هل تنجح أوكرانيا في فرض معادلة جديدة في حربها مع روسيا؟
الحرب في أوكرانيا باتت مؤهلة لتنتقل من كونها "حرباً معولمة" طالت مفاعيلها دول العالم جميعها إلى حرب عالمية بين شرق مدافع عن وجوده، وغرب متعالٍ ومتعجرف وغير آبه بما أوصل إليه العالم من مآسٍ وويلات.
يبدو أنَّ الحرب في أوكرانيا لم تعد حرب استنزاف فحسب، بل باتت أيضاً "حرباً ضرورية" بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، و"حرباً دفاعية" بالنسبة إلى الدول الغربية عموماً، لكنها بالنسبة إلى روسيا ما زالت حرب بقاء ووجود.
يبدو أنَّ هذه الحرب باتت مؤهلة لتنتقل من كونها "حرباً معولمة" طالت مفاعيلها دول العالم جميعها، إلى حرب عالمية بين شرق مدافع عن وجوده، وغرب متعالٍ ومتعجرف وغير آبه بما أوصل إليه العالم من مآسٍ وويلات.
لقد شهدت الحرب الروسية الأوكرانية تصعيداً جديداً تمثل بقيام الجيش الأوكراني بضرب مواقع داخل الأراضي الروسية، وهو ما فسرته موسكو بمحاولة لتغيير قواعد الحرب. وكان الجيش الأوكراني قد نفذ هجوماً على الكرملين، في محاولة بائسة لرفع معنويات الأوكرانيين والتأثير في الجيش الروسي عبر استهداف مركز القرار في موسكو.
تلك التغيرات في قواعد اللعبة جاءت في إطار التحضير لهجوم كبير يحّضر له الطرفان، ويراد له فرض وقائع جديدة على الأرض.
أوكرانيا كعادتها أعلنت عدم مسؤوليتها عن الهجمات الأخيرة، وقالت إنها تسعى لتحرير أراضيها التي "احتلّتها" موسكو فحسب، وليس مهاجمة الداخل الروسي.
لقد شكَّلت تلك الهجمات استراتيجية جديدة تعكس رغبة وتصميماً أوكرانياً على نقل المعركة إلى الداخل الروسي، بحيث لا تبقى أوكرانيا وحدها التي تتلقى الضربات على أراضيها، إذ إنَّ هذا الهجوم سيؤثر في الرأي العام الروسي، ويجعل الروس يشعرون بما شعر به الأوكران منذ بداية الحرب.
لقد استطاعت كييف تنفيذ تلك الهجمات بشكل تدريجي، وبدأت بقصف مواقع حدودية وبمحاولات للتوغل داخل الأراضي الروسية. وفي الوقت نفسه، أنكرت تلك العمليات ونسبتها إلى جماعات عسكرية موالية لأوكرانيا.
أما الموقف الغربي من تلك الهجمات، وخصوصاً موقف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكونها الدول الأكثر دعماً لأوكرانيا، فقد أعلنت أنها قامت بتزويد كييف بتلك الأسلحة للدفاع عن نفسها، والعمل على تحرير أراضيها من "الاحتلال الروسي"، لكنها لن تسمح باستخدامها لمهاجمة الداخل الروسي.
وفي الوقت نفسه، لا تمانع استخدام تلك الأسلحة ضد الوجود الروسي داخل الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم التي استعادتها روسيا عام 2014 والمقاطعات الأربع التي ضمتها روسيا قبل عدة أشهر، بمعنى استخدام السلاح ضد "المحتل الروسي" داخل الأراضي الأوكرانية ضمن الحدود الدولية المعترف بها بين روسيا وأوكرانيا، أي حدود عام 1991، حين انفصلت أوكرانيا عن روسيا، وأن أي تجاوز هو أمر مرفوض، لأنه قد يوسع مجال الحرب لتطال دولاً أعضاء في حلف الناتو، وهو ما لا تريده الدول الغربية.
