مشروع الهيمنة الخارجية على السودان... تاريخ طويل من التدخّلات الغربيّة
كانت تجربة الانتقال الثالثة التي أعقبت إطاحة نظام عمر البشير تجربة مفارقة لتجربتي الانتقال السابقتين لها، ومفارقة لقواعد الانتقال الرشيدة التي أرسيت خلالهما.
ظلّ السودان، ومنذ استقلاله في الأول من كانون الثاني/يناير1956، يواجه تحديات خارجية وداخلية كبيرة. أثّرت هذه التحديات في مسيرة البناء الوطني الممتدة منذ فجر الاستقلال وحتى الآن، بيد أنّ وتيرتها تمضي في مسارات متصاعدة، وتتخذ أشكالاً وأنماطاً بالغة التأثير، تكاملت فيها التحديات الخارجية مع نظيرتها الداخلية، وألقت بظلالها على ماضي السودان وحاضره، مثلما ستلقي بظلالها كذلك على مستقبله.
لم تكن التحديات التي عرفها السودان بعد نيله الاستقلال أمراً طارئاً على الحقبة الوطنية، فقد حوت كتب التاريخ سجلاً حافلاً بالحوادث التي تُحدِّث عن مدافعات كبيرة وكثيرة صُوّب بعضها إلى الداخل لمواجهة تحديات محلية، وصُوّب بعضها إلى الخارج لمواجهة تحديات خارجية. وليس بعيداً من ذلك، ظل السودان يواجه تحديات عظيمة بقيت وتيرتها في تصاعد منذ التغيير الذي أطاح نظام المشير عمر البشير في 11 نيسان/أبريل 2019.
في سياق تلك التحدّيات، جاءت الحرب التي نشبت في الخرطوم في 15 نيسان/أبريل 2023، والتي لم تكن حدثاً مفاجئاً، إنما كانت خطة بديلة لخطة رئيسة بدأ الإعداد لها مع بداية الفترة الانتقالية، وكُتِبت عنها المقالات الاستشرافية وحذرت منها ومن أخطارها، كما تحدّث عنها أصحابها عشية اندلاعها، حين خيّروا الشعب بين هيمنتهم على السودان بوسائل سياسية ودستورية أعدّوها منفردين أو عبر الحرب بكل ما تحمل من أضرار ومخاطر وشرور.
الطور الأول لمشروع الهيمنة الخارجية على السودان
لم تكن الثورات والانتفاضات الشعبية حدثاً جديداً في السودان، فقد ثار السودانيون ضد نظام الفريق إبراهيم عبود في تشرين الأول/أكتوبر 1964، وثاروا ضد نظام الرئيس جعفر نميري في نيسان/أبريل 1985، وأرسوا خلال تلك التجارب قواعد راشدة تمكّن من تحقيق انتقال ديمقراطي سلس وآمن يقود البلاد إلى عملية انتخابية تعيد السلطة إلى الشعب بوصفه مالكاً لها، وبكونه صاحب الحق في اختيار ما يناسبه من برامج حكم وحكّام. ظلّت المحافظة على السيادة الوطنية وكفّ تدخّل الخارج في الشأن الداخلي وضمان وطنية التوجّه من أولى وأهم تلك القواعد التي أرسيت في تجربة تشرين الأول/أكتوبر 1964 وتجربة نيسان/أبريل 1985.
وكان ثاني تلك القواعد المحافظة على هوية السودان، وثالثها عدم إطالة فترات الانتقال وإعادة الأمر إلى الشعب عبر انتخابات خلال عام واحد فقط يبدأ من حدوث التغيير، ورابعها التوافق على كفاءات وطنية مستقلة لإدارة الفترة الانتقالية لتنزيه مرحلة الانتقال من التحيّزات الحزبية والأيديولوجية، ولتتفرّغ الأحزاب للانتخابات.
كانت تجربة الانتقال الثالثة التي أعقبت إطاحة نظام المشير عمر البشير تجربة مفارقة لتجربتي الانتقال السابقتين لها، ومفارقة لقواعد الانتقال الرشيدة التي أرسيت خلالهما، إذ شهدت هذه التجربة أعلى درجات انتهاك السيادة الوطنية، وشُرّعت خلالها الأبواب أمام التدخلات الخارجية حتى أمسك الخارج بالقرار السوداني، وهُدّدت فيها الهوية والمصالح الوطنية، وطالت فيها مرحلة الانتقال.
