عملية معبر العوجة.. وهشاشة التطبيع بين مصر و"إسرائيل"
طوال العقود الماضية راهن العدو الإسرائيلي على أن يُغيّر الشعب العربي موقفه الرافض للتطبيع، إلا أن جميع الرهانات خابت، وأثبتت الأجيال العربية الجديدة، أنها قابضة على جمر المقاومة وتنادي بزوال الاحتلال.
لم يُستفتَ الشعب المصري قبل أن يتخذ رئيسه الراحل أنور السادات قراره بالذهاب إلى الأراضي المحتلة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1977، كما لم تستعن أي هيئة رسمية برأي المصريين قبل أن يوقع الرئيس ذاته معاهدة السلام مع الحكومة الصهيونية في آذار/مارس 1979، في أعقاب اتفاقية "كامب ديفيد" لعام 1978.
العجيب هنا أن الدولة المصرية في السبعينيات كانت تتباهى في خطابها الرسمي أنها من فتحت الباب لـ"الديمقراطية" و"حرية الرأي" و"تعدد المنابر"، فيما الواقع كان يشير إلى انقلاب كامل على الإرث التحرري والتقدّمي الذي رسخه جمال عبد الناصر، ولتمرير هذه الردّة، تم رفع شعارات ظاهرها "التعددية" بينما باطنها "منع عموم الشعب من ممارسة السياسة وقصرها على الأثرياء ووارثي النفوذ، وفتح المجال العام للسلفية الدينية والمنتفعين من إجراءات الانفتاح الاقتصادي".
مع الأشهر الأولى من عام 1980، دخل تطبيع العلاقات بين مصر و"إسرائيل" حيّز النفاذ، إذ تم تبادل السفراء، كما ألغيت قوانين المقاطعة، وأُبرمت بعض الاتفاقيات التجارية، وإن كانت أقل مما كانت تطمح إليه حكومة الاحتلال. وفي ربيع العام ذاته، تم تدشين رحلات جوية منتظمة بين القاهرة و"تل أبيب".
خلال تلك الفترة الضبابية من تاريخ مصر، استقال ثلاثة وزراء للخارجية هم: إسماعيل فهمي، محمد رياض، محمد إبراهيم كامل؛ رفضاً لأفكار السادات وتوجهاته أو اعتراضاً على طريقة إجرائه المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي.
القوى الشعبية، بدورها، كانت تنتهز الفرصة تلو الأخرى للتعبير عن رفضها لما يجري من تنازلات دبلوماسية، تسهم في تعزيز مكانة "دولة" الاحتلال، في الوقت الذي تخصم فيه من قوة مصر بعزلها عن أمتها العربية.
وكان أشد ما أثار غضب المصريين هو تحجيم حضور الجيش المصري في سيناء، فموجب "معاهدة السلام"، أصبح حضور القوات المصرية محدوداً في ثلثي شبه الجزيرة السيناوية (المنطقتين ب، ج). وكان هذا الأمر كفيلاً بتعطيل عمليات التنمية في سيناء لاحقاً، بالإضافة إلى انتشار القوى السلفية المتطرفة فيها.
عملية معبر العوجة.. وتأييد مصري في مواقع التواصل
طوال العقود الماضية، راهن العدو الإسرائيلي على أن يُغيّر الشعب العربي موقفه الرافض للتطبيع، ولو بالانزياح تجاه القبول خطوة تلو الأخرى بمعدل بطيء، لكن جميع الرهانات خابت، وأثبتت الأجيال العربية الجديدة، التي لم تُعايش نكبة 1948 أو حرب يونيو 1967 أو الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينيات، أنها قابضة على جمر المقاومة وتنادي بزوال الاحتلال واسترداد الأرض المسلوبة.
في صباح السبْت الثالِث من حزيران/يونيو 2023، استفاق المصريون على خبر يقول "إن ثلاثة من جنود الاحتلال قد قتلوا على الحدود عند معبر العوجة، وأن منفذ العملية قد استشهد، وهو مصري الجنسية، ومجند في قطاع الشرطة الذي يتولى تأمين تلك المنطقة". أحدث الخبر ضجة في مواقع التواصل الاجتماعي، ضجة أثبتت معها تهاوي كل الدعوات الرامية إلى تصعيد التطبيع بين مصر و"إسرائيل"، وأكدت أن الشعب المصري ثابت على موقفه الرافض للوجود الصهيوني، بالضبط كما هو الموقف في الأقطار العربية كافة.
يقول الإعلام الإسرائيلي إن شرطياً مصرياً مسلحاً قد عبر إلى داخل الأراضي المحتلة في المنطقة الحدودية بين جبل حريف وجبل ساغي في منطقة لواء باران عند معبر العوجة الحدودي «نيتسانا»، ثم قام بإطلاق النار على جنود تأمين من قوة "جيش" الاحتلال، ما أدى إلى مقتل جندي وجندية من «كتيبة الفهد». وبعد بضع ساعات، بدأت عمليات المسح وعند العثور على الشرطي المصري، نشأ تبادل عنيف لإطلاق النار، أسفر عن استشهاد الشرطي المصري وقتل جندي إسرائيلي آخر وجرح ضابط.
أما البيانات الرسمية المصرية، فأشارت إلى أن أحد عناصر الأمن المصري المكلّفة بتأمين خط الحدود الدولية قد قام بمطاردة عناصر تهريب المخدرات، وأثناء المطاردة اخترق فرد الأمن حاجز التأمين، ثم تبادل إطلاق النيران ما أدى إلى وفاة 3 من عناصر التأمين الإسرائيلية وإصابة 2 آخرين، بالإضافة إلى وفاة فرد التأمين المصري.
