زيادة ميزانية الدفاع الصينية.. سباق تسلح أم مخاوف أمنية؟

يبدو أنَّ الولايات المتحدة بدأت بالتفكير الفعلي في استنساخ الحرب الأوكرانية في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتحديداً في تايوان، بهدف استنزاف الصين ومنعها من تحقيق مخططها في أن تكون الاقتصاد الأول في العالم.

  • زيادة ميزانية الدفاع الصينية.. سباق تسلح أم مخاوف أمنية؟
    زيادة ميزانية الدفاع الصينية.. سباق تسلح أم مخاوف أمنية؟

لم يكن قرار الحكومة الصينية رفع موازنتها الدفاعية بمقدار 7.1% قراراً تصعيدياً هدفه التحدي، بقدر ما كان استجابة لتغيرات أمنية فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية على بكين.

لقد جاء هذا القرار، وفقاً للحكومة الصينية، بعد دراسة واقعية للتحديات الجديدة التي تواجهها بكين، وفي مقدمتها الوضع في تايوان، وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والتهديدات الأميركية المتزايدة التي تستهدف تطويق الصين بمجموعة من التحالفات العسكرية، مثل "أوكوس" و"كواد" وغيرهما، وأخيراً المناورات المنتظرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية في الأيام القليلة المقبلة.

هذا القرار لم يكن مفاجئاً، وخصوصاً أن العالم يشهد سباقاً بين جميع الدول تقريباً على التسلح، وهو ما يشكل استنزافاً لاقتصادات تلك الدول، في ظل ما تعانيه نتيجة تبعات الحرب في أوكرانيا، التي وصلت انعكاساتها الاقتصادية إلى جميع دول العالم، وخصوصاً أن هذه الحرب جاءت في الوقت الذي لم تستطع تلك الاقتصادات التعافي من التبعات الاقتصادية لفيروس كورونا وما سببه من ضغوطات كبيرة على الاقتصاد العالمي كله.

ويبقى السؤال المهم والتحدي الكبير أمام الحكومة الصينية يتعلق بتأثير هذا القرار في عملية التنمية في البلاد، وخصوصاً أن بكين تسعى لتحقيق نمو يصل إلى 5% هذا العام.

الخشية من استنساخ الحرب الأوكرانية

منذ بداية الحرب في أوكرانيا، حرصت بكين على رفض المقارنة بين تايوان وأوكرانيا، انطلاقاً من أن الأخيرة دولة مستقلة وذات سيادة وعضو في الأمم المتحدة. أما تايوان، فهي جزء من الأراضي الصينية انفصل عنها نتيجة ظروف داخلية معينة، وهذا الجزء سيعود إلى الوطن الأم عاجلاً أم آجلاً.

ولعلَّ ما زاد حدة القلق حينها أنَّ أوّل من ربط بين ما يحدث في أوكرانيا وما سيحدث في تايوان هو رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون، حين قال إن ما يحدث في أوكرانيا سنسمع صداه في تايوان.

قلق بكين نابع ربما من مكر السياسة البريطانية وخبثها، وهو ما عانته الصين، مثلها مثل العديد من دول العالم التي رزحت تحت الاحتلال البريطاني، وكان نصيب الصين منها حرب الأفيون السيئة الصيت التي جعلت من الشعب الصيني، وبالإكراه، شعباً مدمناً على تعاطي الأفيون لرفضه الانصياع حينها إلى المطالب البريطانية.

وما يزيد أيضاً هذا القلق أن بوريس جونسون هو أقوى المرشحين اليوم لرئاسة حلف شمال الأطلسي، وهو المنادي بضرورة انضمام أوكرانيا إلى الحلف، وأنَّ على الأخير التدخل بقوة لردع أعدائه.

ويبدو أنَّ الولايات المتحدة بدأت بالتفكير الفعلي في استنساخ الحرب الأوكرانية في منطقة بحر الصين الجنوبي، وتحديداً في تايوان، بهدف استنزاف الصين ومنعها من تحقيق مخططها الإستراتيجي في أن تكون الاقتصاد الأول في العالم في السنوات القليلة المقبلة.

