متى تنتهي الحرب في أوكرانيا؟

هزيمة روسيا عسكرياً في أوكرانيا تكاد تكون من المستحيلات، فالهزيمة تعني مباشرة تفكك الدولة الروسية ذاتها، ومن هنا فإن البحث الصحيح يكون في مفهوم النصر لدى الروس وحلفائهم ومضمون الهزيمة.

  • متى تنتهي الحرب في أوكرانيا؟
    متى تنتهي الحرب في أوكرانيا؟

السؤال المعلق على ألسنة مئات الملايين من البشر، بدءاً من سواحل الصين وكوريا وأستراليا شرقاً، انتهاءً بسواحل الأميركيتين غرباً، ومن أصقاع القطب الجليدي شمالاً إلى أفريقيا والقطب الجنوبي؛ متى تنتهي الحرب الأطلسية – الروسية في المسرح الأوكراني؟ 

هذه الحرب التي بدأت نارها المشتعلة في 24 شباط/فبراير 2022 - وكانت نارها التمهيدية قد بدأت منذ شباط/فبراير 2014، حينما قادت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي انقلاباً دموياً تصدّرته مجموعات فاشية ونازية في أوكرانيا - لم تُخفِ للحظة واحدة طبيعتها العنصرية ومعاداتها لكل ما يمثله العرق الروسي واللغة الروسية.

الحقيقة أن معركة روسيا الآن لا تقتصر على روسيا وأوكرانيا وحدهما، بل لا نبالغ إذا قلنا إنها تهمّ العالم أجمع، وخصوصاً دول الجنوب التي تتعرض منذ عقود طويلة للقهر والنهب والغطرسة الأميركية والغربية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا الشركاء الاستعماريين الكبار للولايات المتحدة.. هكذا علينا أن نقرأ الحدث التاريخي الراهن.

على أي حال، يدور هذا السؤال ويشغل العقل والوجدان لدى كل إنسان، سواء هؤلاء الذين يطمحون للتخلص من الهيمنة الوحشية الأميركية والغربية وذراعها العسكرية (الناتو)، أو لدى هؤلاء الذين يناصرون ويؤيدون ويستفيدون من إبقاء هذه الهيمنة الاستعمارية القبيحة واستمرارها، خاصة بعد أن بدا أن هذه الحرب (المحدودة في المكان، والعالمية في النطاق والمشاركة) قد بدأت في التدحرج إلى نطاق خارج السيطرة، وإلى حافة الحرب النووية المدمرة.

والحقيقة أن هذا النوع من الحروب – كما في الحربين العالميتين الأولى والثانية – لا تصلح فيه نتيجة (نصف نصر ونصف هزيمة)، أو كما يقول البعض: "لا غالب ولا مغلوب"، انطلاقاً من تحليل عميق لطبيعة الأهداف لكل طرف، والنتائج الجيو سياسية والجيواستراتيجية المترتبة عليها، وتداعياتها العالمية على المستويات كافة: السياسية، والاقتصادية، ونمط العلاقات الدولية، وهيكل القانون الدولي الجديد، وحتى على المستويين الثقافي والفكري.

فلنتأمل في هذه المعطيات قليلاً:

أولاً: أهداف روسيا الاستراتيجية المعلنة وغير المعلنة للحرب في أوكرانيا 

أعلنت القيادة الروسية منذ اللحظة الأولى للعمل العسكري في 24 شباط/فبراير عام 2022 عدة أهداف لهذا العمل العسكري في أوكرانيا، ولكنها للحق لم تعلن كل أهداف الحرب، وهنا نستطيع تحديد الأهداف الروسية من هذا التدخل العسكري على النحو التالي:

1-            حماية وضمان سلامة شعب مقاطعتَي "دونيتسك" و"لوغانسك" اللتين أعلنتا انفصالهما عن أوكرانيا بعد الانقلاب الدموي في كييف عام 2014، وإلزام حكومة أوكرانيا باحترام هذا الاستقلال، والتسليم بضم روسيا لشبه جزيرة القرم الذي تم عام 2014. وتشكل هذه المناطق الثلاث (دونيتسك ولوغانسك وشبه جزيرة القرم) نحو خمس مساحة جمهورية أوكرانية البالغة 603 آلاف كيلو متر مربع، علاوة على ما تمثله من ثقل اقتصادي هائل.

2- ضرب الآلة العسكرية لأوكرانيا وتفكيكها، والتي تأتمر بأوامر القيادة النازية في هذا البلد، وتخضع لأهداف الولايات المتحدة وحلف "الناتو" وغاياتهما.

3- ضمان حياد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى حلف "الناتو"، أو تشكيل أي تهديد في الحاضر أو المستقبل لروسيا.