ثمة تباين واضح في الرواية المصرية ونظيرتها الإسرائيلية، لكن هذا الأمر - الخاضع لاعتبارات دبلوماسية على الأغلب- لم يُثر اهتمام الرأي العام المصري، بل ركز عموم المصريين على العملية ذاتها، وأحصوا بدقة عدد جنود الاحتلال الذين تم قتلهم، ثم بدأوا في نعي الشهيد المصري والتهليل للعملية البطولية التي آلمت العدو الإسرائيلي، فأسعدتهم.
على درب سليمان خاطر وأيمن حسن
الاحتفاء الشعبي المصري الواسع بعملية معبر العوجة، دفع رواد مواقع التواصل إلى استذكار العمليات المشابهة التي نفذها مجندون مصريون ضد "جيش" الاحتلال، وانتشرت الوسوم التي تحمل اسم #سليمان_خاطر و #أيمن_حسن.
ففي عام 1985، أي قبل نحو 38 عاماً، بالقرب من منتجع رأس برقة في منطقة نويبع بمحافظة جنوب سيناء، قام المجند المصري سليمان خاطر بإطلاق النيران على مجموعة من الإسرائيليين، ما أسفر عن مقتل سبعة منهم، ثم قام بتسليم نفسه لقيادته، فخضع لمحاكمة عسكرية حكمت عليه بالأشغال الشاقة لمدة 25 عاماً. وبتاريخ 7 كانون الثاني/ يناير 1986، أعلنت الصحافة المصرية خبر وفاة سليمان خاطر، ما أثار موجة جدل بخصوص ظروف الوفاة.
بعد وفاة خاطر بنحو أربعة أعوام، قام مجند مصري آخر، هو أيمن حسن، باجتياز الحدود في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 1990، وهاجم عدة مركبات تابعة لـ"جيش" الاحتلال عند معبر عين نطفيم شمال غرب إيلات، ما أسفر عن مقتل عدد من جنود الاحتلال وضباطه.
حسب رواية حسن، فقد نفذ هجومه رداً على الإساءة للعلم المصري، وكذلك بسبب قيام السلطات الإسرائيلية بتنفيذ مذبحة المسجد الأقصى الأولى. لاحقاً، حُكم على المجند المصري بالسجن لمدة 12 عاماً بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار، وبعد خروجه من السجن في عام 2000 تزوج من ابنة خاله وأنجب ثلاثة أبناء محمد وفارس وندى.
وقد حظي أيمن حسن بتكريم شعبي واسع عقب الثورة المصرية في عام 2011، كما ألقت وسائل الإعلام الضوء على سيرة سليمان خاطر وظروف وفاته المثيرة للتساؤلات.
هشاشة التطبيع وضعف "جيش" الاحتلال
لا جدال أن المسؤولين المصريين والإسرائيليين سيسعون لاحتواء الأزمة، وسيعملون على تخطي ما حدث عند معبر العوجة (نيتسانا)، وذلك بهدف الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية والتجارية، خاصة أن المنطقة تمر بمرحلة توترات شديدة للغاية، ولا أحد يريد فتح جبهات جديدة للتوتر والخلاف.
وقد أكد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، أن "الحادث على الحدود مع مصر عابر، ولن يؤثر في التعاون المشترك بين البلدين".
ومن الجانب المصري، قام وزير الدفاع، الفريق أول محمد زكي، بإجراء اتصال هاتفي بوزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت.
وقال المتحدث العسكري للقوات المسلحة المصرية، إن الوزيرين بحثا خلال الاتصال ملابسات الحادث، إلى جانب تقديم واجب العزاء في ضحايا الحادث من الجانبين، والتنسيق المشترك لاتخاذ ما يلزم من إجراءات لمنع تكرار مثل هذه الحوادث مستقبلاً.
بعيداً من المواقف الرسمية، فقد كشفت العملية الأخيرة عن عدة أمور، يمكن رصدها في النقاط الآتية:
أولاً، ضعف "جيش" الاحتلال، وإمكانية اختراقه والقدرة على إحداث الإصابات بين جنوده. وهذا بعكس ما يحاول الإعلام الإسرائيلي والغربي ترسيخه في أذهان عموم العرب، حول القدرات الفائقة لـ"جيش" الاحتلال، والتي يصعب التصدي لها أو مقاومتها.
ثانياً، تآكل معدلات الأمان داخل "إسرائيل"، خاصة أن كيان الاحتلال يواجه ضربات وخروقات من مختلف الجبهات. حتى على المستوى الداخلي فثمة تظاهرات مستمرة إلى اليوم ضد الحكومة على خلفية مخططات الإصلاح القضائي.
ثالثاً، الموقف الشعبي المصري الرافض للوجود الصهيوني على الأراضي الفلسطينية المحتلة، والداعم لأي عملية مسلحة تسهم في إيلام "جيش" الاحتلال وإرباكه وإضعاف صورته أمام الرأي العام العربي.
رابعاً، قدرة الناشطين العرب على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم المؤيدة للقضية الفلسطينية والرافضة للوجود الإسرائيلي، وذلك رغم المحظورات التي يفرضها موقع "فيس بوك"، ورغم محاولات اختراق الرأي العام العربي من خلال الصفحات الإسرائيلية الناطقة بالعربية، مثل (أفيخاي أدرعي، وإسرائيل تتكلم بالعربية).
خامساً، الإجماع على رفض الممارسات الإسرائيلية من مختلف التيارات السياسية داخل مصر ومختلف الأقطار العربية، والسبب يعود إلى رغبة النخبة السياسية في كسب رضى القوى الشعبية التي تؤكد في كل اختبار رفضها للتطبيع ودعمها للعمل المقاوم، وخاصة في نسخته المسلحة.