ليسوا ضحايا الإعصار فقط: الليبيون يدفعون ثمناً مضاعفاً لغياب الدولة
يجزم الليبيون أن بلادهم ما كانت لتظهر بهذه الصورة الضعيفة في مواجهة تلك الكارثة الطبيعية لو كانت قد تخلصت من حالة الانقسام التي تعيشها منذ سنوات طويلة.
على مدار الأيام الماضية، قُتل وشُرد آلاف الليبيين في إعصار دانيال الذي ضرب شرق البلاد، وأدت العاصفة إلى انقطاع الاتصالات والكهرباء عن العديد من المناطق الليبية، وانهارت الطرق الساحلية التي تربط الساحل الشرقي أسفل الجبل الأخضر، ما أدى إلى عزل عدد من القرى والمدن.
جاءت تلك الكارثة كحدث استثنائي غير مسبوق في البلاد منذ 4 قرون، وكشفت حجم المأساة التي يعيشها الليبيون في ظل فشل مؤسسي جعل المواطنين عاجزين عن مواجهة تلك الكارثة الطبيعية أو اتخاذ ما يلزم من سبل الوقاية، ودفع مئات الأسر نحو الموت المحقق غرقاً أو صعقاً أو أسفل الأسقف المتداعية.
بحسب الأخبار المتداولة، فقد ضربت العاصفة مدناً ليبية كبيرة، مثل بنغازي وسوسة وسرت والبيضاء ودرنة، وخلّفت قتلى بالآلاف. وقد تضاعفت الأعداد في منطقة درنة، نتيجة انهيار سدين فيها، وهو الانهيار الذي أدى إلى اندفاع سيول جارفة دمرت المنطقة بشكل شبه كامل.
الهلال الأحمر الليبي تحدث في 14 أيلول/سبتمبر عن ارتفاع حصيلة القتلى في مدينة درنة إلى 11300 قتيل، إضافة إلى أكثر من 10 آلاف مفقود، لكن رئيس بلدية درنة عبد المنعم الغيثي توقع أن يكون عدد القتلى في المدينة الليبية المنكوبة أكثر من 20 ألفاً.
الليبيون الذين استعادوا الاتصالات التي انقطعت في وقت سابق تحدثوا عن معاناة كبرى يعيشونها وفقر في الإمكانيات والاستعدادات التي كان يُفترض أن تسبق العاصفة وتمهّد الأوضاع لمواجهة تلك السيول التي جرفت عشرات المنازل وتسببت بتشريد مئات الأسر.
المشهد، بحسب ما يرويه الليبيون، كان أقرب إلى "يوم القيامة"، وخصوصاً في المدن الواقعة بين الجبل الأخضر والبحر المتوسط، فالمياه في مدينة مثل سوسة الساحلية جرت من الجبل بغزارة نحو البحر. ومع كثافة الأمطار، تحولت إلى سيول، فحملت المنازل بساكنيها في طريقها، ومعها الاستراحات التي كانت على الشواطئ.
وأدت العاصفة إلى محو قرى بشكل كامل، مثل قرية الوردية الواقعة بين سوسة وبنغازي، إذ تقع على المنحدر الغربي للجبل الأخضر. ولأنها قرية صغيرة لا يتجاوز عدد ساكنيها ألف شخص، فقد استطاعت السيول الجارفة تدمير كل البيوت والمزارع فيها.
ليبيا بين الجفاف والأعاصير
يمتاز المناخ في ليبيا بأنه صحراوي غالباً، ويطغى عليه الجفاف، ولا تشهد معظم المناطق الليبية أمطاراً، ما عدا المناطق الساحلية المطلة على البحر الأبيض المتوسط. رغم هذا، فإن الرياح الشديدة والأمطار الغزيرة والانهيارات الأرضية تنال من الليبيين على فترات متباعدة وتُحدث أضراراً بالغة.
وقد شهدت ليبيا العديد من العواصف، مثلما حدث عامي 1945 و1973، إذ تسبب تساقط الأمطار الغزيرة على مدينة طرابلس في هدم بعض مبانيها القديمة وانهيار الجسور، كما اجتاحتها عاصفة ماكسيمو عام 1982، وكذلك إعصار كلاودس عام 1995. حينها، بلغت سرعة الرياح 185 كم/ ساعة.
