محرقة غزة.. ومحرقة "الهولوكوست"
المدقق في تاريخ ما يسمى "المحرقة اليهودية" أو الهولوكوست، ومقارنتها بتلك المحرقة الدائرة أمام أعيننا بالصوت والصورة وبتلك الوحشية غير المسبوقة، سوف يكتشف مقداراً كبيراً من التباين والتفاوت، سواء من حيث الدلائل والوقائع، أو من حيث الدوافع والأسباب.
منذ الهجوم المباغت والذكي لقوات كتائب عز الدين القسام، في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وما أعقبها من حرب ضروس وصلت إلى حد حرب "إبادة"، انطلقت السردية الإسرائيلية - المدعومة أميركياً وأوروبياً - من عدة مغالطات وأكاذيب بهدف التلاعب بالرأي العام العالمي، وخصوصا الغربي، وخلق مبرر "أخلاقي" لكل السلوك الانتقامي الإجرامي الذي قررت المؤسستان (السياسية والعسكرية) في هذا الكيان القيام به في حرب، أقل ما توصف به أنها حرب إبادة، بكل ما تحمله الكلمة والمصطلح من معنى.
وكانت واحداً من تلك الدوافع - التي استخدمها رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكل المسؤولين الإسرائيليين والخطاب الإعلامي الرسمي - وصف ما جرى يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر من جانب مقاتلي حماس، والفلسطينيين المشاركين لهم، بأنها تكاد تماثل "المحرقة اليهودية" أو الهولوكوست، التي تعرضت لها الجالية اليهودية في ألمانيا النازية وبعض دول أوروبا الوسطى والشرقية.
بصرف النظر عن مقدار الأكاذيب والمغالطات التي صاحبت الخطاب الإسرائيلي ومؤيديه الأميركيين والأوروبيين، أصحاب التاريخ الاستعماري الأسود والحافل بالجرائم والمذابح ضد الشعوب كافة، بدءاً بالشعوب الأصلية، مروراً بتجارة العبيد، وصولاً إلى الشعوب المستعمرة في سائر ربوع الأرض من آسيا إلى أفريقيا وشعوب أميركا اللاتينية، انتهاءً بتاريخ التمييز العنصري الفاضح، والذي لم تتخلص منه كل دولها حتى يومنا هذا.
والحقيقة أن المدقق في تاريخ ما يسمى "المحرقة اليهودية" أو الهولوكوست، ومقارنتها بتلك المحرقة الدائرة أمام أعيننا بالصوت والصورة وبتلك الوحشية غير المسبوقة، سوف يكتشف مقداراً كبيراً من التباين والتفاوت، سواء من حيث الدلائل والوقائع، أو من حيث الدوافع والأسباب، أو من حيث الضحايا والأعداد.
أولها: من حيث معايشة الحدث، لقد عرف العالم ما جرى من جرائم - من المؤسستين العسكرية والسياسية النازيتين ضد اليهود والغجر والمنتسبين إلى التيارات والأحزاب الشيوعية في ألمانيا والدول التي خضعت للاحتلال العسكري النازي، سواء في معسكرات الاعتقال (أوشفيتز في بولندا، أو غيره من معسكرات الاعتقال والتعذيب) أو في غيرها - عرفها من خلال قوات الاتحاد السوفياتي وقوات التحالف الأنغلو – أميركي التي انتصرت في الحرب، وتمكنت من الوصول إلى هذه المعسكرات والمعتقلات، وما كشفته من وجود لهذه المعسكرات والمقابر الجماعية في بعض تلك المناطق.
ثم إن رواية المحرقة والهولوكوست انطلقت من أفواه القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية وأبواقها ووسائل إعلامها ودعايتها، بكل وحشيتها وقسوتها، وكانت مصادر الصور الأولى هي قوات التحالف، وخصوصاً القوات الأميركية والسوفياتية ذات التعاطف المعروف تجاه اليهود.
وعلى العكس، فإن المحرقة في غزة هي بنت الصوت والصورة الراهنين والحيين والمستمرين عبر الهواء مباشرة يومياً، وفي كل ساعة، بل في كل دقيقة من دون مبالغة أو تهويل، وعلى مدار الفترة الممتدة من يوم الثامن من تشرين الأول/أكتوبر حتى يومنا هذا، والمقدر لها أن تستمر فترة أخرى قد تطول إلى حين يفيق الضمير الغربي المؤيد لهذه المذبحة ويضغط على الكيان الإسرائيلي لوقف المذبحة وحرب الإبادة الراهنة، أو تتعرض "إسرائيل" لهزيمة ساحقة وسط ركام مباني غزة المدمرة ووسط شعبها المشرد والمظلوم.