إن الانبهار العالمي بـ"النموذج الصيني" يثير حفيظة الولايات المتحدة الأميركية، وهذا أمر منطقي، فمن حق أميركا أن تقلق وهي ترى بكين تهز عرشها وسيطرتها على النظام العالمي.

بكين التي تتقدم بخطى ثابتة وواثقة، رغم تعثرها أحياناً، وهو ما لا تخفيه الحكومة الصينية، بل تعترف به وتأخذ منه العبر والدروس، تتقدم، ولا تريد لأي عائق أن يمنعها من تحقيق هدفها الأساسي المرسوم، وهو الوصول إلى قمة الهرم الاقتصادي العالمي، وتنفيذ مشروع "الحزام والطريق" الذي يعد أضخم مشروع عرفته البشرية.

من هنا، حذرت بكين مراراً وحاولت الابتعاد عن الانخراط في سباق التسلح، رغبةً منها في التركيز على التنمية وتحصين الذات وتعزيز مناعتها الاقتصادية التي ستنعكس بشكل كبير على تعزيز مناعتها الإستراتيجية وتقوّيها.

إنَّ الرفض الصيني لفكرة سباق التسلح نابع أيضاً من مقاربة الدرس السوفياتي الذي لا يزال حاضراً في ذهن صانع القرار في الصين، حين تم استنزاف الاتحاد السوفياتي اقتصادياً عبر جره إلى الانخراط في سباق تسلح مع الولايات المتحدة الأميركية، أدّى إلى استنزاف قوته الاقتصادية، ومن ثم تفكيكه. وتدرك بكين أن اندلاع الحرب العالمية الأولى كان نتيجة لسباق التسلح، وكذلك أدى سباق التسلح إلى قيام الحرب العالمية الثانية.

وإمعاناً من الولايات المتحدة في استفزاز الصين، فقد شهدت منطقة بحر الصين الجنوبي تصعيداً كبيراً خلال الأشهر الماضية، تمثل في قيام الولايات المتحدة الأميركية بالمضي في تقديم المزيد من الدعم العسكري لتايوان، ودفع اليابان وتشجيعها على زيادة موازنتها العسكرية، والاستعداد لتحويل قوتها إلى قوة هجومية تكون قادرة على التدخل والوقوف في وجه "التهديدات الصينية".

وقد جاء أخطر تهديد عبر تزويدها كوريا الجنوبية بصواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية، والاستعداد للبدء بمناورات مشتركة بين البلدين خلال الأيام المقبلة من المقرر أن تستمر 10 أيام.

صحيح أن هذه المناورات ليست هي الأولى بين واشنطن وسيؤول؛ فمنذ العام 2011، تُجرى مناورات مشتركة بين البلدين، وبشكل دوري، لكن الجديد هو ضخامة هذه المناورات ومحاكاتها استخدام الأسلحة النووية ضد كوريا الشمالية، وربما الصين.

تأتي هذه المناورات وقد تطورت العلاقات كثيراً بين البلدين، وخصوصاً أن الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يول كان قد تعهد خلال حملته الانتخابية تعزيز التقارب بين بلاده وكل من الولايات المتحدة واليابان، والعمل معهما لمواجهة كل من كوريا الشمالية والصين.

جاءت هذه المناورات رد فعل أيضاً على التجارب الصاروخية التي نفذتها كوريا الشمالية بدءاً من العام 2022، بعد توقف استمر نحو 5 سنوات؛ فمنذ العام 2017، وبعد الحوارات التي جرت بين الرئيس ترامب والزعيم الكوري كيم جونغ أون، توصل الرجلان إلى اتفاق لوقف التجارب النووية التي تقوم بها بيونغ يانغ.

لقد شكّلت التجربة الصاروخية الأخيرة التي نفذتها بيونغ يانغ نقلة نوعية في استعراض القوة، وهي مختلفة تماماً عن التجربة التي أجرتها في شهر أيار/مايو الماضي، إذ سقط الصاروخ حينها قبيل وصوله إلى اليابان، أي في المياه الإقليمية بين اليابان وكوريا الشمالية.

