قمة جدة.. أجندات مختلفة ومصير واحد

الجامعة العربية بلا سوريا لم يعد لها وزن ولا دور، كيف لا وسوريا كانت أحد الأعضاء المؤسسين لهذه الجامعة في العام 1945.

  • قمة جدة.. أجندات مختلفة ومصير واحد
    قمة جدة.. أجندات مختلفة ومصير واحد

لم يكن حدث انعقاد القمة العربية حدثاً مهماً بحدّ ذاته، خاصة وأن الشارع العربي بات ينظر إلى الجامعة العربية كونها منظمة عفا عليها الزمن، وأنها باتت بحاجة إلى إصلاح، أو البحث عن بديل لها.

ما ميز هذه القمة بكل تأكيد هو عودة سوريا إلى الجامعة العربية ودلالات تلك العودة وظروفها، والرسائل التي تسعى السعودية لإيصالها إلى العالم بشكل عام، والعرب بشكل خاص.

إن عودة سوريا لم تكن لتتحقق لولا الدور السعودي الفاعل في هذا الإطار، والذي استطاع فرض إرادته على باقي الدول العربية الرافضة لعودة سوريا، أو المتحفظة عليها على أقل تقدير.

لقد بدا واضحاً أن الدول العربية لا تريد الوقوف في وجه التوجهات السعودية، نظراً إلى حجم المملكة، وتشابك مصالح تلك الدول معها.

 إن نجاح المساعي السعودية، وخلال وقت قصير جداً، يعكس رغبة المملكة في أن يحسب لدبلوماسيتها نجاح سياسي آخر، وبالتالي تكريس المملكة كعاصمة للقرار العربي.

ولكي تكون السعودية عاصمة للقرار العربي، لا مناص من أن تكون سوريا هي البوصلة لهذا القرار والمحدد لتوجهاته.

فالسنوات الماضية أعطت دروساً للجميع، يمكن اختصارها بأن سوريا لا يمكن إخضاعها، وأن الزمن كان كفيلاً بإثبات صحة الموقف السوري وصدق توجهاته.

كما أن الجامعة العربية بلا سوريا لم يعد لها وزن ولا دور، كيف لا وسوريا كانت أحد الأعضاء المؤسسين لهذه الجامعة في العام 1945.

أما الدول التي سعت لإخراج سوريا من الجامعة، وما زالت تتحفظ على عودتها، فلم تكن هذه الدول موجودة أصلاً حين تأسست الجامعة العربية.

إن عودة سوريا إلى الجامعة ليست هدفاً بحد ذاته، بل هي الطريق لعودة العلاقات العربية مع سوريا، رغم أنه تُركت لكل دولة حرية القرار.

الجامعة العربية، ورغم هشاشتها، لكنها المنظمة الدولية الأعرق، وهي الخيمة الجامعة لجميع الدول العربية، وهي من يذكر العالم بنا كشعب عربي واحد، له وزن وأهمية على الساحة الدولية.

هذه الأهمية جعلت قادة الدول الكبرى (روسيا والصين) يبادرون إلى مخاطبة الرؤساء العرب المجتمعين في جدة، إدراكاً منهم لأهمية هذه الدول، ورغبة منهم في توحيد الصف العربي، بعد أن أصبح المزاج العام في المنطقة يميل إلى الطرف الآخر المعادي للهيمنة الأميركية.

وهذه الأهمية هي التي جعلت الرئيس الأوكراني زيلينسكي يسعى للتحدث أمام القمة، بعد أن شعر باليأس والفشل، خاصة وأن الدول الأوروبية لم تعد تستطيع حماية بلده.

ولم يكن لزيلينسكي أن يأتي إلى القمة على متن طائرة فرنسية، لولا الدعم الفرنسي والرغبة الأوروبية في التأثير في القرار السياسي العربي، الذي بات اليوم مهماً أكثر من أي وقت مضى.

لقد كانت دعوة الرئيس الأوكراني ليلقي كلمة أمام القادة العرب، أمراً لافتاً، وسط التشديد على استفراد المملكة بهذه الدعوة، وعدم أخذ رأي باقي الدول العربية.

هذه الدعوة لم تكن مفاجأة سارة لبعض الدول بكل تأكيد، وعلى رأسها سوريا، التي حسمت أمرها منذ اليوم الأول للحرب بالوقوف إلى جانب روسيا في الدفاع عن أمنها القومي ومنع توسع حلف "الناتو" ليصل إلى أوكرانيا.

