سليمان.
وسعياً إلى تعزيز وجود قوة آسيوية موازية للصين، فقد عملت الولايات المتحدة الأميركية على تعزيز الحضور الهندي في المشهد الدولي، وحثّ نيودلهي إلى التخلي عن حيادها التاريخي كدولة مؤسسة لحركة عدم الانحياز.
الهند من جهتها ما زالت تراقب المشهد الدولي، وتمارس دور "الانتظار الإيجابي"، وصولاً إلى التعامل مع "المنتصر الضعيف" في حال جرت أي مواجهة مع الصين، خاصة وأنها قد تفوّقت على الصين ديموغرافياً، وتحقّق تطوراً اقتصادياً وتكنولوجياً هاماً.
أما على الصعيد الاقتصادي والتجاري فقد بدأت الولايات المتحدة حرباً تجارية على الصين، شملت زيادة الرسوم الجمركية على المنتجات الصينية المصدَّرة إليها، أملاً في تعديل كفة الميزان التجاري بين البلدين. وعلى الرغم من ذلك فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين في العام الماضي 690 مليار دولار، وبلغ حجم الصادرات الصينية 537 مليار دولار.
لقد شكّل الميزان التجاري رجحاناً كبيراً لصالح بكين، لكن الصين تقول دائماً إنها تسعى لاستيراد المنتجات الأميركية، لكن فرض العقوبات على استيراد الصين لعدد من المنتجات الأميركية، وفي مقدّمتها الرقائق الإلكترونية أسهم في زيادة الفارق بين الصادرات الصينية إلى واشنطن والواردات منها.
هذا إضافة إلى فرض الولايات المتحدة لعقوبات اقتصادية على أكثر من 1200 شركة وكيانٍ صيني، وهو ما دفع بكين إلى اتخاذ إجراءات معاكسة انطلاقاً من قاعدة "المعاملة بالمثل".
الإجراءات الصينية لمواجهة العقوبات الأميركية
لطالما رفضت بكين الإجراءات الحمائية من قبل الولايات المتحدة، ودعت إلى حرية انسياب السلع والبضائع، لكنها ومقابل الرفض الأميركي لجأت إلى اتخاذ إجراءات مقابلة. فقامت بعدد من الإجراءات منها: فرض عقوبات على شركة ميكرون الأميركية، وقامت باستقبال عدد من رجال الأعمال المؤثرين على مستوى العالم، والذين لهم تأثير على الداخل الأميركي.
فاستقبلت بكين المدير التنفيذي لشركة مرسيدس، وإيلون ماسك صاحب أكبر شركة للسيارات الكهربائية، ثم جاءت زيارة الملياردير الشهير بيل غيتس، ولقاؤه الرئيس الصيني شي جين بينغ.
وفي الآونة الأخيرة، وبعد قيام الولايات المتحدة بمنع الشركات الصينية من الولوج إلى الكلاود، قامت بكين بمنع تصدير مادتي الغاليوم والجيرمانيوم (اللتين تدخلان في صناعة الرقائق الإلكترونية) إلى الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهو ما زاد من حجم مخاوف الولايات المتحدة الأميركية.
زيارة وزيرة المالية الأميركية إلى بكين
نتيجة لتلك التوترات في العلاقات السياسية والاقتصادية بين البلدين، وخاصة بعد فشل زيارة وزير الخارجية الأميركي بلينكن إلى بكين قبل أيام، والتوتر في العلاقات بين البلدين بعد اتهام الرئيس بايدن للرئيس الصيني ووصفه بـ "الديكتاتور".
جاءت زيارة جانيت يلين وزيرة الخزانة الأميركية إلى بكين في محاولة لمنع التدهور في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، رغم أن المؤشرات لا تنبئ بالخير، وخاصة أنها استقبلت استقبالاً فاتراً، حيث جرى استقبالها من قبل موظف في وزارة المالية الصينية والمبعوث الأميركي إلى بكين.
يلين التي كانت قد أطلقت تصريحات متشدّدة تجاه بكين حين وصولها إلى الوزارة في العام 2021، حيث رأت أن "إمبراطورية الوسط" (الصين)، هي الأخطر على الولايات المتحدة. هذا الوصف جاء انسجاماً مع التوصيف الأوروبي للصين، حيث تم الاتفاق بين أميركا والدول الأوروبية على العمل على تخفيف الاعتماد على الصين، وتقليل التبادل التجاري معها.
لكن يلين ما لبثت أن تراجعت عن تلك التصريحات، معلنة ضرورة التواصل بين البلدين، خاصة وأن "فك الارتباط بينهما بات مستحيلاً" على حد قولها.
لكن مهمة يلين في بكين ليست سهلة من الناحية العملية أبداً، لذا فقد كانت الزيارة طويلة (لمدة أربعة أيام)، كما أنها شملت عدة لقاءات مع كبار المسؤولين الأميركيين.
إن مقاربة العلاقات الاقتصادية بين البلدين وربطها بقضايا الأمن القومي لكل منهما، يعقّد تلك المشكلات، ويجعل اتخاذ القرار لحلها مرتبطاً بعدد من دوائر صنع القرار لكلا البلدين. كما أن المقاربة الأميركية القائمة على "جعل الاقتصاد في خدمة السياسة، والسياسة في خدمة الاقتصاد"، تؤدي إلى تسييس القرارات الاقتصادية.
على العكس من المقاربة الصينية التي تسعى إلى جعل التعاون الاقتصادي ونمو التبادل التجاري مدخلاً لإيجاد حل لعدد من الملفات السياسية العالقة بين الدول.
إن عودة العلاقات إلى طبيعتها بين البلدين تبدو حلماً بعيد المنال وفقاً للمعطيات الراهنة، ويبدو أن سقف الطموح بات وقف التدهور الحاصل في تلك العلاقات، والمحافظة على ما هي عليه.
ذلك أن تطور العلاقات يحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى بناء الثقة بين قادة البلدين، وهو أمر لم يعد وارداً في ظل عدم الالتزام الأميركي بالتوافقات التي جرت بين الرئيسين في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. تلك التوافقات التي تصرّ عليها بكين، وتذكّر بها دوماً وتسعى إلى العودة إليها كمدخل لبناء علاقات متوازنة بين البلدين، بعيداً عن "سياسة الإملاءات" المرفوضة مطلقاً من قبل الصين.
كما تسعى بكين إلى "المحافظة على المنافسة بين البلدين، والحيلولة دون تحوّلها إلى مواجهة". لكن تلك المنافسة تتطلب أولاً وقبل كل شيء تحلي الولايات المتحدة "بأخلاقيات المنافسة"، وهو أمر غير متاح حالياً.
فما زالت الولايات المتحدة تسعى لإيجاد حل لنتائج المشكلة، لعدم قدرتها على مناقشة أسبابها والاعتراف بها، وامتلاك القدرة على تقديم التنازلات المطلوبة. ولاسيما في ظل وجود إدارة أميركية أقل ما يقال عنها إنها ضعيفة، كما أنها باتت تعمل تحت ضغط الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي تتطلّب من بايدن إظهار التشدّد تجاه بكين، حيث يحظى ذلك بشعبية كبيرة لدى الناخب الأميركي.