عام وأكثر على الحرب الأوكرانية: الشارع العربي ما زال ظهيراً لبوتين

تراجع التركيز الأميركي على منطقة الشرق الأوسط، عكس ما كانت الحال لعقود عديدة مضت منذ الحرب العالمية الثانية، سواء أكان الأمر يعود إلى ضعف إدارة جو بايدن أو كثافة التحديات العالمية.

  • عام وأكثر على الحرب الأوكرانية: الشارع العربي ما زال ظهيراً لبوتين
    عام وأكثر على الحرب الأوكرانية: الشارع العربي ما زال ظهيراً لبوتين

فيما يبدو كأنه موقف مشترك بين العديد من شعوب العالم الثالث، فإن كثيرين من المنتمين إلى الطبقات الشعبية في الوطن العربي يواصلون دعمهم لفلاديمير بوتين في حربه التي يخوضها للعام الثاني داخل الأراضي الأوكرانية، وذلك في مواجهة الميليشيات النازية المتطرفة التي تستقبل دعماً غير محدود من دول حلف شمال الأطلسي بزعامة الولايات المتحدة.

يرى باحثون في السياسة الدولية، أن شعوب الجنوب والدول الأفقر، ومنذ سقوط الاتحاد السوفياتي، كانت تترقب ظهور "البطل الاستثناء" الذي يمكن له التمرد على المُثل الأميركية وشق عصا الطاعة، وعندما ظهر بوتين على الساحة الدولية، مُسلّحاً بحزمة من الأفكار تقوم على مبدأين، الأول: الإخلاص الشديد لروسيا كأُمّة، والثاني: معاداة الهيمنة الأميركية، كان مؤهلًا لتأدية ذلك الدور، خاصة أنه جاء كخليفة للزعيم الروسي الضعيف، بوريس يلتسين.

تدرك موسكو أن نصف مكانتها العالمية مكتسبة مما تمثله من خيارات مناهضة للهيمنة الغربية، وأن العديد من حكومات العالم وشعوبه تراهن دوماً على أن روسيا تملك من الإمكانات ما يؤهلها لتحجيم التمدد الأميركي ولعب دور البديل الآمن. ورغم خطاب "الواقعية السياسية" الذي ينزع عن الدور الروسي الثياب الملائكيّة، باعتبار أنه لا يتخطى كونه مشروعاً "إمبراطورياً" في مقابل نظيره الغربي، فإن الردّ دوماً يتلخّص، ببساطة، في أن تدافع الأقوياء والمنافسة القطبية، أمر صحّي للجميع، ويضمن للأطراف الأضعف مزيداً من الاستقلالية وحرية القرار.

على المستوى العربي، يملك الكثيرون حنيناً للدور السوفياتي، باعتباره كان الرافعة لمشروعات التنمية والاستقلال التي حاولت الجمهوريات العربية تحقيقها في النصف الثاني من القرن العشرين، وفي العقد الأخير كان لروسيا الدور المحوري في دعم الجيوش العربية، لا سيما في سوريا، للتصدي للتنظيمات التكفيرية المتطرفة، التي كانت تؤدي مهمات مدفوعة الأجر لمصلحة مشاريع التفكيك والهيمنة.

ولم يتأثر تأييد القطاعات الشعبية العربية للدور الروسي في شقّه السوفياتي أو البوتيني، سوى بالدعاية السلبية، التي قام عليها عدد من رجال الدين المنتمين إلى تنظيم الإخوان أو الجماعات السلفية، إذ سعوا في جميع الأحوال لتوظيف الانتماءات الدينية (والشعارات الإنسانية المزيفة)، لوضع المزاج الشعبي في الاتجاه المعاكس لمسار القطار الروسي، وكان هذا بارزاً للغاية في التجربة الأفغانية في الثمانينيات، والتجربة السورية في السنوات الماضية.