هذه الدعوة تضر بشكل كبير بالموقف العربي من الحرب في أوكرانيا، والذي انقسم بين مؤيد لروسيا، أو محايد على أبعد تقدير.

وهي تعكس المساعي السعودية للتخفيف من حدة الغضب الأميركي على الدور الذي تقوم به المملكة، لجهة دعوة سوريا إلى القمة، والتقارب مع إيران، والتوجه نحو كل من الصين وروسيا في سياستها الخارجية.

كما تسعى المملكة إلى لعب دور الوساطة في الأزمة الأوكرانية، وهو ما يزيد من قوتها السياسية على الصعيد الدولي. 

لكن هذه الدعوة لن تلقى ترحيباً من الجانب الروسي بكل تأكيد، خاصة وأن موسكو كانت قد قبلت وساطة المملكة في بعض الاتفاقات الخاصة بتبادل الأسرى مع الجانب الأوكراني. 

كما أنها لبت المطالب السعودية بالإفراج عن المرتزقة الأجانب من فوج آزوف النازي، على الرغم من أن هذا القرار كان ضد توجهات الشعب الروسي.

إن دعوة زيلينسكي تثير المخاوف من أن السعودية قد لا تكون قد غيّرت توجهاتها السياسية بشكل حقيقي، وأن ما يحدث هو من باب المناكفة لحث الولايات المتحدة على المزيد من التقارب معها وتلبية رغباتها. 

كما أن هذه الدعوة تشكل اختلافاً عميقاً في التوجهات بين السعودية وسوريا، لذا فلم يكن مستغرباً رفض الوفد السوري الاستماع إلى كلمة زيلينسكي.

كما أن هذه الدعوة تدحض ما يسمى بـ "الحياد الإيجابي" للدول العربية تجاه الحرب في أوكرانيا، كما وصفه وزير الخارجية السعودي.

إن المشهد العام للقمة، وإن كان يبدي حالاً من التوافق والانسجام بين الدول العربية، فإنه لا يخفي حقيقة الخلافات الكبيرة بينها أيضاً، لكن العديد منها لم يعد قادراً حتى على التعبير عن موقفه أو امتعاضه.

إن التقليل من أهمية الجامعة العربية ليس أقل سوءاً من الإفراط في التفاؤل بحجم دورها وفاعليته، خاصة وأنها لم تكن قادرة على تقريب وجهات النظر بين الدول العربية، بل انحازت دوماً نحو الصف الأقوى.

والأقوى اليوم، هو القادر على تقديم الهدايا ودفع المكافآت للعاملين في هذه المنظمة، والتي بات الروتين والبيروقراطية طاغيين على عملها.

إن إصلاح الجامعة يمكن أن يتحقق خلال المرحلة المقبلة، إذا ما توفرت الإرادة لذلك، وإذا ما تصدت السعودية لهذه المهمة، بصفتها رئيساً للقمة العربية.

هذا الإصلاح فيما لو تحقق سيغيّر من ثوابت ربما اعتدنا عليها في عمل الجامعة، وخاصة جنسية الأمين العام، فلن يكون مستغرباً أن يكون الأمين العام القادم خليجي الجنسية، وسعودياً تحديداً.

فالمملكة باتت تسعي لزيادة قوتها الناعمة، انطلاقاً من متانة اقتصادها وتعاظم نفوذها ودورها، وانطلاقاً من توجهاتها الجديدة المتمثلة "بتصفير المشاكل" في المنطقة.

هذه الرؤية قد تبدو جميلة من الناحية الشكلية، لكن العبرة تكمن في إمكانية تطبيقها على أرض الواقع، خاصة وأن الدولة التي كانت قد نظرت إلى سياسة "صفر مشاكل" في حينه (تركيا) وصلت فيما بعد إلى "صفر أصدقاء".

لقد أصبحت المملكة الرابح الأكبر من هذه القمة فقد استطاعت فعل ما لم تستطع أي دولة فعله، فالمساعي الجزائرية والإماراتية والعراقية وغيرها، لم يكتب لها النجاح، نظراً لأن حجم تلك الدول وفاعليتها أصغر بكثير من أن تلعب هذا الدور، ونتيجة لتحفظ السعودية في حينه.

لقد بدأت فكرة قيادة السعودية للنظام الرسمي العربي تتبلور عملياً مع انعقاد القمة العربية-الصينية في المملكة العام الماضي، لتكون إعلاناً بنقل مركز القرار العربي من مصر إلى السعودية.

