ما وراء تصعيد التعاون العسكري بين روسيا والصين
يمكن اعتبار الأنشطة العسكرية المشتركة الأخيرة لكلٍّ من الصين وروسيا بمنزلة ردود آنية على تصاعد التحركات العسكرية للولايات المتحدة الأميركية في النطاقات المهمة على المستوى الإستراتيجي لكلٍّ من بكين وموسكو.
في ظلال المعارك المستمرة منذ أشهر في أوكرانيا والتوتر المتعدد الاتجاهات الذي يشهده بحر الصين الجنوبي، يلاحَظ تصاعد تدريجي في حجم التعاون بين الصين وروسيا، وخصوصاً فيما يتعلق بالجوانب العسكرية، وهو ما تعزز الشهر الجاري عبر المناورات البحرية المشتركة بين الجانبين في بحر الصين الشرقي، والتي تشارك فيها وحدات بحرية وجوية تابعة لأسطول المحيط الهادئ الروسي ووحدات عسكرية متنوعة من الجيش الصيني.
هذه المناورات لا تكتسب أهميتها من حقيقة أنها المرة الأولى التي تشارك فيها وحدات عسكرية من الفروع الثلاثة للجيش الصيني في مناورات مشتركة مع الجيش الروسي - وهو ما يحمل أهمية خاصة بالنظر إلى المناورات السابقة بين الجانبين، التي كانت المشاركة الصينية فيها تقتصر على فرع واحد من فروع قواتها المسلحة - لكنها تعود إلى أنها تأتي بعد أقل من شهر من تنفيذ كلا الجانبين دورية جوية مشتركة أواخر الشهر الماضي.
نفذت القاذفات والمقاتلات الروسية والصينية تحليقاً مشتركاً في أجواء بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، تمت مواكبته في بعض المراحل بمقاتلات تابعة لسلاح الجو الكوري الجنوبي، بعدما اخترق التشكيل الصيني - الروسي المشترك منطقة الدفاع الجوي التابعة لكوريا الجنوبية.
المناورات المشتركة، وقبلها الدورية المشتركة، قد لا تمثل "في حد ذاتها" حدثاً جديداً، إلا أنَّ توقيت حدوثها وارتباطه بوضع إقليمي ودولي متفاقم يمنحها قيمة مضافة يجب العمل على تحديدها وفهم الرسائل المرغوب إيصالها من خلالها.
تصعيد المناورات العسكرية المشتركة بين الجانبين
من زاوية أكبر، يمكن أن نعتبر التطورات التي تم رصدها من خلال هذه الدورية الجوية المشتركة، وكذا مناورات الشهر الجاري المشتركة، دليلاً آخر على تصاعد التعاون بين الجانبين بشكل عام، وبشكل خاص التعاون في المجال العسكري والإستراتيجي.
هذا الجانب من العلاقة بين الجانبين بدأ بالتبلور بشكل تدريجي من خلال سلسلة من المناورات والتدريبات والدوريات العسكرية المشتركة التي بدأت عملياً عام 2005، عبر مشاركة كلا البلدين – إلى جانب كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان - في التدريبات العسكرية السنوية الخاصة بمنظمة شنغهاي للتعاون.
تطور مستوى التعاطي العسكري بين الجانبين بشكل أكبر في نيسان/أبريل 2012، حين انطلقت أول مناورة بحرية مشتركة بين البحرية الروسية والبحرية الصينية في نطاق السواحل الصينية الشرقية المطلة على البحر الأصفر.
وقد تحولت هذه المناورة البحرية المشتركة إلى تقليد سنوي يتم تنفيذه مرتين سنوياً منذ عام 2015، تحت اسمي "التعاون العسكري" و"التفاعل البحري". وقد تم تنفيذ المناورة البحرية الأولى في البحر المتوسط في أيار/مايو 2015، في حين تم تنفيذ المناورة الأخرى في شهر آب/أغسطس 2015 في بحر اليابان.
استمرّ تنفيذ هاتين المناورتين خلال الأعوام اللاحقة، إذ تم تنفيذهما خلال عامي 2016 و2017 في شهري تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر، وكان لافتاً أنَّ مناورة أيلول/سبتمبر 2017 كانت موسعة بشكل أكبر على مستوى القوة المستخدمة والنطاق الجغرافي الذي تمت فيه، والذي امتدّ من خليج "بطرس الأكبر" المقابل لميناء فلاديفوستوك في أقصى الشرق الروسي إلى بحر "أوخوستك" شمال اليابان.
وارتبطت هذه المناورة بشكل وثيق حينها بالتوترات مع حلف الناتو والولايات المتحدة الأميركية، على خلفية سلسلة التجارب الصاروخية الكورية الشمالية، وكذلك المناورات التي قامت بها البحرية الأميركية مع كل من البحرية الهندية والبحرية اليابانية خلال الشهر نفسه.