الموقف الغربي يمتلئ بالنفاق والغموض والازدواجية، إذ لا توافق تلك الدول على استخدام أوكرانيا الأسلحة التي تزودها بها لمهاجمة الداخل الروسي، لكنها تتفهم الفوائد الاستراتيجية والتكتيكية التي تجنيها أوكرانيا من تنفيذ تلك العمليات، لأن أوكرانيا تريد إجبار الجيش الروسي على التراجع عن حماية مدنه وبلداته، وبالتالي تقليل عدد القوات الروسية على الحدود معها. وبالتالي، جعل احتمالات الهجوم الأوكراني القادم أسهل وأكثر تأثيراً.
إن ما يحدث في أوكرانيا لا يمكن فصله عن المشهد الدولي العام، وخصوصاً التصعيد الأخير في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي المنطقة التي تضم 24 دولة من دول العالم، لكنها دول مهمة وفاعلة على الصعيدين الاقتصادي والتجاري، وحتى العسكري. وكذلك ما تشهده منطقة بحر الصين الجنوبي من توترات ناجمة عن ازدياد التدخل الأميركي في شؤون دول المنطقة والسعي لزعزعة الأمن والاستقرار فيها.
يبدو أنَّ المشهد الدولي بعد قمة الدول السبع التي عقدت في اليابان سيكون مختلفاً عما قبله، وهو ما يشير إلى احتمال اتخاذ قرارات مهمة ومصيرية في هذه القمة. وعلى الرغم من أن هذه القمة دورية، فإنَّ انعقادها في هيروشيما اليابانية يحمل رسائل سياسية كبيرة، كما يبدو.
هذه المدينة التي تعرضت لهجوم نووي من قبل الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت السبب في استسلام اليابان وإعلان نهاية الحرب، يبدو أنها المدينة ذاتها التي تؤسس اليوم لحرب عالمية ثالثة باتت كل احتمالات قيامها متوفرة.
لقد كان أهم هدف لهذه القمة توجيه رسائل قوية إلى كل من موسكو وبيونغ يانغ، ومن خلفهما القوة الأعظم، والمشغل الأكبر بكين. وكما حدث في الحرب في أوكرانيا، حين كانت موسكو رأس الحربة فيها، يبدو أن بيونغ يانغ باتت تستعد للدخول في أي مواجهة محتملة مع جاراتها الآسيويات.
لقد جاء رد بيونغ يانغ سريعاً، إذ أعلنت نيتها إطلاق قمر صناعي، وهو ما قوبل بالتنديد من طوكيو، وذهبت الأمور أبعد من ذلك، إذ أعلنت طوكيو نيتها إسقاط الصاروخ الكوري الشمالي في حال اقترابه من الأجواء اليابانية.
تلك المحاولة الصاروخية لم تكن الأولى من كوريا الشمالية، فقد كانت سادس محاولة تقوم بها، لكنها الأولى منذ العام 2016، وهو ما يدعونا إلى أن نتساءل: لماذا التصعيد هذه المرة من اليابان والإعلان عن الرغبة في التصدي لإطلاق القمر الاصطناعي لبيونغ يانغ، واتهامها بأنه لن يكون سوى صاروخ بالستي هدفه زعزعة الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهندي؟
يبدو أن طوكيو باتت مستعدة لتنفيذ الرؤية الأميركية في المنطقة، وخصوصاً أنها تضم في جزيرة أوكيناوا أكبر عدد من الجنود الأميركيين في المنطقة، إذ يوجد في اليابان نحو 50 ألف جندي أميركي. وقد جرى توقيع اتفاقية بين البلدين سمح بموجبها للولايات المتحدة بإعادة نشر تلك القوات داخل الأراضي اليابانية، وبالتالي إمكانية نقلها إلى الأراضي القريبة من تايوان لمواجهة أي هجوم صيني محتمل على الجزيرة.
