قبل اجتياح رفح.. هل تملك "قمة البحرين" أن تغيّر شيئاً بالمشهد؟
عودة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء الأممية هي أمر يثير استياء "إسرائيل" بشدة، وخصوصاً أنها كانت قد ارتاحت من هذا الشاغل مع انطفاء الحركات الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفياتي وتغيّر المزاج العالمي، لكن الأمور عادت لتشتعل من جديد.
منذ أمدٍ طويل، فقد الشارع العربي شغفه بمتابعة القمم العربية المتتالية. وقلّما تجد مواطناً يسكن تلك المساحة الجغرافية التي تتوسط العالم بين الخليج والمحيط يهتم بانعقاد القمة التي تنطلق اجتماعاتُها في المنامة عاصمة البحرين أو يطمح لأن تُحدث فارقاً في ما يجري في الساحة العربية.
وبعيداً من مرحلة صعود أفكار التحرّر العربي في الخمسينيات والستينيات، فمن اللافت أن المرّات النادرة التي أحدث فيها اجتماع القادة العرب تغييراً يُذكر بالأوضاع السياسية العربية خلال العقود الخمسة الأخيرة كان تغييراً بالسالب وجرّ المنطقة بأسرها نحو سيناريوهات أكثر سوءاً.
وكانت البداية عبر تمرير ولوج الجيوش الأميركية إلى المنطقة تحت زعم تحرير الكويت في مطلع التسعينيات، وانتهاء باتخاذ الجامعة العربية مواقف تخدم مخططات القوى الغربية للهيمنة على ثروات المنطقة وتعميق انقساماتها في سياق ما عُرف بـ"الربيع العربي" خلال عام 2011 ولسنوات قليلة تالية.
اليوم، ومع انعقاد قمة البحرين في السادس عشر من مايو/أيار، يقف بنيامين نتنياهو ليتحدى العالم بأسره، معلناً نيته اجتياح محافظة رفح الفلسطينية، مُعرّضاً بذلك حياة مئات الآلاف من أبناء غزة للموت المحقق، بعدما نزحوا إلى تلك المحافظة التي تقع في أقصى جنوب القطاع بموازاة الحدود المصرية ليتفادوا آلة القتل الإسرائيلية.
يُجمع قادة الاحتلال اليوم على رفض إيقاف الحرب في قطاع غزة من دون تحقيق أهدافها، ويتساوى في ذلك "المعتدلون" منهم و"المتطرفون"، فغالبية الأطياف داخل الكيان تريد الاحتفاظ بالحق في شن العمليات العسكرية المطلقة ضد الفلسطينيين.
لم يعُد يخفى على أحد، وبعد نحو نصف عامٍ من العدوان على غزة، أن المقاومة ليست حنجورية الطابع، كما زعم أعداؤها، إذ استطاعت الفصائل الفلسطينية على مدار الشهور الماضية الصمود في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، ووضعت حداً لأحلام الثلاثي (نتنياهو وبن غفير وسموتريتش) الذين توهّموا إمكانية تحقيق نصر سهل وسريع يسمح لهم بالقضاء على المقاومة واسترداد الأسرى!
المفارقة أن ما حدث هو العكس كلياً، وباتت "إسرائيل" تدرك أنها تورطت في معركة طويلة مع الحركات الغزّاوية، وأنّ "جيشها" صار في مواجهة خصوم يحترفون حرب العصابات ويمتلكون شبكة أنفاق أكثر اتساعاً وإحكاماً بشكلٍ فاق تصورات الجميع. كل هذا أفضى إلى حقيقةٍ واحدة مفادها أن الفصائل الفلسطينية غير قابلة للهزيمة، وليس أمام العدو الإسرائيلي إلّا مواصلة عدوانه إلى الأبد، وهو أمر مستحيل عملياً.
أمام كل تلك المعطيات، فإن نتنياهو يفتّش عن نصرٍ زائف يرمّم عبره معنويات الإسرائيليين المُحطّمة منذ يوم السابع من أكتوبر، وهو يعتقد، ومعه اليمين الإسرائيلي المتطرف، أنّ إحكام السيطرة على كامل رفح -بعد السيطرة على المعبر - ومن ثمّ إزهاق المزيد من الأرواح الفلسطينية البريئة أمر كفيل بتحقيق هذا "النصر المُتوهم".
