معدلات الفائدة الأميركية كرافعة للهيمنة العالمية: إلى متى؟
أحد أهم آثار رفع معدل الفائدة في الولايات المتحدة هو استقطاب رؤوس أموال سيفضل أصحابها أن يحولوها إلى دولارات أميركية.
لم يكد الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) يعلن الأسبوع الفائت عن رفع معدل الفائدة القياسي أو المرجعي بمقدار نصف واحد بالمئة (0.5%)، على معدل فائدة قريبٍ من الصفر اسمياً، وتحت الصفر فعلياً، حتى حلت تلك الخطوة، المحدودة والمتأخرة، على المشهد الاقتصادي العالمي، كموجة البرد التي انتابت بلاد الشام، في غير موعدها، في عز الربيع ذاته.
ارتفاع سعر الفائدة الأميركية يرفع الدولار إزاء العملات الأخرى
لم يكن ثمة مفر من مسارعة بنوكٍ مركزيةٍ كثيرة حول العالم إلى رفع معدلات الفائدة لديها، لأن أحد أهم آثار رفع معدل الفائدة في الولايات المتحدة هو استقطاب رؤوس أموال سيفضل أصحابها أن يحولوها إلى دولارات أميركية بمقدار ما تزداد الفوائد على الإيداعات المصرفية بالدولار عنها بالعملات الأخرى.
وأثرُ ذلك طبعاً هو زيادة الطلب على الدولار الأميركي، وزيادة قيمته مقابل العملات الأخرى والذهب، كما أظهرت المؤشرات مؤخراً، رغم معدلات التضخم العالية في الولايات المتحدة، وأكبر عجزٍ في الميزان التجاري، وأكبر دين عام، في العالم، وربما في التاريخ، يجلل عنقها.
وقعت بقية دول العالم، بعد الشروع برفع معدل الفائدة المرجعي في الولايات المتحدة الأميركية، بين نارين، فإن لم ترفع معدل الفائدة لديها، وتركت عملتها تهوي، فإنها تستورد التضخم، بمقدار ما تعتمد على المستوردات لتأمين غذائها وطاقتها وحاجاتها الاقتصادية؛ وإن رفعت سعر الفائدة، لا سيما في ظل الأثر الانكماشي القاسي لكورونا، فإنها تقلل من فرص تعافيها الاقتصادي أو تؤخرها.
وكانت دولٌ غربيةً كثيرةٌ قد خفضت معدل الفائدة المرجعي لديها إلى صفر، أو إلى ما يقاربه، بعد ربيع عام 2020، في محاولة لإنعاش اقتصاداتها والحيلولة دون اختناقها بعد الجلطات الرئوية التي تعرضت لها من جراء كوفيد وسلالاته.
وإذا كانت معدلات الفائدة الاسمية المساوية لصفر في منطقة اليورو، والقريبة من الصفر في كثيرٍ من الدول الأخرى الدائرة في الفلك الغربي، لا بل الأدنى من الصفر في سويسرا والدنمارك واليابان، كافيةً في الماضي القريب كي تصمد عملاتها إزاء الدولار عندما كان معدل الفائدة الأميركي المرجعي قريباً من الصفر، فإن بعض الدول الأخرى التي تعاني مشاكل اقتصادية مستعصية، كالتضخم المنفلت من عقاله، ناهيك بعدم الاستقرار السياسي، كانت مضطرةً لأن تُبقِي معدلات الفائدة لديها مزدوجة المنزلة لإقناع بعض رأس المال المحلي بألا يهاجر إلى إمبراطورية الدولار.
نلاحظ هنا مثلاً أن معدل الفائدة المرجعي في بعض الدول الأفريقية، مثل أنغولا وليبيريا والسودان، كان 20% أو أكثر، وكان 60% في زيمبابوي، وتم رفعه هناك إلى 80%! كذلك كان 44.5% في الأرجنتين، وتم رفعه إلى 47%. وكان 58% في فنزويلا، وتم خفضه إلى 56.18% (وهي بارقة خير).