كان الخارج حاضراً قبل اكتمال التغيير في 11 نيسان/أبريل، وتمثّل حضوره في احتضان فريق تشكّل من جماعات سياسية سودانية سخّر لها فضائيات عربية، وأسس لها منصات إعلامية رقمية في عواصم ومدن في آسيا العربية وفي أوروبا وأميركا وغيرها من القارات. وقد استطاع من خلال هذه الفضائيات والمنصات الرقمية صناعة رأي عامّ مناهض للثوابت والهوية والقيم الوطنية التي ميّزت السودان والسودانيين عبر التاريخ، وأشاع أخطر خطاب للكراهية بين مكوّنات المجتمع السوداني.
ظلّ الدور الخارجي على كل صعيد، وتجاوز بسلوكه كلّ عُرف دبلوماسيّ وتقليد. وقد كان حضور السفارات في ميدان الاعتصام أمام القيادة العامة للجيش مسرحاً تجسّدت فيه أعلى درجات الاختراق الخارجي، وبكل السفور، وأصبح هذا الميدان منصة للخطاب والتحريض الغربي، وظلت منابر الجماعات السياسية المرتبطة بالخارج داخل هذا الميدان تمثّل صدى للخطاب الغربي بكلّ ما يحمله من مضامين سالبة تسهم في هدم الثوابت والقيم الوطنية، ويمتد تأثيرها السالب إلى تمزيق النسيج والتماسك الوطني، حتى باتت القابلية للاستعمار ثقافة تسري كوباء في بعض أوساط الشباب والنخب.
وقد بلغ التدخّل الخارجي مرحلة فرض فيها على السودان وشعبه وثيقتين سياسية ودستورية، جعلتا فترة الانتقال حكراً على جماعة تواليه، من مدنيين وعسكر، وتتبنّى خطابه ومشروعه النيوليبرالي بأبعاده القيمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، علماً أن الوثيقة الدستورية هي دستور الفترة الانتقالية. وقد حذفت منه اللغة العربية كلغة رسمية للدولة، وحذف منه تعريف السودان بكونه دولة عربية أفريقية.
شهدت هذه الفترة التي شكّل فيها الخارج حكومة تحالف الحرية والتغيير برئاسة عبد الله حمدوك استجابة كاملة لمطالب الخارج، فعدّلت القوانين التي كانت تسهم في صون هوية المجتمع وقيمه، فطالت التعديلات القانون الجنائي وقانون الأحوال الشخصية وغيرهما من القوانين، في مسعى لاستبدال المنظومة القيمية والثقافية للسودان بمنظومة ترتبط بالمشروع النيوليبرالي الذي تولّت هذه الحكومة تنفيذه، ففتحت التعديلات التي أدخلت إلى القوانين الأبواب أمام تفكيك الأسرة والمجتمع والقضاء عليهما، وتوطين المثليّة، وإشاعة واستزراع الثقافة الغربية.
بعثة الأمم المتحدة إلى السودان... بعثة الوصايا والانتداب
لم يتوقّف التدخّل الخارجي عند ما ورد في أعلاه، لكنه ظل حاضراً يمسك بتلابيب السودان وقراره الوطني بشكل كبير ومخيف. وفي خطوة تمثّل أبلغ درجات الخطر على السودان في حاضره ومستقبله، قال عرفان صديق، السفير البريطاني في الخرطوم، إنه أعدّ رسالة وقّعها رئيس وزراء الفترة الانتقالية عبد الله حمدوك، موجّهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، يطلب فيها تشكيل بعثة أممية تعيد تشكيل حاضر السودان، وتصنع مستقبله على نحو جديد على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي والدستوري، وتفكّك مؤسسات الدولة وتعيد بناءها على أسس جديدة بعيداً من الموروث والثوابت الوطنية والقيمية والحضارية للسودان.
قام رئيس الوزراء بإرسال هذه الرسالة سراً إلى الأمين العام للأمم المتحدة من دون علم مجلس السيادة الذي يشكّل العسكريون نحو نصف عدد أعضائه، واستجاب مجلس الأمن لطلب رئيس الوزراء، وأنشأ البعثة، وعيّن الصهيوني الألماني فولكر بيرتس رئيساً لها، وهو الذي رافق حقبة هدم الدولة العراقية حين كان أحد مساعدي الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر، كما واكب مشروع تدمير الدولة السورية في النصف الأول من سنوات الأزمة فيها ضمن الفريق الأممي هناك.