ورصد المركز العربي للمناخ العاصفة زيو التي مرت على الساحل الليبي في كانون الأول/ديسمبر 2005، ثم العاصفة رولف في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، التي طال تأثيرها الشمال الليبي، وتكرر الأمر ذاته في منطقة درنة عام 2018.
ومرت بسواحل ليبيا العاصفة كاسيلدا آتية من اليونان في أيلول/سبتمبر 2020، لكن البلاد لم تشهد حينها سوى أمطار خفيفة إلى متوسطة في شمال شرقي البلاد. وفي العام الذي يليه، شهدت بعض سواحل شرق ليبيا العاصفة تورنادو، لكنها مرّت بهدوء على البلاد.
على الرغم من تلك التجارب التي مرت على ليبيا خلال العقود السابقة، كان إعصار "دانيال" هو الأكثر عنفاً، فالخراب والخسائر البشرية التي لحقت بالبنية التحتية لم تشهدها البلاد من قبل، وخصوصاً إذا ما قورنت بالكوارث والفيضانات السابقة.
ويشير الخبراء إلى 3 عوامل أساسية تسببت بمضاعفة حجم الكارثة:
العامل الأول: غياب الرقابة على النمو العمراني في مدينة درنة (الأكثر تضرراً بسبب الإعصار)، فبعد بناء السدين، ومع غياب القوانين الملزمة، زحف العمران خلال الفترات الماضية باتجاه الوادي ومخرّات السيول. لذلك، سببت هذه الفيضانات الكبيرة وغير المتوقعة دماراً غير مسبوق.
ومن المعلوم أن مدينة درنة تقع على ضفاف وادي درنة الذي يتجاوز طوله 60 كيلومتراً. وقد دمرت الفيضانات سدين تم بناؤهما على مجرى الوادي في سبعينيات القرن الماضي بهدف حماية المدينة من السيول المتكررة.
العامل الثاني: أن توقعات الأرصاد الجوية الليبية الخاصة بحجم التهديد الذي يمثله إعصار دانيال لم تكن دقيقة بشكل كبير، وغابت الآراء الهندسية التي يمكن أن تحدد مدى قدرة سدود درنة على الصمود في مواجهة كميات المياه المهولة.
العامل الثالث: أن البنية التحتية لكثير من المناطق الليبية غير مؤهلة للتعامل مع كوارث طبيعية بهذا الحجم، إضافة إلى صعوبة وصول فرق الإنقاذ، وكذلك الفرق الطبية، إلى الأماكن المنكوبة.
المواطن الليبي ضحية الانقسامات والصراعات
يجزم الليبيون أن بلادهم ما كانت لتظهر بهذه الصورة الضعيفة في مواجهة تلك الكارثة الطبيعية لو كانت قد تخلصت من حالة الانقسام التي تعيشها منذ سنوات طويلة، وسط عجز إقليمي ودولي عن حلّ تلك المعضلة.
ليبيا اليوم ضحية مباشرة لطائرات حلف شمال الأطلسي التي دمّرت مؤسساتها وبنيتها التحتية وتركتها للفوضى التي تنهش جسدها عام 2011. وقد تمّ ذلك بذريعة دعم "المتظاهرين" و"المعارضين" حينها، فيما الأمر لم يكن يتخطى كونه جزءاً من مخطط غربي للهيمنة وفرض النفوذ.
ويعاني الليبيون بسبب وجود حكومتين؛ واحدة في طرابلس بقيادة عبد الحميد الدبيبة، تحظى بدعم عواصم غربية، وأخرى في الشرق بقيادة أسامة حماد، تتمتع بدعم من مجلس النواب والجيش الوطني الليبي.
ولا مفرّ من الاعتراف بأنَّ حالة الصراع المحتدمة بين الطرفين، والتي تغذيها أدوات خارجية، أسهمت في إضعاف البلاد عموماً، وجعلت جميع مؤسساتها عاجزة عن مواجهة أيّ مستجدات أو كوارث طارئة.
ورغم شدة الأزمة التي تسبب بها إعصار دانيال، فإن الصراع بين الجهات المتنافسة داخل ليبيا ما زال قائماً، ما أثر بشكل واضح في آلية عمل البلديات، ولم يتم تعيين شخص واحد أو تحديد إدارة بعينها لتنظيم عمل المتطوعين وفرق الإنقاذ أو تقديم المساعدات الأولية بشكل سريع، وخصوصاً مع اقتراب فصل الشتاء.