ومن البديهي أن الدول المحاصرة تعاني بدرجة أكبر للحفاظ على قيمة عملتها، ولكن فقط بمقدار ما ينجح الحصار وبمقدار ما تضعف بنيتها الإنتاجية، إذ نلاحظ مثلاً أن معدل الفائدة القياسي في إيران هو 18%، وأنه كان 17% في روسيا، وتم خفضه إلى 14%، فيما راحت قيمة الروبل ترتفع مقابل الدولار الأميركي، وخفض معدل الفائدة الروسي هنا علامة ثقة كبيرة بالذات (كان إردوغان قد حاول اصطناعها، فوقع الاقتصاد التركي على رأسه).
معدل الفائدة الأميركي كإحدى أدوات الهيمنة وتحدياته
المهم، أصبح معدل الفائدة الأميركي هو الأكثر تأثيراً عالمياً من أي معدل فائدة آخر (حتى الآن)، الذي ليس من الممكن لأي بنك مركزي أو صانع قرار اقتصادي في العالم أن يتجاهله. وهو الأداة الأهم في يد الاحتياطي الفيدرالي الأميركي لدوزنة الاقتصاد الأميركي، كما أنه فعلياً إحدى أهم أدوات الهيمنة الأميركية التي تستمد قوتها من جاذبية الدولار خارج الولايات المتحدة؛ هذا الدولار الذي يستمد جاذبيته، بدوره، من كون الاقتصاد الأميركي أكبر اقتصاد في العالم اسمياً، وأكبر سوق للمستوردات، ومن قدرته على فرض نفسه، منذ مؤسسة بريتون وودز (1944)، بديلاً من الجنيه الاسترليني، كعملةٍ عالميةٍ؛ وأيضاً ذلك الدولار الذي بات يستمد جاذبيته بصورة متزايدة، خلال العقود الأخيرة، من ديناميكيات العولمة المالية، التي جعلت من أسواق الأسهم والسندات والعملات الأجنبية والعقود الآجلة للسلع الأساسية أسواقاً عالمية (إلكترونية)، لا محلية، تقوّم بالدولار الأميركي أساساً، وتستند إلى بنية لوجستية وقانونية، منظومة "سويفت" أنموذجاً، يهيمن عليها الغرب، الذي تهيمن عليه الإدارة الأميركية سياسياً.
على الهامش، ما تزال العملات الإلكترونية، على غرار "بيتكوين"، بعيدةً بصورةٍ كبيرة جداً، حتى الآن، عن تهديد الهيمنة العالمية للدولار، وبالتالي عن تحجيم دور معدل الفائدة الأميركي عالمياً، بسبب التأرجح الشديد في قيمة العملات الإلكترونية كأصول مالية، من جهة، والصعوبة المتزايدة لـ"تعدينها" إلكترونياً crypto-mining، من جهةٍ أخرى. فهي ما تزال ميداناً آخر للمضاربة المالية عملياً، وما برحت غير قادرة، كونها قيمةً غير مستقرة، على أن تكون مقياساً حسابياً، أو واسطة تبادل نقدي، أو مخزناً للقيمة، كالعملات أو كالذهب؛ ونكرر، حتى الآن.
ولكن ما بات يهدد عرشَ الدولار حقاً، ومنظومةَ هيمنة رأس المال المالي ككل، هو خطران: الأول، من خارج المنظومة، ويتمثل في صعود الاقتصادات الناشئة، المستقلة؛ والثاني، بنيوي، من داخل المنظومة، ويتمثل في انتفاخ القيم المالية بما يزيد أضعافاً على القيم الاقتصادية التي يفترض أن تمثلها في الاقتصاد الحقيقي (كما أوضحنا في أكثر من مادة سابقة في الميادين نت).
الخطر الأول يعني نشوء حيز غير دولاري، وغير غربي، بمقدار ما يتسع حيز الإنتاج والتبادل في الدول المستقلة الصاعدة، وبمقدار ما يتعمق التشبيك فيما بينها ومعها. وهو حيز يتسم بغلبة الاقتصاد المنتِج، الحقيقي، على الاقتصاد النقدي، على عكس الغرب، الذي دفعت دول العولمة ذاتها بالعمليات الإنتاجية خارجه.