أما لماذا هو مُتوهّم؟ فلأن "إسرائيل" بدخولها إلى رفح لن تجني شيئاً سوى مزيد من تردّي صورتها في نظر شعوب العالم شرقاً وغرباً، ولن تتمكن من رقبة حماس أو غيرها من الفصائل المقاتلة؛ تلك التي نجحت في إعادة المعارك إلى نقطة الصفر في شمالي غزة، بعدما شنت سلسلة من هجمات الكر والفر على القوات الإسرائيلية هناك، تاركةً القادة في "تل أبيب" يتوهمون أن نهاية المعارك تتمثّل في اجتياح الجنوب/رفح التي يصفونها بأنها "المعقل الأخير للمقاومة"!
هذا السرد لطبيعة ما يدور داخل قطاع غزة من بيت لاهيا حتى تل زعرب مهمٌ لفهم حقيقة أن المقاومة الفلسطينية وضعت الضوابط التي ترسم خريطة الأحداث مسبقاً، أي أنها تدرك طبيعة عدوّها، وتواجهه بـ"لغة الرصاص" التي يعرفها جيداً وتؤلمه، وهي في ذلك لا تراهن على أي قمة عربية تخرج إلى النور وفق معطيات السياسة العربية الحالية.
غاية ما تراهن عليه المقاومة الفلسطينية في الحقيقة يكمن في 3 أمور، والجامعة العربية ليست ضمنها بالتأكيد:
الأول: الدعم الذي يقدّمه محور المقاومة، سواء عبر الإمدادات التي تصل إلى قطاع غزة ذاته أو عبر الحرب التي يتم شنّها من مختلف ساحات المقاومة من طهران حتى صنعاء مروراً ببغداد ودمشق، وفي القلب جنوب لبنان.
الثاني: الاهتمام العالمي المتصاعد بالقضية الفلسطينية، والذي وصل إلى ذروته في الجامعات الأميركية والأوروبية، إذ أصبح حراك الطلاب الثائرين رفضاً لجرائم الإبادة التي تُرتكب بحق أبناء قطاع غزة عامل ضغط شديد الأهمية على الأنظمة الغربية، ويوشك أن يُحدث تغيّراً كبيراً في تعاطي العالم الغربي عموماً مع فلسطين وقضيتها.
الثالث: أن تواصل الشعوب العربية والإسلامية تشبثها بالقضية الفلسطينية باعتبارها قضيتها المركزية، وأن تعتبر مسألة تحرير كامل التراب الفلسطيني مسألة لا نكوص عنها.
والمؤكد أنّ حالة الفوران الشعبي سيتمخّض عنها ما يغيّر وجه السياسة العربية بأسرها، ولا يجب نسيان أن العقل السياسي للزعيم العربي جمال عبد الناصر تكوّر داخل فلسطين، بل داخل "قضاء غزة" تحديداً في سياق حرب الـ1948.
رغم ما سبق، ما الذي يمكن أن يقدمه اجتماع القادة العرب في البحرين لفلسطين في هذا الظرف التاريخي؟
إذا توافرت الإرادة الجادة لإحداث أثر حقيقي يتعلق بالحرب الدائرة في قطاع غزة، ربما يُفلح في إجبار حكومة الاحتلال على الإحجام عن الدخول إلى رفح، فلدى المجتمعين الكثير من الأوراق التي يمكن توظيفها، علماً بأن هذا السلوك السياسي لا يورّط أياً من العواصم العربية في حربٍ مكشوفة، سواء مع العدو الصهيوني أو العدو الأميركي.
والأهم في هذا السياق أن القمة العربية حينها ستكون قد نجحت في كسب ثقة المواطن العربي، لأنها انحازت إلى قضيته الأبرز، وهي فلسطين، ويمكن طرح عدد من الأوراق التي تملكها العواصم العربية في النقاط الآتية:
أولاً: تجري المفاوضات بين المقاومة الفلسطينية و"إسرائيل" برعاية مصر وقطر. ولدى الدولتين الفرصة خلال القمة القادمة لفضح التعنّت الإسرائيلي الحاصل خلال عمليات التفاوض.