لكنّ روسيا التي تغلّبت بالتحالف مع دمشق وطهران على دعاية "السلفيين الجهاديين" وبنادقهم، عكس ما كانت حالها في أفغانستان، استطاعت أن تجد طريقها إلى عقل المواطن العربي ووجدانه، وهذا ما كشفت عنه معدّلات التأييد المرتفعة لقرار بوتين دخول الأراضي الأوكرانية في شباط/فبراير 2022، والذي ما زال قائماً إلى اليوم.

فعندما بدأت الحرب، كان ثمة إيمان أكثر بالحاجة إلى عالم متعدد الأقطاب. وقد تعززت وجهة النظر القائلة بأن روسيا تحارب الغرب نيابة عن كل أولئك الذين لا يحبون الولايات المتحدة، كما سادت حقيقة أن الجيش الروسي يخوض معركةً مع كل حلف شمال الأطلسي وليس فقط مع أوكرانيا.

الانسحاب الأميركي من المنطقة.. والصعود الروسي

تراجع التركيز الأميركي على منطقة الشرق الأوسط، عكس ما كانت الحال لعقود عديدة مضت منذ الحرب العالمية الثانية، سواء أكان الأمر يعود إلى ضعف إدارة جو بايدن أو كثافة التحديات العالمية، فإن العالم -ببساطة-قد تغيّر، وأصبحت الطريقة التي أدارت بها واشنطن أمورها مع هذا الحيّز الجغرافي سواء في عهد جورج بوش الأب (حرب الخليج الثانية) أو جورج بوش الابن (غزو أفغانستان والعراق)، ضرباً من الخيال.

في بداية الحرب الأوكرانية، قالت مديرة برنامج الشرق الأوسط في مركز "ويلسون" بواشنطن، ميريسا كورما: "إن حضور الولايات المتحدة يتراجع في المنطقة، والعديد من البلدان العربية تسعى لوضع بيضها في سلال مختلفة، وهذا يشمل روسيا بالتأكيد".

كما ذكرت منسقة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي، كيلي بيتيلو، أن أغلب حكومات المنطقة العربية تتمتع بعلاقات أقوى مع الولايات المتحدة، لكنّ روسيا أصبحت شريكاً تجارياً وعسكرياً بالغ الأهمية، وهي تكسب أرضاً جديدة بشكل متزايد.

هذه الرؤية تؤكد أن تنامي التأييد العربي لموسكو، ليس أمراً شعبياً محضاً، يأخذ خطاً متبايناً عن توجّه العديد من حكومات المنطقة، بل على العكس، فإن ثمة العديد من الدلالات التي تؤكد انفتاح المنطقة برمتها على خيارات غير غربية بالمرة. حتى حلفاء واشنطن التقليديين في شبه الجزيرة العربية، صاروا اليوم أقرب إلى طهران وبكين وموسكو.

يقول فابريس بالانش، الزميل المساعد في معهد واشنطن: "لقد أظهرت روسيا قوة صارمة في المعارك العسكرية والدبلوماسية في سوريا، والعالم العربي يقدّر القوة ويحترم من يُخلص إلى حلفائه".

إذن، تعتقد الدول العربية اليوم أن عواصم الغرب ليست قوية مثل موسكو، والقوة هنا لا تعني الشق العسكري وحده، بل تشمل أيضاً القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة وتحمّل كُلفتها، وبالتالي لم تعد الدول العربية تتحسّب من غضب الولايات المتحدة وحلفائها، وإذا لزم الأمر يمكنها اللجوء إلى المعسكر المناوئ.

حكومة الاحتلال الصهيوني ذاتها، صارت تجتهد لإثبات حسن نواياها تجاه موسكو، وتسعى للإفلات من ضغط الأميركيين الذين يحثّون "تل أبيب" على اتخاذ خطوات وإجراءات أعمق في اتجاه تأييد كييف ودعمها.

إطالة أمد الحرب والآثار الاقتصادية السلبية

في الأسابيع الأولى من انطلاق المعارك في أوكرانيا، ذكرت دراسة مسحية أن الشباب في الدول العربية ينجذبون إلى روسيا أكثر من الولايات المتحدة، إذ وصف 70 ٪ روسيا بأنها دولة حليفة للعرب، وأنها تدافع عن نفسها بكفاءة في وجه خصومها الغربيين.