والخطر الثاني يعني أن منظومة الهيمنة المالية الدولية، ومراكزها في الغرب الاقتصادي، ولا نقول الجغرافي، لأن طوكيو وسنغافورة وهونغ كونغ تُعد جزءاً منها، تظل مهددة دورياً بانفجار الفقاعات المالية المتضخمة بصورة غير طبيعية، أي تظل مهددة بانعدام التوازن بنيوياً داخل منظومة الهيمنة ذاتها، الأمر الذي ينتج الأزمات المزمنة وشيوع عدم الاستقرار.
وكلا الخطرين، الخارجي والداخلي، يصبان في مجرى تاريخيٍ واحدٍ في المحصلة، وهو التناقض بين علاقات الاقتصاد النقدي المهيمن دولياً، من جهة، وقاعدته الإنتاجية الحقيقية، من جهةٍ أخرى.
معدل الفائدة الأميركي كأداة حرب وإدارة أزمة
يشكل معدل الفائدة القياسي، أو المرجعي، في الولايات المتحدة الأميركية، في هذه المعادلة، أداةَ إدارة أزمة وأداة حرب مالية دولية، في آنٍ معاً، تدافع عن المنظومة ككل، وتذود عن الدولار، وتحرق العملات الأخرى، حليفةً ومعاديةً ومحايدة، حتى بلفتة بسيطة، رمزية تقريباً، مثل زيادة معدل الفائدة الأميركي المرجعي بمقدار نصف واحد بالمئة، سبقتها زيادة ربع واحد بالمئة (0.25%)، ويتوقع أن تتبعها زيادات لن تجعل معدل الفائدة الأميركي يزيد على 2.5-3% مع نهاية العام الجاري، وهو ما لا يبدأ حتى بتغطية جزء من معدلات التضخم التي بلغت، على أساس سنوي، 7.4% في نيسان/ أبريل، و8.5% في آذار/ مارس، في الولايات المتحدة، بحسب الإحصاءات الرسمية الأميركية.
يشار إلى أن الارتفاع الاسمي في معدلات التضخم في الولايات المتحدة انطلق منذ عامين، منذ أيار/ مايو عام 2020 تحديداً، في عز أزمة كورونا، عندما كان معدل ارتفاع الأسعار في ذلك الشهر 0.1%، أي قرابة الصفر بالمئة فعلياً، ثم بدأ ضخ النقد بكثافة جنونية، واتخذ البنك المركزي الأميركي إجراءات نووية في الميدان النقدي، مثل إلغاء الاحتياطي الإلزامي للبنوك، أي أن النسبة القانونية التي يفترض أن يحتفظ بها البنك من إيداعاته أصبحت صفراً (ثمة احتياطات أخرى تم فرضها من قبلُ لدرء خطر الإفلاس المفاجئ، بعد الأزمة المالية الدولية عامي 2008-2009).
الزعم، إذاً، بأن رفع معدل الفائدة الأميركي المرجعي، بنسب متواضعة مثل ربع أو نصف واحد بالمئة، جاء لكبح جماح معدلات التضخم الأميركي، فيه بعض المبالغة. لأن معدل الفائدة الحقيقي، أي بالقوة الشرائية، يساوي معدل الفائدة الاسمي ناقص معدل التضخم، أي ناقص معدل تغير المؤشر السعري سنوياً، أي أن Real Interest = Nominal Interest – the inflation rate. فإذا كان معدل الفائدة الاسمي قريباً من الصفر، أو حتى واحداً أو اثنين أو ثلاثة بالمئة، وكان معدل التضخم 7 أو 8%، فإن ذلك يعني أن الفائدة الحقيقية بالسالب، أي أن القوة الشرائية للدولارات المودعة في البنك تتآكل. وهو ما يتطلب رفع معدل الفائدة الاسمي أكثر بكثير من 2.5 أو 3% مع نهاية عام 2022.
علاقة انخفاض معدل الفائدة الأميركي بالانتفاخ الاصطناعي لقيم الأصول المالية
ترك معدلات الفائدة الحقيقية تتهاوى إلى ما دون الصفر في الغرب الاقتصادي لم يحدث عبثاً، بل كان يهدف لدفع من يملك مالاً إلى إنفاقه أو استثماره. فإذا كان الاقتصاد الحقيقي في حالة انكماش، والقدرة الشرائية للمواطنين في حالة تراجع، فإن جدوى المشاريع الاقتصادية الجديدة في المجال الحقيقي، حتى عندما تكون الفائدة الحقيقية أدنى من الصفر، يظل مشكوكاً في أمرها، ما دام الاقتصاد المنتِج لم يقلع.