تضمّنت رسالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى الأمين العام (الرسالة التي أعدّها السفير البريطاني) النطاق الجغرافي لعمل البعثة وحدّده بكل جغرافيا السودان، وحدّد نطاقها الزمني، فجعل أمدها يمتد حتى عام 2030، كما حدّدت الرسالة طبيعتها ومهامها، وفق نصها، على ما يلي:
- تأليف بعثة سياسية خاصة للسودان تضمّ عنصراً قوياً، وتشمل ولايتها الجغرافية كامل أراضي السودان، ويمتدّ نطاقها الزمني حتى يحقّق السودان أهداف التنمية المستدامة بحلول 2030، على أن تكون ذات نهج مبتكر ومنسّق، وأن يتسم بالمرونة والسلاسة، وينبغي استخدام عناصر أساسية واتباع نهج نموذجي، وأن يوسّع فريق هذه البعثة عملياته من حيث الحجم والنطاق ليكون على مستوى الغرض المنشود، وأن يكون وجود الأمم المتحدة في السودان متكاملاً ومتوائماً من الناحية الاستراتيجية، وتحت قيادة واحدة، وأن يجري الأمين العام إصلاحات لركائز البعثة.
- أن يكون من مهمات البعثة: دعم تنفيذ الإعلان الدستوري (الدستور الانتقالي)، والرصد المنتظم لتنفيذ نقاطها المرجعية الرئيسية؛ الاضطلاع بعمليات الإصلاح القانوني والقضائي؛ وإصلاح قطاع الأمن (الجيش، والشرطة، والأمن)؛ وإصلاح الخدمة المدنية؛ ووضع الدستور الدائم؛ ودعم جهود السلام، ودعم إعادة المشرّدين داخلياً واللاجئين إلى أوطانهم وإعادة دمجهم.
استجاب الأمين العام للأمم المتحدة لطلب رئيس الوزراء الانتقالي، وبموجب ذلك أنشأ مجلس الأمن الدولي في 4 حزيران/يونيو 2020، بالقرار الرقم 2524، أنشأ بعثة سياسية أممية للسودان حملت الاسم المختصر "يونتامس"، وقد قابل تحالف الحرية والتغيير هذه الاستجابة بحفاوة بالغة، لأن هذه البعثة في نظره ستحقّق أهدافاً كبيرة، من بينها تقليم أظفار المؤسسة العسكرية، وصناعة معادلة جديدة لمصلحة رئيس الحكومة وحاضنته السياسية، برغم المخاطر الكبيرة التي ستترتّب على وجود هذه البعثة وأهدافها ودورها من مخاطر كبيرة تستهدف سيادة البلد واستقلاله.
اختار الأمين العام للأمم المتحدة الألماني فولكر بيرتس الذي عمل مع بول بريمر في العراق إبان الاحتلال الأميركي له، ثم عمل مستشاراً لمبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة لسوريا خلال الحقبة 2015-2018، كما عمل أستاذاً في جامعة هومبولت في برلين، وأستاذاً مساعداً في الجامعة الأميركية في بيروت (1991-1993)، وترّأس مجموعة أبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا حتى نيسان/أبريل 2005، وعمل مديراً للمعهد الألماني للسياسة الدولية والأمن، وله كتاب بعنوان "نهاية الشرق الأوسط الذي نعرفه".
ولعل في السيرة الذاتية لرئيس البعثة الأممية بخبراته في العراق وسوريا وخبراته الأخرى عنواناً لطبيعة المهمة التي اختير لها في مهمته الجديدة في السودان. باشر فولكر بيرتس عمله في السودان، وصادر القرار الوطني بشكل كامل تقريباً، وأصبح حاكماً عاماً للسودان يأمر فيُطاع. وقد تسبّب بذلك في نشوب الحرب التي يشهدها السودان حالياً.
يتضح من طبيعة البعثة التي جاء تفصيلها في رسالة رئيس الوزراء أنّها بعثة سياسية وشاملة من حيث التكوين، وأنّ لها قيادة واحدة تجتمع تحت إمرتها كلّ المؤسسات الأممية، وأن نطاق ولايتها يشمل كل السودان، وأن أجلها الزمني يمتد لعشر سنوات، هي عدد سنوات المرحلة الانتقالية المقترحة من تحالف الحرية والتغيير الذي كان حاكماً في السنوات من 2019 إلى 2021، وأن الرسالة منحت الأمين العام للأمم المتحدة تفويضاً لتطوير البعثة تحت مسمّى الإصلاح بما يجعلها مفتوحة الأهداف والوسائل والآليات.
كما أن البند الأول في مهمات هذه البعثة الوارد تحت صيغة دعم تنفيذ الإعلان الدستوري وضع البعثة في مرتبة أعلى من كل مؤسسات المرحلة الانتقالية، وخصوصاً مجلسي السيادة والوزراء، إذ منح هذا البند الحقّ للبعثة في مراقبة أداء المجلسين، وممارسة عمليات المتابعة والتقييم لأعمالهما، وتصويب تلك الأعمال من موقع الوصاية المسنودة بقرار أممي.
بالنظر إلى مهمات البعثة، وفق رسالة عبد الله حمدوك التي اعتمدها القرار الأممي المنشأ للبعثة، فإنّ تلك المهمات تُمكّن البعثة، وبصورة كاملة، من ممارسة الوصاية والانتداب على السودان، وهو ما ثبت إلى حد كبير خلال مدة عملها، ومن خلال ممارساتها العملية.