انتقلت المناورات المشتركة بين الجانبين عام 2018 إلى مستوى أعلى، إذ أجرى الجانبان في ذلك العام تدريبات برية ضخمة على طول الحدود المشتركة بينهما، وقاما بتوسيع مناوراتهما البحرية لتشمل دولاً أخرى، وكانت البداية مع إيران، التي بدأت تشارك في مناورات بحرية سنوية في خليج عمان والمحيط الهندي منذ كانون الأول/ديسمبر 2019، وكانت آخر نسخة من هذه المناورات قد تمت في كانون الثاني/يناير الماضي في المحيط الهندي.
الجانب البحري من العلاقة العسكرية بين بكين وموسكو شمل أيضاً تنفيذ دوريات بحرية مشتركة. ومن أمثلة هذه الدوريات، دوريتان نفذهما الجانبان في تشرين الأول/أكتوبر 2021 في الجزء الغربي من المحيط الهادئ، وفي نطاق بحر اليابان. حينها، عبرت نحو 10 قطع بحرية تابعة للبحرية الروسية والصينية مضيق "تسوجارو" الفاصل بين الجزيرة الرئيسية في اليابان وجزيرة "هوكايدو".
الدوريات الجوية الصينية - الروسية
بالعودة إلى الدوريات الجوية المشتركة، أطلق الجانبان عام 2019 الدوريات الجوية الإستراتيجية المشتركة بين قواتهما الجوية، عبر تنفيذ قاذفات كلا الجانبين دورية مشتركة في أجواء المحيط الهادئ، تبعتها دورية أخرى في كانون الأول/ديسمبر 2020 في غرب المحيط الهادئ ونطاق بحر الصين الشرقي.
وقد شهد شهر أيار/مايو من العام الجاري دورية جوية مشتركة بين الجانبين، ظلت لمدة 13 ساعة فوق بحر اليابان وبحر الصين الشرقي. حينها، أشارت بعض التحليلات إلى أنَّ هذه الدورية كانت رداً على التحالف الرباعي الذي تم إعلانه بين الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان في طوكيو، وكذا التصريحات التي أدلى بها حينها الرئيس الأميركي جو بايدن حول إمكانية تدخل واشنطن عسكرياً ضد الصين في حال مهاجمتها تايوان.
تكونت الدورية الجوية المشتركة بين روسيا والصين، التي ظلت لمدة 8 ساعات متواصلة في أجواء بحر اليابان وبحر الصين الشرقي، من 11 طائرة متنوعة. وقد شاركت القوات الجوفضائية الروسية في هذه الدورية بقاذفتين إستراتيجيتين من نوع "توبوليف-95 إم إس"، و4 مقاتلات من نوعي "سوخوي-30 إس إم" و"سوخوي-35 إس"، في حين شاركت القوات الجوية التابعة لجيش التحرير الصيني في هذه الدورية عبر قاذفتين إستراتيجيتين من نوع "جيان إتش-6"، وطائرة تزويد بالوقود من نوع "جيان-20"، ومقاتلتين من نوع "شنيانغ جي-16".
النقطة الأساسية اللافتة في هذه الدورية كانت دخول جزء من التشكيل الجوي المشارك فيها، يتكون من قاذفتين صينيتين وقاذفتين روسيتين، ومقاتلتين روسيتين ومقاتلتين صينيتين، إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي الخاصة بكوريا الجنوبية، وهو ما استنفر مقاتلات سلاح الجو الكوري الجنوبي التي أصبحت - عملياً - مستنفرة بشكل دائم.
والجدير بالذكر هنا أنَّ عدد المرات التي اخترقت فيها الطائرات الحربية الصينية هذه المنطقة خلال العام الماضي كانت أكثر من 70 مناسبة، كما اخترقت المقاتلات الروسية هذه المنطقة العام الماضي أكثر من 10 مرات، وسبق أن اخترقتها في آب/أغسطس الماضي.
وعلى الرغم من أن منطقة تحديد الدفاع الجوي لا تعتبر عملياً ضمن الأجواء الإقليمية لكوريا الجنوبية، فإنَّ القوانين المحلية لسيؤول تلزم الطائرات التابعة لدول أخرى تعريف نفسها قبل دخول هذه المنطقة، وهو ما تتجاهله المقاتلات الصينية والروسية بشكل دائم.
النقطة الثانية في ما يتعلق بهذه الدورية أنها تضمنت - للمرة الأولى - هبوط الطائرات الروسية في مطارات صينية، وكذلك هبوط طائرات صينية في مطارات روسية، ناهيك باستخدام وسائط جوية نوعية من كلا الجانبين، على رأسها قاذفات "توبوليف-95" التي تعتبر – إلى جانب قاذفات "توبوليف-160" - عماد الجانب الجوي من القوة النووية الروسية العابرة للقارات. ولطالما أثار تحليق هذا النوع من القاذفات قرب الأجواء الأميركية والأوروبية حالة استنفار قصوى لدى منظومات القيادة والسيطرة الخاصة بوحدات الدفاع الجوي الأوروبية.