لذلك، توجهت فوائض المستثمرين، في جزءٍ كبيرٍ منها، نحو الاستثمارات المالية، أي نحو الأسهم والسندات والعقود الآجلة، أي نحو المضاربة المالية (القمار)، والاستثمار الربوي، وهو ما ضخّم الفقاعة المالية، أي قيمة الأصول المالية، بصورةٍ مصطنعة، حتى فيما كان الاقتصاد الحقيقي ينكمش، وقد شكل خفض سعر الفائدة المرجعي إلى ما يقارب الصفر سبباً رئيسياً لنشوء مثل تلك المشكلة-الحل خلال أزمة كوفيد.
لنلاحظ مثلاً أن مؤشر "داو-جونز" Dow Jones، الذي يمثل رقماً قياسياً لمتوسط سعر سهم أبرز 30 شركة يجري تداول أسهمها في البورصات الأميركية، ارتفع من قعر يبلغ نحو 19 دولاراً لمتوسط سعر السهم في 20 آذار/ مارس عام 2020، إلى قمة تزيد على 36 دولاراً بالمتوسط في 7 كانون الثاني/ يناير 2022، أي نحو 90%، قبل أن يعود للانخفاض مجدداً تفاعلاً مع إشاعات ثم قرارات رفع أسعار الفائدة الأميركية.
أما مؤشر S&P500، "ستاندرد أند بور 500"، وهو رقم قياسي أشمل للقيمة الرأسمالية لأكبر 500 شركة يجري تداول أسهمها في البورصات الأميركية، فقد ارتفع في الفترة ذاتها من 2.3 في 20 آذار/ مارس عام 2020 إلى نحو 4.8 قبيل عطلة عيد الميلاد في 23/12/2021، أي نحو 109%.
في كلتا الحالتين، حالة مؤشر "داو-جونز"، وحالة مؤشر "ستاندرد أند بور 500"، من المهم الإشارة إلى أن المسار العام لقيمة كلا المؤشرين كان تصاعدياً عموماً خلال الفترة موضع البحث، وأنه تحول إلى مسارٍ تنازليٍ عموماً، بعد تداول الأنباء عن قرار الاحتياطي الفيدرالي رفع معدلات الفائدة منذ بداية العام الجاري، ثم بعد رفعها ربع واحد بالمئة في آذار/ مارس، ثم نصف واحد بالمئة الأسبوع الفائت، باستثناء الأسابيع الأولى التي تلت العملية الروسية في أوكرانيا، والعقوبات على روسيا، والتي انعكست سلباً على الاقتصادات الأوروبية، وتالياً على أسعار أسهم الشركات الأوروبية، والتي انعكست، في المقابل، انتعاشاً في أسعار الأسهم الأميركية، كما ثبت بالأرقام في مادة سابقة (انظر "العقوبات على روسيا: هل أوروبا مستهدفة أميركياً أيضاً؟"، في الميادين نت، في 7/3/2022).
لماذا تنخفض أسعار الأسهم عندما يرتفع معدل الفائدة؟
لكنّ العلاقة العكسية بين رفع سعر الفائدة الأميركي ومؤشرات أسعار الأسهم، هي التي طغت في الأسابيع الأخيرة على ما عداها، ولأسبابٍ وجيهة، إذ أن معدل الفائدة الذي رفعه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي مؤخراً هو المعدل المرجعي للفائدة الذي ينعكس على معدلات الفائدة الأخرى، وثمة علاقة عكسية بين سعر الفائدة وبين أسعار الأسهم عموماً.