وتُعد الثورة النفطية محركاً قوياً للقوى المتنافسة داخل ليبيا، التي يحظى بعضها بدعم جهات إقليمية ودولية، إلى الدرجة التي جعلت المراكز السياسية تعتبر ما يجري داخل الأراضي الليبية صراعاً دولياً بالوكالة.
وتتوزع الحقول النفطية الليبية على مناطق عدة، أهمها سرت الشرقية بـ350 ألف برميل يومياً، وشرارة بـ300 ألف برميل، والفيل بـ70 ألف برميل في جنوب غربي للبلاد. أما الطاقة الكلية للآبار مجتمعة، فتبلغ مليوناً و200 ألف برميل يومياً، وتصل عائداتها إلى 22 مليار دولار سنوياً، كما تمتلك ليبيا احتياطياً نفطياً يُقَدّر بـ48.36 مليار برميل.
ويشعر المواطنون الليبيون بالحسرة عندما يتأمّلون حجم الثروات الطبيعية التي تتمتع بها بلادهم، في الوقت الذي يعجزون عن إعادة بناء دولة مؤسسات من الطراز الحديث، بالشكل الذي يمكّنهم من الاستفادة من هذه الثروات ومواجهة أي مخاطر قد يتعرضون لها.
ليس "دانيال" وحده.. ليبيا في مواجهة العديد من الأعاصير
بحسب المتخصصين في علم الجريمة، فإن البيئة الليبية خلال الأعوام الـ12 الماضية كانت بيئة "مثالية" لانتشار كل أشكال المخالفات القانونية؛ ففي ظل الفوضى التي أحدثها انهيار منظومة الحكم بفعل التدخل الخارجي، صار كل شيء مستباحاً ووارد الحدوث.
ويخشى الليبيون أن تزداد الأوضاع سوءاً بسبب إعصار دانيال، فمن المعهود أن الكوارث الطبيعية تتطلب تشديداً أمنياً مضاعفاً لمنع أي أطراف خارجة عن القانون من استغلال حالة الفوضى الناجمة عنها، وهو ما تعجز عن تحقيقه الدولة الليبية بصورتها الحالية.
وكانت الهيئات الأممية قد لفتت الأنظار على مدار الأعوام الماضية إلى ارتفاع معدل الجرائم داخل ليبيا، إضافة إلى انتشار العصابات التي تعمل في تهريب الأفارقة نحو جنوب أوروبا، كذلك تم رصد العديد من الحالات التي تدل على تنامي تجارة المخدرات والأغذية الفاسدة، ما يعني أن أزمة ليبيا ليست في إعصار دانيال وحده، إنما في أعاصير أخرى، أغلبها نتاج الفوضى وغياب الدولة.
كذلك، فإن مدينة درنة التي فقدت الآلاف من أبنائها بسبب الإعصار الأخير كانت منذ سنوات قليلة في مواجهة إعصار آخر يتمثل في سيطرة العناصر الإرهابية المنتمية إلى جماعة "داعش" وتنظيم "القاعدة"، وذلك حتى تمكنت قوات حكومية من طرد تلك العناصر من المدينة عام 2018 بعد مواجهات دامية.
وتكشف التقارير الواردة من داخل ليبيا عن حالة قلق كبير تنتاب المواطنين، وخصوصاً أولئك الذين فقدوا كل ممتلكاتهم بسبب الإعصار، وسط تساؤلات عن قدرة الحكومات المتنافسة داخل البلاد على تعويضهم وسرعة توفير المساكن البديلة المناسبة.
ويؤكد الناشطون الليبيون أن ما جرى بسبب إعصار دانيال يكشف عن معضلة كبرى تتطلب من الجميع في الداخل والخارج التكاتف بهدف إعادة بناء "الدولة" من جديد، حتى تكون قادرة على الصمود في وجه كل الكوارث البشرية والطبيعية. أما إذا استمرت الأوضاع على حالها القائمة منذ نحو عقد من الزمن، فإن البلاد ستكون معرضة لمخاطر أشد صعوبةً في مواجهة كوارث أقل حجماً.