توترات عسكرية ملحوظة في النطاق الصيني والروسي
من المنظور العسكري، يمكن اعتبار الأنشطة العسكرية المشتركة الأخيرة لكلّ من الصين وروسيا، بما في ذلك الدوريات الجوية والمناورات البحرية التكتيكية التي تمت بينهما في المحيط الهادي في أيلول/سبتمبر الماضي، والتي شملت تنفيذ مجموعة من القطع البحرية الصينية والروسية دورية مشتركة في نطاق بحر "بيرينغ" على التخوم الحدودية الأميركية في ألاسكا - إضافة إلى مناورات الشهر الجاري - ردوداً آنية على تصاعد التحركات العسكرية للولايات المتحدة الأميركية في النطاقات المهمة على المستوى الإستراتيجي لكل من بكين وموسكو.
ومن أمثلة هذه التحركات، المناورات الجوية المشتركة لسلاحي الجو الياباني والأميركي فوق بحر اليابان في أأيار/مايو الماضي. يضاف إلى ذلك، تكرر عمليات عبور القطع البحرية الأميركية في نطاق مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، وآخرها عبور مدمرة صاروخية أميركية مضيق تايوان والمياه القريبة من جزر "سبراتلي" في بحر الصين الجنوبي في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
على المستوى العام، تستشعر كلّ من بكين وموسكو تزايد حجم الضغوط التي يمارسها حلف الناتو والولايات المتحدة عليهما في هذه المرحلة الدقيقة على المستوى الدولي. وهنا، يمكن القول إنّ موسكو تحاول إبداء دعمها لبكين حيال التحركات الغربية المتتالية في محيطها الحيوي هذا العام، بداية من الاتفاقية العسكرية التي وقعتها أستراليا واليابان في كانون الثاني/يناير الماضي، مروراً بمحاولات الولايات المتحدة التدخّل في العلاقة المتوترة الحالية بين نيودلهي وبكين، وزيارة نانسي بيلوسي لتايوان، وتصريحات نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس خلال زيارتها جزيرة "بالاوان" المتنازع عليها بين الفلبين والصين، وصولاً إلى الخطاب التصعيدي من جانب الرئيس الأميركي جو بايدن ضد الصين خلال كلمته في قمة شرق آسيا التي احتضنتها كمبوديا في الآونة الأخيرة.
ينظر كلا البلدين إلى تحركات اليابان في هذا الإطار بالنظرة نفسها تقريباً، إذ جدَّدت طوكيو - بالتزامن مع بدء المعارك في أوكرانيا - الحديث عن جزر الكوريل المتنازع عليها مع موسكو. وفي الوقت نفسه، دخلت اليابان - بمعية كوريا الجنوبية - في خضم خطة طموحة للتسلّح، ركزت على القدرات الصاروخية الجوالة والبالستية، وكانت آخر إرهاصاتها إعلان اليابان نيتها شراء 500 صاروخ جوال من نوع "توماهوك" ضمن خطة أكبر تعمل عليها طوكيو لمراجعة إستراتيجيتها للأمن القومي، بحيث تقوم بإدخال "الردع البعيد المدى" ضمنها، علماً أن صواريخ "توماهوك" تستطيع ضرب أهداف على مسافة تزيد على ألف كيلومتر، ما يضع أجزاء من الصين والشرق الأقصى الروسي في مداها المؤثر.
الجانب النووي من الدوريات الجوية الروسية الصينية التي شاركت فيها قاذفات إستراتيجية روسية لديها القدرة على حمل ذخائر نووية، ربما يكون من المهم النظر إليه، وخصوصاً في ظل بدء حلف الناتو في 17 تشرين الأول/أكتوبر الماضي مناورات "الظهيرة الثابتة" النووية التكتيكية، التي ردت عليها موسكو في الشهر نفسه عبر مناورات "الرعد" النووية.
هذه المناورات تمت في ظلِّ تجارب كورية شمالية صاروخية متتالية، وظهور مفاجئ للغواصة النووية الأميركية "يو أس أس وست فيرجينيا" المحملة بصواريخ بالستية في بحر العرب في 20 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، وهي فئة من الغواصات تعد بمنزلة "جوهرة التاج" للثالوث النووي الأميركي، وكذا تنفيذ واشنطن تجربة صاروخية في آب/أغسطس الماضي، لإطلاق الصاروخ البالستي العابر للقارات "LGM-30G Minuteman" من قاعدة "فاندنبيرغ" الجوية في اتجاه جزر مارشال.
على المستوى الإستراتيجي، ورغم أن ما سبق من عرض ربما يوحي بأن الشراكة العسكرية بين بكين وموسكو قد تعززت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، بفعل عدة عوامل جيوسياسية، أهمها التحركات الأميركية التي تستهدف نفوذ كلا الدولتين ومصالحهما، فلا يمكن أن نعتبر هذه الشراكة "تحالفاً عسكرياً" كاملاً بين الصين وروسيا، فما زالت كلا الدولتين تحتفظان بهامش معين من استقلالية المصالح، وإن كانت تطورات الملف الأوكراني وملف تايوان في المستقبل القريب ربما تمثل فرصة لتوسع هذه الشراكة لتصبح أشبه بتحالف عسكري مماثل - ربما - لحلف الناتو.