من حيث المبدأ، كلما ارتفعت أسعار الفائدة المصرفية، كلما باتت الاستثمارات الأخرى أقل جاذبية، ومنها الاستثمار في سوق الأسهم، ولذلك يقل الطلب عليها، وينخفض سعرها. وكلما ارتفعت أسعار الفائدة، كلما أصبح التوسع الاستثماري أصعب بالنسبة للشركات، وكلما أصبحت تكلفة الفرصة البديلة لإنفاق المستهلكين على سلع الشركات وخدماتها أعلى، وهذا وذاك يؤثران سلباً على توقعات عائدات الشركات المساهمة وأرباحها المستقبلية، وبالتالي يقلل من سعر أسهمها. باختصار، ارتفاع كلفة الفائدة يقلل من الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري في آنٍ واحد.
الجديد أن مثل هذه الآثار على سوق الأسهم راحت تحدث نتيجة ارتفاعات محدودة جداً في أسعار الفائدة. وكان خفض سعر الفائدة المرجعي إلى قرابة الصفر، في المقابل، من أهم عوامل انتعاش سوق الأسهم، إذ لم يهبط سعر الفائدة الأميركي المرجعي إلى قرابة الصفر من قبلُ، إلا مرة عقب الكساد العظيم عام 1929، ومرةً أخرى عقب تفشي كورونا عام 2020، وقد بلغ أقصاه في نهاية عام 1980 عند نحو 20%، قبل أكثر من أربعين عاماً، عندما ارتفع معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة.
ومن البديهي أن هناك عدة أسعار فائدة، لا سعر فائدة واحداً، فهناك سعر فائدة للإيداع، وآخر للإقراض، وسعر فائدة للزبائن المفضلين، الذين تعد قروضهم أقل عرضة للتعثر، وهناك سعر فائدة لشهادات الإيداع ولحسابات الادخار وأنواع أخرى كثيرة، ولكنها حزمة أو رزمة تتحرك معاً صعوداً وهبوطاً، على الرغم من الفوارق فيما بينها.
لكنّ رافعة أسعار الفائدة الأخرى كلها، في الولايات المتحدة وخارجها، هو سعر الفائدة الأميركي الذي يجري الحديث عنه في وسائل الإعلام، واسمه the federal funds rate، وهناك من يسميه سعر الفائدة "القياسي"، وأفضل أن اسميه "المرجعي"، لأن كل سعر فائدة آخر يعود ويبنى عليه، وهو السعر الذي يحدده البنك المركزي الأميركي للبنوك الأخرى عندما تقرض بعضها بعضاً لآجالٍ قصيرة جداً، لليلة واحدة مثلاً.
وهناك سعر فائدة آخر هو سعر الخصم Discount rate، وهو سعر الفائدة الذي يُقرض به البنك المركزي البنوك الأخرى، وهو مؤشرٌ مهم جداً بدوره؛ ويبقى المرجع، في الحالتين، هو سعر الفائدة الذي تتداوله المصارف فيما بينها.
وهناك أيضاً ما يسمى سعر الفائدة "الأولي" prime rate، وهو أدنى سعر فائدة يمكن أن يقدمه المصرف التجاري للمقترضين الموثوقين؛ وسعر الفائدة العقاري مثلاً، لشراء المنازل في الولايات المتحدة mortgage rate، راوح ما بين 5 و6%، حتى فيما كان سعر الفائدة المرجعي يقارب الصفر؛ وهناك سعر فائدة، أعلى بكثير، لبطاقات الائتمان Credit cards، إلخ...
إدارة الأزمة برفع سعر الفائدة الأميركي
المهم، لعل رفع سعر الفائدة المرجعي، وأسعار الفائدة الأخرى بمعيته، جاء لاحتواء الفقاعة الجوفاء الناشئة عن انتفاخ القيم المالية فوق أي منطق اقتصادي، أي لإدارة أزمة منظومة رأس المال المالي، وحمايتها من إفراطها في أمرها في لعبة القمار الكبرى، في وقتٍ تواجه فيه تحدياً كبيراً من منظومة الاقتصادات الصاعدة من خارج المنظومة. فقد تجاوزت سوق الأسهم منذ أمدٍ بعيدٍ دورها كمصدرٍ لجمع رؤوس الأموال الراغبة بالتوسع استثمارياً في الاقتصاد الحقيقي، لتصبح منفذاً للاستثمارات المالية فحسب، أي للرهان على صعود وهبوط القيم المالية، من دون أثرٍ يذكر على الاقتصاد الحقيقي، إن لم نذهب إلى ما يذهب إليه بعض الاقتصاديين من أن الاستثمار المالي بات يسحب السيولة بعيداً عن الاستثمار الحقيقي. ومن هنا، تنشأ الفقاعات المالية، التي يمكن أن تحدِث أثراً مدمراً على الاقتصاد الحقيقي، عندما تنشأ تخمة في الأسواق المالية لا بد من تنفيسها بطريقة أو بأخرى، ورفع سعر الفائدة قليلاً من الطرق الآمنة لتنفيسها.