4- الهدف غير المعلن لروسيا - والذي كشفه خط سير العمليات الحربية طوال العام الماضي من الحرب - هو إجراء تغيير جيو سياسي على خريطة أوكرانيا، وقطع أي صلة لها ببحر أزوف والبحر الأسود، أي تصبح أوكرانيا دولة حبيسة؛ حتى تنتهي وإلى الأبد التحرشات الأطلسية بدولة روسيا من خلال هذين البحرين من ناحية، وضمان تواصل بحري بين دونتسك ولوغانسك من خلال تحرير ميناء ماريوبول الحيوي من ناحية أخرى، والاستيلاء في خطوة تالية على منطقة أوديسا ومينائها على البحر الأسود، ومن دون تحرير منطقة أوديسا ومينائها تصبح الأهداف الاستراتيجية الروسية للحرب في خطر حقيقي، ولا نقول هزيمة.

5- ضمان وتحرير شبه جزيرة القرم من الحصار المائي واللوجيستي المضروب حولها منذ عام 2014 بمعرفة القوات والسلطات الأوكرانية عبر تحرير مقاطعة خيرسون.

6- الوصول مع الغرب والولايات المتحدة إلى منظور مشترك تجاه الأمن الجماعي الدولي، سواء في أوروبا وروسيا معاً أو على المستوى العالمي، فلا معنى لتوافر الأمن لدول الحلف الأطلسي بينما يكون الأمن القومي الروسي مهدداً، فإما أن يكون هناك أمن مشترك للجميع، أو لا أمن لأوروبا وحلف "الناتو".

7- تنظر روسيا إلى هذه المعركة المركبة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً باعتبارها إحدى محطات إعادة التوازن في العلاقات الدولية التي اختلت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك الكتلة الاشتراكية (دول حلف وارسو ومجموعة الكوميكون)، وهذه المحطة هي امتداد لمعركة العراق وأفغانستان وإيران التي مرغت الفحل الأميركي في الوحل.

ثانياً: الأهداف الأطلسية والأميركية من الحرب في أوكرانيا 

على الجانب المقابل، فإن الولايات المتحدة ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبي المنتظمة في حلف "الناتو" قد تحددت أهدافها المعلنة وغير المعلنة في الآتي:

1- إلحاق الهزيمة بروسيا عسكرياً وتحطيمها اقتصادياً وطمس تاريخها ودورها الثقافي والإنساني.

2- الإبقاء على الوضع الراهن للنظام الدولي القائم على الهيمنة الأميركية والأوروبية الغربية.

3- إبعاد روسيا تماماً - بعد تحطيمها - عن الدب الصيني الصاعد بقوة على المسرح العالمي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.

4- توجيه رسالة ذات مضامين متعددة إلى الصين بشأن مخاطر أي عمل عسكري صيني لإعادة ضم جزيرة تايوان مع البر الصيني وتوحيدها.

5- الإبقاء على هيكل النظام الدولي الراهن بكل سماته والمهيمَن عليه من التحالف الغربي عموماً والولايات المتحدة خصوصاً.

صحيح أن حلفاء التحالف الأطلسي الآخرين (مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية) يشاركون حلف "الناتو" في بعض تلك الأهداف تجاه روسيا والصين، لكنهم قد يختلفون في بعضها الآخر.

على أي حال، فإن التناقض الصفري بين الطرفين ربما لا يسمح بإجراء مفاوضات تسوية على المدى القريب، والأرجح أن تستمر العمليات العسكرية والقتالية الميدانية لفترة قد تطول لأكثر من عام آخر، حتى يتسنى لكل طرف إجهاد الطرف أو الأطراف المعادية، وتحقيق الجزء الأكبر من أهدافه الاستراتيجية من الحرب، فهنا لن تصلح كثيراً لروسيا صيغة " نصف نصر ونصف هزيمة".

ومن هنا، تبرز عدة سيناريوهات لإنهاء الحرب تستدعي تأمل كل العناصر الفاعلة في حركة التاريخ الجارية أمام أعيننا في الوقت الراهن، ونشير هنا إلى السيناريوهات (الاحتمالات) الخمسة التالية:

السيناريو الأول: هزيمة روسيا عسكرياً وانسحابها من الأراضي التي حررتها من الجغرافيا الأوكرانية السابقة، وهذا يكاد يكون سيناريو مستبعداً تماماً، ففيه يكمن تدمير الاتحاد الروسي من الداخل، وتفكك الدولة المركزية، وإجراء تغييرات قوية بالعنف أو بالتآمر على القيادة السياسية الحالية للدولة الروسية.

السيناريو الثاني: هزيمة كاملة للتحالف الأطلسي ونجاح روسيا في تحقيق كامل أهدافها من الحرب، بدءاً من تغيير النظام النازي الحاكم في أوكرانيا، مروراً بتحرير الأقاليم الأربعة (دونتسك – لوغانسك – زباروجيا – خيرسون) وضمّها، ومدّ نطاق الاستحواذ الروسي إلى منطقة أوديسا الساحلية من أجل إغلاق ما يتبقى من الجغرافيا السياسية لدولة أوكرانيا عن البحر الأسود كما سبق وأغلقت عليها بحر أزوف، انتهاءً بكسر الجيش الأوكراني وإعلان حياد أوكرانيا في صراعات الشرق والغرب. وهذا أيضاً سيناريو مستبعد إلى حد كبير.