لكن التجربة الأخيرة نجحت في استخدام صاروخ متوسط المدى يصل مداه إلى 4500 كم. وقد استطاع اجتياز اليابان والسقوط في المياه الإقليمية خلفها خلال 22 دقيقة، بمعنى أن سرعته بلغت 17 ضعفاً من سرعة الصوت، ما يعني أن القوات الأميركية الواقعة في جزيرة غوام أصبحت تحت مرمى الصواريخ الكورية، وهو ما يشكل نقلة نوعية في الصراع بين البلدين، إذ إن هذه الجزيرة تقع في القسم الغربي من المحيط الهادئ على بعد نحو 3500 كلم من كوريا الشمالية، وهي أبرز جزر أرخبيل الماريان.

وتعد الجزيرة موقعاً إستراتيجياً للقوات الأميركية التي تنشر فيها نحو 6 آلاف جندي في قاعدتين جوية وبحرية، وهي تؤوي منشآت أميركية إستراتيجية من قاذفات ثقيلة بعيدة المدى ومقاتلات وغواصات تشارك بانتظام في تدريبات ومناورات في شبه الجزيرة الكورية والمناطق المجاورة لها، وهو ما يثير غضب بيونغ يانغ.

المهم في ما يجري في منطقة بحر الصين هو الرسائل السياسية التي تحاول جميع الأطراف تمريرها، فالولايات المتحدة تريد "طمأنة الحلفاء" وتأكيد دعمها لحلفائها في المنطقة، وخصوصاً في ظل عدم الرضا عن موقفها في أوكرانيا، إذ يرى هؤلاء أن الموقف الأميركي اقتصر على الدعم بالسلاح، وبشكل متقطع، وأن الولايات المتحدة ولم تقم بما هو مطلوب منها في تقديم الأسلحة النوعية لكييف منذ البداية، كما أنها اكتفت بالدعم دون التدخل والدفاع المباشر عن أوكرانيا، رغم أن كييف أهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة والغرب عموماً من تايوان أو أي دولة آسيوية، لاعتبارات كثيرة.

أما كوريا الشمالية، فإنها تريد القول إنها موجودة وقادرة على تهديد الوجود الأميركي في المنطقة، وأن صواريخها ستطال جميع الدول المتحالفة مع أميركا، بما فيها اليابان وكوريا الجنوبية، وهي تؤكد وجودها كحليف قوي لروسيا، سيكون قادراً على دعمها إذا ما ازداد الضغط الغربي عليها.

أما الصين، فتحرص دوماً على إيصال رسائلها السياسية بصمت وحكمة، فهي تريد القول للولايات المتحدة أن لا غنى لها عن التعاون مع بكين للتواصل مع كوريا الشمالية وإيجاد حل لبرنامجها النووي.

كما أنَّها قد تشكّل بيضة القبان في تطورات الحرب الأوكرانية إذا ما أعلنت صراحة وقوفها إلى جانب روسيا في هذه الحرب؛ هذا الموقف الذي لا ترغب بكين في الوصول إليه. لذلك، تعمل على تلافي الضغوطات الأميركية عليها.

وتبقى الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى موسكو، التي من المتوقع أن تجري خلال الشهرين المقبلين، زيارة حاسمة في تحديد موقف الصين من الحرب في أوكرانيا، وقدرتها على الاستمرار في مسك العصا من المنتصف أم أنها ستجد نفسها مضطرة إلى الوقوف خلف موسكو ودعمها، وبشكل علني، نتيجة للضغوط والتهديدات الأميركية على بكين.

كما أنَّ توقيت الزيارة سيكون مهماً جداً، وخصوصاً إذا ما تمت خلال شهر أيار/مايو، لمشاركة الروس في الاحتفال بذكرى الانتصار على النازية الذي يصادف في التاسع من هذا الشهر في كل عام.

وختاماً، فإن بكين، ورغم زيادة موازنتها الدفاعية، تعمل على تجنب الانخراط في سباق التسلح الجاري في العالم، وهدفها يتمحور حول فكرة أن "الاستعداد للحرب يمنع الحرب"، وأنها ستكون الرابح في أي معركة تخوضها دفاعاً عن وحدة أراضيها وسلامتها.