كما أن مهمات البعثة تشمل مباشرةً إعادة هندسة أوضاع الدولة تحت مظلة إصلاح مؤسساتها التي وردت ضمن المهمات، وهو الذي تمت ترجمته عملياً من خلال تفكيك بعض مؤسسات الدولة، وإضعاف المؤسسات التي لم يشملها التفكيك، ومن خلال عمليات الإحلال والإبدال التي شملت كوادرها، إذ شهدت حقبة حكومة عبد الله حمدوك الأولى والثانية فصل وتشريد آلاف الكفاءات الوطنية التي تمرّست في العمل، وتشبّعت بقيَمه وتقاليده، واكتسبت وراكمت عبر عقود من الزمن خبرات كبيرة، تم استبدالها بأصحاب الولاء السياسي وببعض الذين جاء بهم التغيير من خارج الحدود.
لم تكن مهمات البعثة التي جاءت في رسالة رئيس الوزراء وتضمّنها قرار مجلس الأمن الذي أنشأها، مصوّبة فقط نحو إعادة تكوين مؤسسات الدولة على نحو جديد، يخدم هدف صناعة حاضر جديد للدولة السودانية تحت قيادة البعثة الأممية من خلال عمليات التفكيك والتركيب التي استهدفت المؤسسات، إنما مكّنت هذه المهمات البعثة أيضاً من صناعة مستقبل السودان عبر وضع الدستور الدائم للبلاد وسن قوانين جديدة بعيداً من الإرادة الوطنية، وبمنأى عن تطلّعات المواطنين ووجدانهم وهويتهم التاريخية والحضارية.
علماً أن للسودان خبرات وتجارب دستورية غنية جداً استفاد منها الإقليم بأثره، إذ كتب بعض الخبراء السودانيين كلّ الدساتير التي حكمت بلادهم منذ عام 1953 وحتى دستور 2005 الذي تمّ تعليق العمل به في 11 نيسان/أبريل 2019، وأن بعض خبرائه كتبوا دساتير دول عربية وآسيوية، وأن القانونيّين من أبنائه أسّسوا عدداً من المنظومات العدلية، وصاغوا قوانين دول كثيرة، ولا سيما في دول الخليج، وأن أساتذة القانون السودانيين درّسوا في جامعات كثيرة في محيط السودان العربي والأفريقي، وتخرّجت على أيديهم أعداد كبيرة من دارسي القانون.
إنّ التدخّل الخارجي في الشأن السوداني خلال هذه المرحلة الانتقالية أفضى إلى تحويل طبيعة الصراع السياسي في السودان إلى صراع بين مشروع الاستقلال الوطني ومشروع الهيمنة الغربية على البلاد، التي أعادها إلى مرحلة ما قبل الأول من كانون الثاني/يناير 1956؛ تاريخ استقلال السودان، الأمر الذي أدركه المجتمع وبدأ بحشد طاقاته لمقابلة هذا التحدي الذي استجد.
إنّ "الاستعمار"، كما هو عهده وتاريخه، ليس حريصاً على الديمقراطية في "مستعمراته". وقد طفق عبر تاريخه الطويل ينصّب الحكّام ويفرض الأنظمة، متجاوزاً حق الشعوب في اختيار حكّامها وفي بناء نظم الحكم، ضارباً بعرض الحائط حقوقها المشروعة في الحكم الديمقراطي الذي يتأسس على الانتخاب والاختيار الحر الذي يؤسس في الآن عينه لتداول سلمي للسلطة، لذلك تعمّدت البعثة الأممية ومن ورائها الدول الغربية إطالة أمد الفترة الانتقالية والحؤول دون إجراء انتخابات تعيد السلطة إلى الشعب وتحقّق التحوّل الديمقراطي.
وقد عرف "الاستعمار" عبر تاريخه بفرض قيادات مصنوعة على شعوبها خلال الحقبة الكولونيالية. وبرغم النتائج السالبة لهذا السلوك، فإنه لم يدرك بعد خطر ذلك الصنيع، ويريد أن يستمر في استدامة ذلك النموذج في غير قُطر، وقد عمل ولا يزال منذ بداية المرحلة الانتقالية وحتى الآن على فرض قيادة وتنصيب حكّام يخدمون مصالحه، ويخاطبون أجندته، ويخطبون ودّه، ويستوي في ذلك عنده المدني والعسكري حين يتوافر الولاء، وهو ما أطال أمد المرحلة الانتقالية، وأضعف الدولة، وقسّم المجتمع، وجعل الاستحقاق الانتخابي استحقاقاً صعب المنال.