السيناريو الثالث: استمرار المعارك العسكرية في الميدان الأوكراني، وتحقيق بعض الانتصارات الروسية التكميلية والبطيئة حتى تنضج مبادرة سلام وتسوية من دولة أو مجموعة دول ذات وزن ثقيل في الساحة الدولية - والأرجح أن تكون الصين مدعومة بمساندة من الهند وربما دول البريكس - حتى يتحقق وقف أولي لإطلاق النار يستتبعه إجراء مفاوضات متعددة الأطراف ( روسية – أميركية – أوروبية – أوكرانية ) للبحث عن صيغة جديدة للأمن الجماعي في أوروبا، وربما لصوغ أطر جديدة للعلاقات الدولية تُبقي للولايات المتحدة قدراً من نفوذها على المسرح العالمي، مع مشاركة متعددة الأقطاب تشمل روسيا والصين مقابل تراجع روسيا عن بعض الأراضي التي حررتها من أراضي أوكرانيا، خاصة إذا ما كانت قد استولت على منطقة أوديسا لتترك لأوكرانيا مطلّاً على البحر الأسود.

السيناريو الرابع: والذي نطلق عليه "سيناريو الكابوس"، ويمثل خروج الصراع الراهن عن نطاق السيطرة الإقليمية والنوعية، سواء من حيث المساحة (تجاوز الأراضي الأوكرانية)، والنوعية (طبيعة الأسلحة المستخدمة على الجانبين)، وعمق العمليات والأهداف من الحرب، وهذا سيناريو أقرب إلى حافة الحرب النووية.

السيناريو الخامس: قد تؤدي إطالة أمد الحرب في أوكرانيا وتداعياتها المؤلمة والكارثية على اقتصاديات الدول الأوروبية عموماً والشعوب فيها، خصوصاً لدى الطبقات العاملة والمتوسطة، وتفاقم حدة هذه الأزمات (مثل التضخم وتعثر إمدادات الطاقة من المصادر البديلة، وارتفاع تكاليف منتجاتها على المشروعات أو على المستهلكين في منازلهم)، إلى تفجر الأوضاع السياسية الداخلية وتصدع التحالف الغربي، خصوصاً في ألمانيا وفرنسا وبولندا وإيطاليا، إذ تؤدي إلى انقلابات سياسية وانتخابية مع ما يستتبعها من تغيير للمسار والسلوك السياسي لهذه الحكومات شديدة اليمينية.

وهكذا، في ظل الصراع الصفري بين الطرفين لم يعد من الممكن انتهاء هذه الحرب بالنسبة إلى روسيا وحلفائها، الظاهر منهم والخفي، بصيغة نصف انتصار ونصف هزيمة.

معنى النصر.. ومضمون الهزيمة 

لا شك في أن هزيمة روسيا عسكرياً تكاد تكون من المستحيلات، فالهزيمة تعني مباشرة تفكك الدولة الروسية ذاتها، ومن هنا فإن البحث الصحيح يكون في مفهوم النصر لدى الروس وحلفائهم ومضمون الهزيمة. فالمؤكد أن مضمون الهزيمة الروسية سيكون متجسداً في عدم تحقيق أهدافها من الحرب، سواء على المستوى الميداني والعملياتي، أو على مستوى إعادة صوغ أطر جديدة للأمن الجماعي في أوروبا والعالم.

من الناحيتين الميدانية والعملياتية، فإن عدم وصول القوات الروسية إلى ميناء أوديسا وتحرير هذه المنطقة، وقطع سبل الاتصال بين البر الأوكراني والبحر الأسود، فإن نصف هزيمة تكون قد لحقت بالجانب الروسي، ذلك أن "كعب أخيل" أو ثغرة إبليس ستظل قائمة في منطقة الميناء، والتي تسمح للنظام الفاشي في كييف باستقدام أساطيل التحالف الأطلسي في زيارات استفزازية للجانب الروسي والأسطول الروسي. ومن هنا، فإن النصر الحقيقي والانتهاء الفعلي للحرب من جانب روسيا هو تحقيق هذا الهدف، ومن دونه فإن الحرب ستظل قائمة لفترة قد تطول.

بالإضافة إلى ذلك، فإن بقاء المجموعة الحاكمة نفسها في سدة الحكم في العاصمة كييف، والتي قادت الانقلاب الدموي عام 2014 لا يضمن التوصل إلى اتفاق مستقر للسلام والتسوية، ومن ثم فإن الحرب سوف تنتهي فعلياً حينما تنجح روسيا وحلفاؤها وبعض دول الاتحاد الأوروبي في إيجاد فريق قيادي جديد يتولى الإدارة في هذا البلد الذي سيخرج من هذه الحرب وقد خسر ثلث أراضيه وموارده الصناعية والتعدينية الرئيسية.

إذاً، أي حديث حول نهاية هذه الحرب لن يتحقق سوى بتوافر هذه العوامل الثلاثة: إغلاق ميناء أوديسا عن الأراضي الأوكرانية، وتغيير المجموعة الحاكمة في العاصمة كييف، والوصول إلى صيغة مقبولة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لمعاهدة سلام متوازنة وضمانات كافية لجميع الأطراف.

هذا هو السيناريو المرجح من وجهة نظرنا تجاه انتهاء هذا الصراع الضاري في أوروبا الآن.