لكنّ تسويق رفع أسعار الفائدة محلياً وعالمياً من قِبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كخطوة لكبح جماح التضخم، بزعم الحرص على مستوى معيشة المستهلك، هو خطاب هوليوودي الطابع يُظهِر البنك المركزي الأميركي كأنه البطل المخلص، إنما الحقيقة هي أنه يدير دفة السفينة في المياه المتسارعة بما لا يؤدي إلى ارتطامها بصخرة أزمة مالية جديدة تفككها، فهل ينجح؟ وهل تكفي سلسلة رفع معدل الفائدة المرجعي إلى 2.5-3% مع نهاية العام الجاري؟ هذا هو السؤال، ولكنه ليس السؤال الأهم في الحقيقة، لأن أظرف ما في هذه الخطوات طبعاً هي أنها ترفع من أسعار أسهم الشركات المالية والمصرفية، مثل البنوك وشركات التأمين والمصارف العقارية وشركات السمسرة إلخ...، لأن رفع الفائدة يزيد من عائداتها وأرباحها المتوقعة ممن يمكن أن تقرضهم بفائدة أعلى الآن. أهلاً وسهلاً بكم في عصر رأس المال المالي، فقد صمم لعبة يربح فيها على الحدين، من المقامرة إذا صعد الاقتصاد، ومن الربا إذا هبط.
رفع سعر الفائدة والسندات الحكومية الأميركية: الأثر على الصين
القصة لا تنتهي هنا. فهناك جانب آخر من جوانب سوق الأوراق المالية، وهو السندات الحكومية، إذ إن الطريقة التي يتحكم عبرها الاحتياطي الفيدرالي في سعر الفائدة تتم عبر ما يسمى "عمليات السوق المفتوحة" open market operations. عندما يقوم البنك المركزي ببيع السندات الحكومية بأنواعها في سوق الأوراق المالية، فإنه يسحب السيولة من أيدي المستثمرين الذين يشتري تلك السندات منهم، فيقل عرض النقد في التداول، ويرتفع سعر الفائدة، بموجب قانون العرض والطلب. وعندما يقوم البنك المركزي بشراء السندات الحكومية من سوق الأوراق المالية، فإنه يضخ السيولة النقدية في السوق، ويزيد عرض النقد في التداول، وينخفض سعر الفائدة بموجب قانون العرض والطلب في سوق النقد.
هذا ملخص ما يتم تدريسه في كتب مبادئ الاقتصاد الكلي حول كيفية تحكم البنك المركزي في سعر الفائدة. إذا أخذنا هذه العملية بتفصيلٍ أكبر قليلاً فسنجد أنها تتم بالشكل التالي: لنفرض أن سنداً حكومياً أميركياً يمثل قرضاً للحكومة الأميركية بقيمة 10 آلاف دولار مستردة بعد عشر سنوات، وهي قيمة السند المسجلة فيه. ولنفرض أن السند مسجلٌ فيه أيضاً أنه يدفع فائدة سنوية نسبتها 10% من قيمة السند، أي من العشرة آلاف دولار، أي أن دفعة الفائدة السنوية هي 1000 دولار.
لنفرض الآن أن البنك المركزي يريد أن يضخ سيولة في السوق، فهو يقوم حينئذٍ بشراء السندات الحكومية في السوق المفتوحة. الطلب على السندات من قِبل البنك المركزي (ومن قِبل المضاربين الذين يراقبون سلوكه)، يؤدي إلى ارتفاع سعر تلك السندات في السوق، أي أن السند ذا القيمة الاسمية البالغة عشرة آلاف دولار تصبح قيمته في السوق أكثر من 10 آلاف دولار، فقد تصبح 11 أو 12 أو 15 ألفاً ربما. لكن دفعة الفائدة البالغة 1000 دولار في السنة لن تتغير، وبالتالي فإن معدل الفائدة الحقيقي سيكون 1000 دولار على القيمة الجديدة، على 15 ألفاً مثلاً، لتصبح الفائدة الحقيقية على السند 6.6%، لا %10.