لقد شاءت الظروف الإقليمية والدولية، وتوفر الإرادة الداخلية أن يتضاعف الدور السعودي، وخاصة مع بدء الحرب في أوكرانيا، والانسحاب الأميركي من المنطقة.

كما استطاعت السعودية عبر اتفاقها مع إيران تخفيف حدة التجاذبات في المنطقة، وتراجع سياسة المحاور والاستقطاب فيها.

لقد تسبب "الربيع العربي" بتدمير اقتصادات الدول التي حدث فيها، وبالتالي تراجع دور تلك الدول وفاعليتها السياسية.

وفي المقابل، حدث تغير في السياسات الخليجية، تمثل في تخليها عن تقديم المساعدات لغيرها من الدول العربية، وباتت تتعامل مع تلك الدول بمنطق التاجر والبحث عن المصلحة والربح، فانتقلت إلى الاستثمار في تلك الدول وشراء الأصول الاقتصادية فيها إذا ما أمكن ذلك.

ولأن من يتحكم بالاقتصاد سيتحكم بالسياسة، فقد بات القرار السياسي لبعض الدول مرهوناً لمن وضع الودائع في بنوكها، أو قدم الأموال من أجل البدء بالاستثمارات الضرورية.

ورغم السعي لأن تكون قمة جدة قمة للمّ الشمل العربي، فإن بعض الخلافات كانت ظاهرة، فالجزائر لم تدع إلى الاجتماعات التحضيرية، رغم أنها الرئيس السابق للقمة العربية.

كما أن الرئيس الجزائري لم يحضر القمة شخصياً، رغم دوره الكبير ومحاولاته السابقة لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، وهو ما فسره البعض بعدم مشاركة ولي العهد السعودي شخصياً في قمة الجزائر.

وعكست القمة بعض الخلافات داخل دول مجلس التعاون الخليجي، أو على الأقل الاختلاف في وجهات النظر، فأمير قطر ورغم حضوره للقمة، لكنه لم يلق كلمة بلاده، كما أنه غادر القمة قبل إلقاء الرئيس بشار الأسد كلمته.

وكذلك الحال بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، التي تعيش حالة من التنافس وتضارب المصالح مع السعودية، وهو ما أدى إلى غياب الشيخ محمد بن زايد عن القمة.

لقد كانت القمة العربية في جدة بمنزلة إعلان نهاية "الربيع العربي"، والانتقال بالسياسات العربية إلى مرحلة جديدة من الواقعية السياسية، تتمثل في احترام سيادة كل دولة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول.

وكان حضور الرئيس الأسد الحدث الأبرز في القمة، وكان لافتاً حجم الترحيب بالوفد السوري من قبل المملكة، وهو ما يعطي انطباعاً بأن الأمير محمد بن سلمان يسعى لإعلان براءته من السياسات السعودية السابقة، وخاصة تجاه سوريا.

ويبقى السؤال الأهم حول حجم الدور الذي ستلعبه السعودية في إعادة إعمار سوريا، خاصة وأن إعادة الإعمار هي الطريق الوحيد لعودة اللاجئين. 

كما أنه بات من المؤكد أن العلاقات السورية-السعودية تشهد قفزات إيجابية فاقت كل التوقعات، وجعلت من الصعوبة قراءة المشهد المتسارع بشكل كبير.

ويبقى العامل الحاسم في الانفتاح العربي على دمشق هو الموقف الأميركي، الذي لا يزال يتصف ببعض الغموض والتباين بين موقف الإدارة والكونغرس.

خاصة وأن الكونغرس قد أنجز مشروع قانون يتضمن فرض عقوبات شديدة على أي دولة تسعى لمساعدة سوريا.

إن الانفتاح العربي على دمشق لن يعني أبداً استعداد تلك الدول لتحدي القرارات الدولية، أو استعدادها لتحمّل العقوبات الأميركية عليها.

إن أي مسعى لمساعدة سوريا، سواء أكان عربياً أم دولياً، لن يكتب له النجاح إلا إذا أخذ في الحسبان القدرة على إقناع الولايات المتحدة به.

وختاماً، يبدو أن الأزمة السورية وإن شهدت انفراجات سياسية، إلا أن العامل الاقتصادي هو الأهم والأكثر إلحاحاً لشعب بات غير قادر على تأمين لقمة عيشه.