والحقيقة أن "تل أبيب" هي الطرف الذي يتحمّل عبء إفشال فرص التوصل إلى هدنة، وذلك لرفض القادة الإسرائيليين فكرة الخروج من القطاع والعودة إلى الأوضاع ما قبل أكتوبر/تشرين 2023. في المقابل، من غير الوارد أن تقبل المقاومة بتحقيق حلم نتنياهو باسترداد الأسرى مع بقاء "جيش" الاحتلال داخل القطاع.
هنا، أمام القاهرة والدوحة المجال لتوجيه صفعة دبلوماسية إلى العدو الإسرائيلي سيصل صداها إلى العالم أجمع، وخصوصاً في ظل تنامي موجة التعاطف مع القضية الفلسطينية. والمهم هنا أن هذه الإدانة للتزمّت الإسرائيلي ستأتي من أطراف محسوبة على معسكر "الاعتدال العربي".
تلك الورقة، بالمناسبة، لن تورّط العاصمتين العربيتين في تحدياتٍ دولية أو إقليمية من العيار الثقيل أو حتى المتوسط. غاية الأمر أنها ستؤكد لشعوب الشرق الأوسط والعالم ما يعرفه الجميع، وهو أن "إسرائيل" كيان معادٍ للسلام بطبيعته، ويبحث عن تحقيق النصر في ميدان المفاوضات في حال عجزه عن تحقيقه في ميدان العسكرية.
ثانياً: تستطيع العواصم العربية، سواء في شبه الجزيرة العربية أو شمال أفريقيا، والتي تتورط في علاقات دبلوماسية أو تجارية أو ثقافية مع العدو الإسرائيلي، ربط الاستمرار في هذا المسار التطبيعي بسلوك "جيش" الاحتلال داخل قطاع غزة.
ومما يثير العجب هنا هو إصرار الحكومات العربية على نفي أي نية لتعطيل "اتفاقيات السلام" المعقودة مع "إسرائيل"، رغم أن تلك الأخبار تكون محل ترحيب من الرأي العام العربي عامة، والفلسطيني خاصة، ويكون مصدرها في الغالب وسائل إعلام غربية وعبريّة، كما يحدث دوماً عند الإشارة المتكررة إلى وجود تهديدات مصرية لـ"إسرائيل" بإلغاء اتفاقية كامب ديفيد ما لم توقف عمليتها في مدينة رفح.
وجود قرار رسمي صادر عن قمة عربية بهذه الصياغة التصعيدية يتم فيه الربط بين الاستمرار في عملية التطبيع وخروج قوات الاحتلال من قطاع غزة هو أمر كفيل بقلب الموازين داخل "إسرائيل" ذاتها، إذ يحرص الإسرائيليون على توسيع دائرة التطبيع وليس اختزالها.
هذا الخطاب الذي يحتاجه الشارع العربي اليوم لن يورّط المرجفين في حروب يخشونها، إذ إنه لم يمسّ "عملية التطبيع" بحد ذاتها، بل استخدمها كورقة للضغط، كما أنه ينسجم مع موقف أممي بات يصطف ضد "إسرائيل" بسبب عدوانها على غزة أكثر فأكثر بمرور الأيام.
ثالثاً: التلويح بورقة النفط هو مطلب متكرر للشعب العربي طوال عقود مضت، إلا أن المتغير اليوم هو صعود أقطاب دولية جديدة يمكن أن تسند هذه العاصمة الخليجية أو تلك في حال اتخذت مواقف أكثر اتساقاً مع مصالحها القومية وأكثر مفارقة للمزاج الأميركي.