لكنّ ما يحدث اليوم هو العكس تماماً. فالبنك المركزي الأميركي يبيع سندات حكومية في السوق المفتوحة ليسحب السيولة من السوق. وهذا يؤدي إلى انخفاض سعر السندات الحكومية بحكم زيادة عرضها. السند الذي تبلغ قيمته الاسمية 10 آلاف دولار مثلاً قد تصبح قيمته 9، 8، أو 5 آلاف دولار ربما. لكن قيمة دفعة الفائدة ما تزال ألف دولار في السنة. والآن نجد أن ألف دولار على خمسة آلاف تعطينا معدل فائدة يبلغ 20%.
كذلك تصدرُ السندات الحكومية الجديدة، عبر وزارة الخزينة الأميركية، على هدي معدل الفائدة الجديد، بناءً على ما سقناه أعلاه عن ترابط حزمة معدلات الفائدة. ومن المؤكد أن السندات الجديدة ستكون أكثر جاذبيةً من القديمة، لأنها تعطي فائدة أعلى، وهو ما يقلل من سعر السندات القديمة أكثر.
لكنْ، من هو أكبر مالك للسندات وأذونات الخزينة الأميركية خارج الولايات المتحدة الأميركية؟
بحسب موقع Statista في 1 نيسان/ أبريل عام 2022، بلغت قيمة أذونات الخزينة والسندات الأميركية التي يملكها غير أميركيين 7.55 ترليون دولار. بلغت حصة اليابان منها 1.3 ترليون دولار، وبلغت حصة الصين منها 1.05 ترليون دولار، أي أنها تشكل حوالى ثلث احتياطي العملة الصعبة عند الصين.
رفع سعر الفائدة يقلل من قيمة السندات وأذونات الخزينة الأميركية، أليس كذلك؟ ومن المؤكد أن الصين تراقب بانتباه شديد، لأن روسيا سبق أن تخلصت تقريباً مما تملكه من سندات وأذونات خزينة أميركية، ولم يتبقَ منها لديها إلا ما قيمته بضعة مليارات من الدولارات، وهذه تعتبر "فراطة" أو "فكة" في موازين الدول العظمى.
أما الصين، فإن ما تملكه منها يمثل ثلث احتياطاتها من العملة الصعبة تقريباً، وها هو الآن يتقلص، كما تتقلص معه قيمة ما تملكه من يوروهات وين ياباني وجنيه استرليني وفرنك سويسري، بحكم انخفاض قيمة تلك العملات إزاء الدولار.
إذا تابعت الولايات المتحدة رفع سعر الفائدة الأميركية جدياً، فإنها قد تشطب جزءاً غير يسير من احتياطات الصين من العملة الصعبة من دون الحاجة إلى تجميدها أو مصادرتها، كما فعلت مع روسيا وغيرها، إلا إذا فتحت معركة تايوان عسكرياً طبعاً. وهكذا قد يتحقق هدف استراتيجي غربي كبير.
السؤال البديهي هنا: لماذا لم تتخلص الصين من سندات الديون الأميركية أسوةً بروسيا؟ والجواب البديهي هو أنها لم تكن تستطيع أن تلقي بها بكميات كبيرة في السوق المفتوحة لكي لا ينخفض سعرها أيضاً. ولذلك، كانت تحاول التخلص منها بالتدريج، ومن دون إثارة ريبة الأميركيين. لقد كان ما تملكه من أوراق الديون الأميركية أكثر من 1.2 ترليون دولار في صيف عام 2017 مثلاً، بحسب إحصاءات وزارة الخزينة الأميركية.
السؤال البديهي الآخر هنا: ألن تتضرر اليابان وبعض الدول الغربية أكثر من هذه العملية؟ والجواب هو: هذا لا يهم الإدارة الأميركية كثيراً، والأسوأ، أنه لا يهم حكام تلك الدول كثيراً،كما يبدو!