واعتمد تأييد الشباب، الذين يمثلون غالبية سكان الدول العربية، لروسيا على النقاط الآتية:

أولاً، النظرة السلبية لواشنطن وحلفائها الأوروبيين، باعتبار أن سياساتهم استعمارية قائمة على التدخل في شؤون الآخرين والهيمنة عليهم.
ثانياً، سابقة أعمال فلاديمير بوتين في الشيشان وجورجيا وسوريا والقرم، والتي تدل على أنه قادر على تحقيق انتصار جديد.
ثالثاً، حاجة السياسة الدولية إلى "تغيير دماء" تسمح بتنحية الولايات المتحدة عن كرسي قيادة العالم.
رابعاً، الوعي بالاستفزاز الجيوسياسي الذي يمثله انضمام أوكرانيا إلى حلف "الناتو"، وكذلك إدراك حجم الانتهاكات التي قام بها القوميون الأوكرانيون المتطرفون ضد أبناء بلدتهم المؤيدين للتعاون مع موسكو.

ورغم أن المستويات المختلفة للتأييد العربي للموقف الروسي لا تزال قائمة، فإنها قد تأثرت بعاملين:

العامل الأول، وهو طول مدة الحرب عكس ما كان متوقعاً، فقد كانت التصورات كلها تدور حول سقوط قريب لكييف، وصعود نظام حليف لموسكو بديلاً من نظام زيلينسكي؛ وقد أدى هذا الأمر إلى إصابة عدد من مؤيدي روسيا بالإحباط، كما سمح لوسائل الإعلام الغربية بالتشكيك في الكفاءات الروسية، ووصف البوتينيّة بـ"الفقاعة" التي أوشكت على الانكشاف!.

العامل الثاني، هو الآثار الاقتصادية السلبية للحرب، إذ لم تهدد المعارك الدائرة في أوكرانيا استقرار أوروبا وحدها، بل أثرت في أمن الغذاء والطاقة على مستوى العالم بما في ذلك الدول العربية، ما أوجد موجات من الصدمة في عالمٍ لم يكن قد تعافى بعد من جائحة كوفيد 19، وقد انعكس ذلك بدرجة أو أخرى على معدلات الحماس التي انتابت الشارع العربي في بداية الحرب.

وتدرك دول حلف "الناتو" أن نجاحها في إلحاق هزيمة بالروس في أوكرانيا، هو أمر تتخطى آثاره الحسابات العسكرية الضيّقة، وتمتد إلى حقول عمل جيواستراتيجية، فبهزيمة موسكو في الحرب، تضمن واشنطن وحلفاؤها السيادة على العالم، ويكون قد تم تقليص وزن روسيا دولياً وإذلالها أمام أعين المراهنين عليها، ناهيك باستنزاف الاقتصاد الروسي بفعل العقوبات والعزلة، بما يعني تأليب الرأي العام الداخلي، وهزّ أركان نظام بوتين.

ويجتهد الإعلام الروسي لتوضيح حقائق ما يجري على الأراضي الأوكرانية، والتحديات التي يواجهها الجيش هناك، والكشف عن حجم التدخلات الغربية بالمعارك، وقد ساهم هذا النوع من التغطيات الإعلامية في الحفاظ على معدّلات التأييد العربي لروسيا مرتفعة كما هي طوال الشهور الماضية، وإن كان الحصار الذي فرضه عدد من محركات البحث ومواقع التواصل على وسائل الإعلام الروسية قد أثّر في نسبة وصولها إلى المتابعين العرب، هذا بالإضافة إلى عدم جاذبيّة المحتوى الإعلامي الروسي في بعض الأحيان، على العكس من وسائل الإعلام الغربية التي تبذل جهداً مضاعفاً لشيطنة السلطات الروسية ونشاطاتها الخارجية.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.