رهانات اقتصادية عالية في الصراع الصيني الأميركي
ظلَّت السلعة الصينية هي الأهم في السوق الأميركية، على الرغم من حملة زيادة الاستيراد من دولٍ بديلة للصين. وقد انخفضت الصادرات الصينية عام 2018، لتعود للارتفاع عام 2021، وتبقى الصين المصدِّر الأكبر إلى السوق الأميركية.
بدأ سباقاً، ثم أصبح نزاعاً تجارياً، ولم يلبث أن تحول إلى صراعٍ سياسيٍ مفتوح، ولا سيما بعد أزمة أوكرانيا. إنه الصراع الصيني الأميركي الذي يهدد بالانتقال إلى الميدان العسكري براً وبحراً على ضفاف مضيق تايوان، لكن بصرف النظر عما يحدث في بحر الصين الجنوبي، وهو ليس شأناً صغيراً بذاته، فإن الصراع الصيني الأميركي بدأ قبل تايوان، وسيتصاعد بعده، لأن تايوان ليست إلا أحد أبعاده، غير أنَّ هذا الصراع يبقى محكوماً بضوابط اقتصادية لا فكاك منها في المدى المنظور، وروابط روسيا اقتصادياً مع أوروبا ليست سوى نموذجٍ مصغرٍ منها.
من جهة، إنه صراعٌ لا مناص من خوضه بعد أن ازداد وزن الصين وحجمها وباتت الهيمنة الأميركية على العالم على المحك، ما أسهم في تغيير موازين القوى العالمية، وشكّل جرحاً وجودياً لنرجسية "الاستثنائية الأميركية"، الأمر الذي لا يسع الولايات المتحدة الأميركية أن تشاهده ببلادة مكتوفة اليدين.
ثمة تحول في ميزان القوى العالمي إذاً ليس في المصلحة الأميركية، ما راح يدفع الولايات المتحدة دفعاً إلى اتخاذ خطواتٍ تصعيدية، يشبه معظمها تكتيكات قطاع الطرق، لا تترك للصين مجالاً لتجاهلها.
صراع حاد يقيده تشابك المصالح الاقتصادية
من جهةٍ أخرى، هو صراعٌ يختلف نوعياً عما دار بين المنظومتين الاشتراكية والرأسمالية، لأن السنوات الأخيرة أظهرت حقيقتين متناقضتين ومتلازمتين في آنٍ واحد: الأولى أن الصين حققت قفزات دفعتها إلى المقدمة، وأهّلتها لتجاوزِ الولايات المتحدة، حتى تكنولوجياً، وذلك بعد أن أصبح حجم الاقتصاد الصيني موازياً للاقتصاد الأميركي منذ عام 2017 على الأقل بمقياس معادل القوة الشرائية، ليفوقه حجماً بعدها.
أما الحقيقة الأخرى، النقيضة والمتلازمة، التي أبرزتها السنوات الأخيرة، فهي مدى الترابط بين الاقتصاد الصيني من جهة، واقتصادات المنظومة الغربية من جهةٍ أخرى، ولا سيما الاقتصاد الأميركي، حتى في خضم تصاعد المنافسة، ثم الصراع المفتوح بين الطرفين، كما يؤكد مثلاً تقرير منشور في موقع معهد "بروكيغنز" الأميركي في 12/8/2021.
إنَّ تشابك هاتين الظاهرتين عضوياً ينبثق من امتلاك الصين استراتيجيات اشتباك عالمية مرنة وفعالة، إذ إنَّ مشروع نهوضها القومي أنجِز في معمعان التفاعل المكثف مع منظومة العولمة الرأسمالية فعلياً، من دون الذوبان فيها حضارياً أو سياسياً أو ثقافياً أو حتى اقتصادياً. لذلك، باتت الظاهرتان بعدين لظاهرة واحدة في المحصلة هي الصعود الصيني.
من مظاهر التشابك الاقتصادي الصيني الأميركي
لقد خرجت حدة الصراع الصيني الأميركي إلى العلن، وباتت وسائل الإعلام تغطيها يومياً. أما عمق الترابط الاقتصادي الصيني الأميركي، فقد جرت الإشارة إليه في عدة مواد في الميادين نت خلال الأشهر الفائتة، ومن ذلك مثلاً:
1) حجم التبادل التجاري بين الطرفين، إذ إنَّ الصين هي الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة الأميركية. وقد صدّرت إلى الولايات المتحدة، بحسب آخر تحديث لمكتب الإحصاءات الأميركي US Census Bureau، أكثر من 506 مليارات دولار من السلع عام 2021، فيما استوردت الصين أكثر من 151 مليار دولار من السلع الأميركية في العام ذاته.
هكذا أنتجت سلسلةٌ طويلةٌ من الفوائض التجارية الصينية مع الولايات المتحدة (وغيرها) زياداتٍ مطردةً في احتياطيات الصين من العملة الصعبة، لأن فائض ميزان المدفوعات يتحول إلى احتياطيات، والعجز يتحول إلى دين خارجي بالعملة الصعبة طبعاً، والصين طبعاً أكبر مالك للعملة الصعبة عالمياً بقيمة 3.48 تريليون دولار، بحسب إحصاءات حزيران/يونيو 2022، وهذا أحد أهم عناصر قوة الصين المستهدفة أميركياً.