وكانت اليابان قد أعلنت عن عقيدتها الاستراتيجية العسكرية الجديدة، التي تشمل زيادة موازنتها الدفاعية للأعوام المقبلة، وهي دولة لا يستهان بها، فهي ثالث اقتصاد على مستوى العالم، وخامس قوة عسكرية، وسابع دولة من حيث حجم الإنفاق الدفاعي.
كما أن اليابان دولة مختلفة عن باقي الدول الآسيوية، فقد كانت أقرب إلى السياسات الأوروبية، وأصبح لها تاريخ استعماري مشابه لتاريخ الدول الأوروبية في حينه، والشعب الياباني لديه نزوع نحو العظمة والقيادة، وما نشاهده اليوم من انحناء يقدمه اليابانيون للغير ليس ناتجاً إلا من فائض القوة الذي استخدم ضدهم وأجبرهم على الانحناء.
كما أنَّ شكل الدولة اليابانية يجعلها أكثر عرضة للمخاطر، ويزيد من النفقات اللازمة لحماية حدودها، فهي نموذج للدولة "الشريطية"، كما نسميها في الجغرافية السياسية. نتيجة لهذه الأسباب، بدا أن احتمال المواجهة بين طوكيو وبيونغ يانغ قائماً، فيما لو أقدمت الأخيرة على إطلاق قمرها الاصطناعي واقترب من الأجواء اليابانية.
وكان معولاً على الصين التدخل ونزع فتيل الأزمة، لكونها الدولة الأكثر تأثيراً في بيونغ يانغ، ولأنها المستهدف الحقيقي من كل ما يحصل في المنطقة، ثم جاء الإعلان عن إطلاق بيونغ يانغ الصاروخ وسقوطه في المياه الإقليمية، ليضعنا أمام تساؤلات عدة: هل فشلت بيونغ يانغ فعلاً في تجربتها الصاروخية أم أنها نفّذت كلمتها وأطلقت الصاروخ، ثم أسقطته نزعاً لأي مواجهة في المنطقة؟
في كل الأحوال، يبدو أن بكين وموسكو باتتا بمنزلة الرئتين اللتين تتنفس كوريا الشمالية من خلالهما. لذا، إن أي تهديد لهما يعني أن بيونغ يانغ ستكون في قلب تلك المواجهة.
كذلك، يبدو أن منطقة المحيطين الهندي والهادئ باتت الأكثر سخونة في العالم، نتيجة لازدياد حجم التدخلات الأميركية فيها، ولكثرة الملفات الخلافية بين الولايات المتحدة والصين، واستحالة إيجاد حل للعديد منها.
لقد كان موقف بكين واضحاً ومستنكراً للبيان الصادر عن قمة السبع، لكنها، وفي الوقت نفسه، بقيت منفتحة على أي حوار مع الولايات المتحدة، فلم تعرقل الزيارة التي كانت مقررة لوزير التجارة الصيني إلى الولايات المتحدة، كما أنها لم ترفض اللقاء بين وزيري دفاع البلدين في سنغافورة، ولكنها اشترطت على الولايات المتحدة رفع العقوبات التي فرضتها على وزير الدفاع الصيني.
الولايات المتحدة من جهتها أعلنت أنها لا تمانع عقد اللقاء بين الوزيرين، رغم العقوبات التي تفرضها على الوزير الصيني، وهو ما يضع المعايير الأميركية موضع شك وريبة.
لقد كان بيان مجموعة السبع قاسياً بالنسبة إلى بكين، وشكلت العديد من بنوده تدخلاً في شؤونها الداخلية، وهو ما استدعى رداً حاسماً من الخارجية الصينية، مطالبةً الولايات المتحدة بإظهار الصدق والجدية والابتعاد عن التدخل في شؤونها الداخلية.
يبدو أن الولايات المتحدة جادة في افتعال حرب أخرى تسعى من خلالها لاستنزاف بكين، فهل تنجح الأخيرة في الابتعاد وأداء دور القيادة من الخلف؟ ومتى سيجد حلفاء موسكو أنفسهم مضطرين إلى إعلان دعمهم لها؟