لذا، ليس من المتصور يوماً أن يتجاهل أحد في العالم صور تلك المذابح للمدنيين، وخصوصاً الأطفال والنساء، وقصف المنازل على ساكنيها، أو يتناسى تصريحات كبار المسؤولين في هذا الكيان، بدءاً برئيس هذا الكيان ورئيس الوزراء نزولاً إلى وزير الحرب (غالانت) الذى وصف الفلسطينيين في غزة بأنهم حيوانات بشرية، وأصدر أوامره بفرض حصار غير مسبوق على سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليونين وأربعمئة ألف إنسان، وحرمانهم من الغذاء والماء والدواء والوقود وكل شيء، وأوغل في وحشيته بأن أصدر أوامره لطياريه بقصف المدارس والمستشفيات ومراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، وقصف سيارات الإسعاف، فلم يكفه هدم المساكن على رؤوس ساكنيها من المدنيين الآمنين من النساء والأطفال والشيوخ.
الثاني: المحرقة اليهودية "الهولوكوست" تكاد تنحصر في الاعتقال والتعذيب لليهود – وغير اليهود – من الرجال والشبان والنساء، من دون أن تصل إلى حد القتل والتعذيب للأطفال من كل الأعمار، باستثناء السيدات اللاتى ولدن أطفالا في المعتقلات النازية، فإن الصور والحفريات التي اكتشفت أو التقطت من ضباط الاستخبارات العسكرية الأميركية والسوفياتية للمعسكرات والمقابر الجماعية لم تظهر وجود أطفال بين المعتقلين اليهود وغير اليهود، بينما في محرقة غزة ومحرقة الضفة الغربية وفي سائر ربوع فلسطين كانت الجثث والأشلاء للأطفال - بمن فيهم الرضّع - تُعرض عبر شاشات القنوات الفضائية، وتتمدد في الشوارع وبين ركام البيوت المدمرة على رؤوس ساكنيها.
الثالث: في محرقة اليهود وغير اليهود (الهولوكست) تعرضت أرقام الضحايا للتلاعب من أكثر من مصدر، بعضها من مصادر الحلفاء المنتصرين في الحرب، من أجل اكتساب مزيد من المشروعية الأخلاقية لحربهم ضد النازية، ومن أجل التغطية على حجم الانتهاكات والفظائع التي ارتكبتها قوات التحالف في كثير من المدن الألمانية وغير الألمانية في أثناء اجتياح أوروبا لتحريرها من القوات النازية وحلفائها الفاشيين واحتلال ألمانيا وإيطاليا.
أما الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي الوليد فبالغا كثيرا في تلك الأرقام لتحقيق عدة أهداف في وقت واحد، منها ابتزاز أوروبا عموماً، وألمانيا خصوصاً، سياسياً وأخلاقياً، واستثمار ذلك في المدى الطويل، وهو ما جنت ثماره فعلاً حتى يومنا هذا، ومنها كذلك جني الأرباح المالية من خلال التعويضات الهائلة التي حصلت عليها من ألمانيا وسويسرا وكثير من الدول الأوروبية خلال أعوام طويلة، فتراوحت أرقام الضحايا من اليهود بين ثلاثة ملايين وخمسة ملايين ضحية.
أما القتلى منهم فلم يقدر عددهم بصورة دقيقة لأن من تعرّضوا للمعسكرات النازية ظلوا، في أغلبيتهم، أحياء حتى حررتهم قوات التحالف المنتصرة، بينما في محرقة غزة تعرض الجهات الصحية الفلسطينية والمنظمات الدولية، مثل الأونروا والصحة العالمية وأطباء بلا حدود، جثامين الضحايا على الملأ، وتسجل الضحايا أولاً بأول، والذين تجاوز عدد شهدائهم ومفقوديهم تحت الركام أكثر من ثلاثة عشر ألفاً (بما يعادل 0.6% من سكان قطاع غزة) وهو ما يعادل مليوني قتيل لشعب حجم سكانه 350 مليون نسمة، كالولايات المتحدة الأميركية، أو 600 ألف قتيل في حالة دولة عدد سكانها مئة مليون نسمة، كما هي حالة مصر.
الرابع: بخصوص محرقة الهولوكوست – على رغم صور غرف الغاز وأفران الغاز التي نشرتها المصادر الغربية بعد اكتشاف تلك المعسكرات، وخصوصا معسكر اعتقال "أوشفيتز" في بولندا - لم تتأكد أي من الدراسات العلمية الموثوق بها من استخدام تلك الغرف في إعدام نزلاء تلك المعسكرات من اليهود والغجر والشيوعيين والمعوّقين، وما تأكد (من بعضها) هو أنها كانت بمثابة أفران للتخلص من جثث الأموات الذين ماتوا في أثناء وجودهم في تلك المعسكرات الوحشية، بينما في محرقة غزة العالم يرى ويشاهد، لحظة بعد لحظة، ويوماً بعد يوم، محرقة الأطفال والنساء والرجال والشيوخ وأشلائهم، بسبب القصف الوحشي الإسرائيلي بقنابل وذخيرة محرَّمة دوليا (أقلها الفوسفور الأبيض) واليورانيوم المنضب والقذائف الحرارية، وأنواع أخرى لم تعرفها الحروب من قبل بشهادة الأطباء، بحيث تتأكّل جلود الضحايا من جراء هذه الحروق غير المسبوقة. أليست هذه محرقة أحياء بالصوت والصورة؟
الخامس: في محرقة الهولوكوست جرى اضطهاد اليهود وغير اليهود في تجارتهم وأعمالهم ووظائفهم، وتم تجميعهم في تلك المعسكرات الإجرامية، بينما في محرقة غزة أطلق عليهم حتى تاريخ كتابة هذه السطور 35 ألف طن من المتفجرات بما يعادل قوة تفجير قنبلتي هيروشيما وناكازاكي في اليابان، ولم ينقصها عن الإشعاع الذري الكثير، فلقد تكفل الفوسفور المحرم دوليا واليورانيوم المنضب وأنواع الذخيرة الملتهمة للجلد في تحقيق ما كانت تقوم به قنبلتا هيروشيما وناكازاكي الإجراميتان.