هذا المسلك الذي يأتي في سياق المناكفة مع المصالح المالية للدول الغربية كفيل بإنارة الضوء الأحمر لدى الإدارة الأميركية، وخصوصاً أن واشنطن تستشعر أن دولاً في المنطقة باتت تشق عصا الطاعة تحت وطأة المتغيرات الأممية، وهذا ما تم رصد بشائره في بدايات الحرب الأوكرانية عندما حاولت الإدارة الأميركية الضغط على حلفائها العرب داخل "أوبك" لزيادة الإنتاج، فجاء قرار المنظمة بالعكس.
لا يغفل أحد عن تبعية النظام الإقليمي العربي إلى واشنطن، وهو ما يحدّ من فرص اتخاذ قرار مشابه، إذ يحتاج إلى قيادات وبيئة سياسية بمواصفات خاصة، لكن في الآن ذاته فإن التلويح بالتخلّي عن فكرة "عدم تسييس سلعة النفط" يمكن أن يمثّل أداة ضغط سياسية قبل أن تكون اقتصادية على سلسلة متتابعة من العناصر التي ستنتهي حتماً عند "إسرائيل".
رابعاً: اتخاذ قرارات تُفضي إلى التقارب مع محور المقاومة أو على الأقل تليّن التوتر الذي يخيّم على العلاقات بين بعض العواصم العربية الكبرى وأطراف المحور، وهذا بدوره من المتوقع أن يعطي رسالة تحذير قوية إلى "تل أبيب" وواشنطن.
والمؤكد أن حضور الرئيس السوري بشار الأسد قمة البحرين كثاني قمة تشارك فيها دمشق بعدما استعادت عضويتها المُجمدة في الجامعة هو بارقة أمل ضمن هذا النطاق، فوجود سوريا ضمن أي قمة عربية يُفسح المجال لخطاب المقاومة حتى يتنفس الصعداء، ويتيح للجميع الفرصة لتوقّع الأفضل لفلسطين والعرب عموماً.
وكان حضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الاجتماع الطارئ لمنظمة التعاون الاسلامي في الرياض خلال شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أمراً مبشراً في إطار الفكرة ذاتها، وخصوصاً أنَّ كلمته كانت الأقوى حينها، إذ افتتحها بالسلام على المقاومة والدعوة إلى تسليح الفلسطينيين، واختتمها بإدانة واشنطن الصريحة لإعانتها "إسرائيل"، مذكراً بأن الحل المستدام هو إقامة دولة فلسطينية من البحر إلى النهر.
إذاً، حضور ممثلي المحور ضمن الاجتماعات التي تحصل في العواصم العربية، أياً كان مسماها، تؤدي إلى أمرين:
أ- ترفع سقف الخطاب وتنقله إلى فضاءات أخرى في لحظة فارقة تعيشها القضية الفلسطينية.
ب- تمثل بحد ذاتها عامل ضغط على حكومة الاحتلال التي تخشى انفتاح العواصم العربية على طهران، وانحسار الخطاب الطائفي داخلياً، وتراجع أسباب الانقسام والفرقة بشكل عام.
خامساً: توجيه التحية إلى حركات الاحتجاج العالمية الرافضة للجرائم الإسرائيلية، والتعبير عن ذلك عبر خطاب رسمي مع الإعلان عن خطط واضحة من قبل جامعة الدول العربية لدعم تلك الحركات، على أن يكون ذلك نواة لتأسيس جبهة عالمية تضم الحكومة والمنظمات المؤيدة للحق الفلسطيني.
لا شك في أن عودة القضية الفلسطينية إلى دائرة الضوء الأممية هي أمر يثير استياء "إسرائيل" بشدة، وخصوصاً أنها كانت قد ارتاحت من هذا الشاغل مع انطفاء الحركات الاشتراكية بسقوط الاتحاد السوفياتي وتغيّر المزاج العالمي، لكن الأمور عادت لتشتعل من جديد، فقزت فلسطين إلى صدارة المشهد دولياً.
في حال قرر العرب الاستفادة من تلك الحالة على نحو عملي وجاد، فإن هذا بدوره يمثل عامل ضغط إضافياً على "إسرائيل"، وخصوصاً أنه يعني شدّ الخناق حول عنق نتنياهو، ومن ثمّ إجباره على التروي كثيراً قبل أن يفكر في إزهاق المزيد من الأرواح.