2) حجم الترابط المالي بين الطرفين، إذ إنَّ البنك المركزي الصيني هو ثاني أكبر مالك غير أميركي عالمياً، بعد اليابان، لسندات الدين الأميركية بقيمة تزيد على تريليون دولار على الأقل، أي أن الولايات المتحدة الأميركية مدينة للصين بذلك المقدار، وتدفع فوائد للصين عليه. وسبقت الإشارة في مادة "معدلات الفائدة الأميركية كرافعة للهيمنة العالمية"، في الميادين نت في 10/5/22، إلى أنَّ رفع معدلات الفائدة الأميركية يقلل قيمة السندات الأميركية، ويقلل تالياً قيمة المخزون الصيني من السندات وأذونات الخزينة الأميركية.
لاقى السعي الأميركي لتقليص الفائض التجاري الصيني المزمن مع الولايات المتحدة بعض النجاح في البداية، ثم عاد للارتفاع عام 2021، على الرغم من حرب إدارة ترامب على المنتجات الصينية، والتي أسفرت عن فرض جمارك تزيد على 21% على أكثر من ثلثي الصادرات الصينية إلى السوق الأميركية، قابلتها إجراءات صينية انتقامية على الواردات الأميركية (الأصغر حجماً) إلى الصين.
ظلَّت السلعة الصينية هي الأهم في السوق الأميركية، على الرغم من حملة زيادة الاستيراد من دولٍ بديلة للصين. وقد انخفضت الصادرات الصينية من أكثر من 538 مليار دولار عام 2018، إلى 449 مليار دولار عام 2019، ثم إلى 432 ملياراً عام 2020، بفعل أزمة كوفيد 19 وتباطؤ سلاسل الإمداد، لتعود الصادرات الصينية للارتفاع إلى 506 مليار عام 2021، وتبقى الصين المصدِّر الأكبر إلى السوق الأميركية.
وإذا اندلع فجأة صراعٌ صيني أميركيٌ مسلح في بحر الصين الجنوبي، فيما يشتعل معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة بلغت 9.1% في شهر حزيران/يونيو الفائت، وهو أعلى مستوى يبلغه منذ عام 1981، فإنَّ وقف الاستيراد من الصين بقرار حكومي، ولو بمقدار النصف أو حتى الثلث، سوف يسبب نقصاً في السلع في السوق الأميركية، ما يصبّ الزيت على نار ارتفاع الأسعار. وما التضخم في المحصلة سوى نقصٍ في كتلة السلع والخدمات مقارنةً بكتلة النقد التي تطاردها.
إنَّ مثل هذا القرار إذاً سيكون جنونياً بالنسبة إلى أي إدارة أميركية. ومع ذلك، فإن له مريدين كثراً في الداخل الأميركي. ولذلك، إن "فك الارتباط" مع المستوردات الصينية لا بد من أن يكون تدريجياً ومحسوباً، وربما يتطلَّب سنوات، لكنها عملية بدأت عام 2018 في الولايات المتحدة، وقد كان ذلك إشارةً إلى الصين لكي تسرّع في تنفيذ مشروع "الحزام والطريق"، وفي إيجاد منافذ أخرى اقتصادياً، على الرغم من أن الصين التي لا تتحرك بشكل غير محسوب، لم تبنِ كل اقتصادها على التصدير إلى الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية، بل تمثل صادراتها إلى القارة الآسيوية 46% من المجموع عام 2021، فيما تمثل صادراتها إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية أكثر من الثلث.
وإذا أضفنا صادرات الصين إلى دولٍ تدور في الفلك الغربي، مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية، فإنَّ النسبة تزيد على 40%. ولهذا، يصعب على الصين أيضاً أن تدخل مواجهة شاملة غير محسوبة مع الغرب تنهي علاقاتها التجارية معه فوراً.
إنه استحقاق يدفعها إلى تأمين عمق اقتصادي استراتيجي خارج الغرب على المدى الطويل، كجزء ضروري من استراتيجية أمنها القومي، وهو ما يعني طبعاً مشروع "الحزام والطريق"، وتعزيز التحالف مع روسيا، وتجميد التناقضات مع الهند، وتوسيع بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون في جنوب الكرة الأرضية وشرقها.
الجانب المكشوف للعقوبات الأميركية في احتياطيات الصين من العملة الصعبة
إن الجانب المكشوف للعقوبات من الأصول المالية الصينية هو ما يملكه البنك المركزي الصيني من أذونات خزينة وسندات حكومية أميركية يمكن تجميدها فوراً أو عدم الاعتراف بها في حال اندلاع نزاع حول تايوان، أسوةً بما فعله الغرب مع أصول روسيا الخارجية بعد العملية الخاصة في أوكرانيا.