السادس: في معسكرات الهولوكوست النازية لم يصدر قرار بمنع الطعام والشراب والدواء عن المعتقلين فيه، على رغم قلة هذه المواد وصعوبة الحصول عليها، بينما في محرقة غزة صدرت قرارات من أعلى المستويات (سياسية وعسكرية) في الكيان الإسرائيلي بحظر الحصار وفرضه ومنع هذه المواد، التي من دونها يموت الإنسان، فما بالنا إذا كان هذا الإنسان طفلا، أو نساء يُرضعن أطفالهن، أو مسنين.
السابع: هل هي من المصادفة التاريخية أو المفارقة التاريخية، أن تكون المحرقة اليهودية وغير اليهودية (الهولوكوست) صناعة أوروبية وألمانية بالتحديد، وتكون المحرقة في غزة هي أيضا صناعة أميركية وأوروبية بأيدي من يدعون أنهم أحفاد ضحايا الهولوكوست الأوروبي.
إن ما يجري في غزة، بقدر ما هو جريمة العصر، فهو كاشف ودالّ على أن هذا الغرب، ذا التاريخ الاستعماري الطويل، ما زال قادرا على صناعة مآسٍ إنسانية لشعوب الجنوب والشرق. ولعل من أصدق وأدق التعبيرات، التي صدرت عن الإمام آية الله الخميني، وصفه بأن أميركا "هي الشيطان الأكبر"، ولن نخطئ كثيراً حينما نقول إن أوروبا الغربية و"إسرائيل" هما حفيدتا هذا الشيطان الأعظم.
الثامن: بقدر ما كانت الهولوكوست عملية تطهير، عرقياً وسياسياً، وإبادة لمجموعات بشرية – بما فيها المعوّقون عقلياً وذهنياً وجسدياً –، فإن محرقة غزة هي أيضاً عملية تطهير عرقي وإبادة إنسانية ممنهجة للسكان الفلسطينيين في هذه الرقعة من الأرض. وإذا أضفنا إليها عملية القتل والاعتقال، واسعَي النطاق، ضد سكان الضفة الغربية، فإن ما تقوم به "إسرائيل" أمام العالم على مرأى ومسمع من الجميع تنطبق عليه تماماً كل الخصائص الواردة في اتفاقية روما للمحكمة الجنائية الدولية عام 1998، بشأن الجرائم الأربع الموصوفة، وهي الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وأعمال العدوان، والإبادة الجماعية، وأركانها التفصيلية التي اعتمدتها جمعية الدول الأطراف في دورتها المنعقدة في نيويورك، في أيلول/سبتمبر 2002.
التاسع: لم تعرف محرقة الهولوكوست استهداف المستشفيات والمراكز الصحية والمدارس ومراكز الإيواء بالقصف الجوي الإجرامي والقصف المدفعي والقصف البحري، بينما شاهد العالم كله، بالصوت والصورة، سكان غزة ومستشفياتها ومدارس أطفالها وأماكن إيواء النازحين والمشردين تُقصف بلا رحمة أو شفقة في مذبحة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
العاشر: شهدت أوروبا بعد انتصار الحلفاء وهزيمة ألمانيا النازية محاكمات "نورومبرغ" العسكرية الشهيرة، التي بدأت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1945، وانتهت في أول تشرين الأول/ أكتوبر 1946، وجرت فيها محاكمة القتلة من قادة ألمانيا السياسيين والعسكريين، المسؤولين عن جرائم الحرب وفظائعها، بما في ذلك معسكرات الاعتقال النازية تلك، بينما في محرقة غزة شهد العالم أكبر وأبشع تواطؤ بين القتلة الإسرائيليين وقادة الولايات المتحدة وأوروبا الغربية، وفي طليعتهم ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكريم خان (البريطاني الجنسية الباكستاني الأصل)، المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، ووغيرهم.
نحن إزاء جريمة، وبقدر ما سقط فيها من عشرات الآلاف بين شهيد وجريح ومفقود، وهُدمت عشرات الآلاف من المساكن فوق رؤوس ساكنيها، فإنها أسقطت معها ورقة التوت الأخلاقية الأخيرة، والتي كانت تتخفى وراءها كل حكومات دول أوروبا والولايات المتحدة وكندا. ولم يعد بعدها من يصدق كل دعاواهم بشأن حقوق الإنسان، أو حرية الرأي والتعبير، وحرية الصحافة، وقدسية الحياة البشرية. لقد أسقطت غزة، إلى الأبد، الغرب الاستعماري تحت ركام ضحاياها.