هذا وحده يدعو إلى التفكير في المصلحة الأميركية في افتعال توتر مع الصين، "يبرر لها" اتخاذ إجراء عقابي من هذا القبيل، بل إنَّ شطب تريليون دولار ونيف من الديون المستحقة على الولايات المتحدة للصين بجرة قلم من المؤكد أنه أمرٌ مغرٍ جداً بالنسبة إلى الأميركيين، ولا يخرج كثيراً عن تقاليد مصادرة أموال الدول الأجنبية وحقوقها بذريعة حقوق الإنسان والحيوان... وتايوان.
تتعقد الصورة أكثر فأكثر عندما نأخذ بعين الاعتبار تقريراً لمجموعة "روديوم" الأميركية (Rhodium Group) في 21/1/2021، يكذّب الأرقام الرسمية عن الاستثمارات المالية المتبادلة بين الصين والولايات المتحدة.
ويصل التقرير إلى أنَّ ما يملكه المستثمرون الأميركيون من الأسهم وسندات الشركات والسندات الحكومية الأميركية هو 1.2 تريليون دولار مع نهاية عام 2020، منها 1.1 تريليون دولار أسهم شركات صينية والباقي سندات، وليس 240 مليار دولار فحسب، كما تقول الإحصاءات الرسمية.
أما ما يملكه الصينيون من الأصول المالية الأميركية، فهو 700 مليار دولار من الأسهم، و1.4 تريليون من السندات الحكومية وسندات الشركات، وليس 240 مليار دولار من الأسهم، و1.3 تريليون دولار من السندات وأذونات الخزينة، كما تزعم الإحصاءات الرسمية.
تضيف مجموعة "روديوم" أنَّ الفارق بين إحصاءاتها والإحصاءات الرسمية يعود إلى عاملين: أولاً، الأسهم التي تصدرها الشركات الصينية وفروعها خارج الصين عبر الملاذات الضريبية حول العالم، ليجري تداولها في الأسواق الأميركية وغيرها، ما يجعلها تبدو غير صينية.
وهناك ثانياً عمليات بيع وشراء الأصول المالية في هونغ كونغ الصينية لمصلحة البنك المركزي الصيني أو الشركات الخاصة والمستثمرين الصينيين، ما يجعل من يقوم بها يبدو كأنه غير صيني.
يُذكر أنَّ الصين تفرض قيوداً على حركة رأس المال المحلي من الداخل إلى الخارج ازدادت منذ عام 2016، ولكن لديها ثغرة (متروكة عمداً؟) هي هونغ كونغ التابعة لها، والخاضعة لنظام اقتصادي مختلف.
وإذا صدقت التقديرات أعلاه، فإنَّ حجم التشابك المالي بين الصين والولايات المتحدة الأميركية مع نهاية عام 2020، يصبح 3.3 تريليون دولار، ما يجعل "فك الارتباط" بين الطرفين مالياً، لا تجارياً فحسب، مسألة شديدة التعقيد، ويصعب أن تنفذ اعتباطياً.
على الرغم من ذلك، فإنَّ هناك كتلة من تريليون دولار ونيف من السندات وأذونات الخزينة الأميركية بأيدي جهات رسمية صينية، وهذا مكشوفٌ للعقوبات الأميركية بسهولة أكبر بما لا يقاس من كتلة الأسهم الصينية بأيدي الأفراد والشركات الخاصة الأميركية، وهي الكتلة الغالبة بنسبة تقارب 92% من الاستثمار المالي الأميركي في الأصول الصينية، والتي ستجد الصين صعوبةً في تبرير مصادرتها أو تجميدها.
ملاحظة أيديولوجية حول الفارق بين الصين والولايات المتحدة الأميركية
إنَّ الكثير من الشركات والبنوك الصينية إما مملوكة من الدولة، وإما للدولة حصةٌ فيها، وإما ترتبط بعقودٍ مع الدولة، ولا سيما جيش التحرير الشعبي الصيني، على عكس الشركات الغربية التي تتحكم في دولها، فرأس المال المالي لا يحكم الصين، إنما الصين هي التي تحكم رأس مالها، وهو الأمر الذي يغفله من يضعون الصين والولايات المتحدة في كفّة واحدة أيديولوجياً.
يمثل هذا الفارق الاقتصادي السياسي بين بنية الاقتصاد الصيني من جهة، والاقتصادات الغربية من جهةٍ أخرى، أزمةً أيديولوجية بالنسبة إلى الغرب، أولاً، لأنه يقدم نموذجاً عالمياً ناجحاً للقطاع العام وللعلاقة التكاملية بينه وبين القطاع الخاص، كما أثبتت التجربة الصينية، ويمثل أزمةً سياسية، ثانياً، لأن الموارد الضخمة التي راكمتها تلك التجربة الصينية توظف في مشروع نهوض قومي في الداخل، وفي مشروع يقود موضوعياً إلى زعزعة ميزان القوى العالمي في الخارج.
وذنب الصين أميركياً، في النهاية، هو نهوضها ونجاحها في تجويف منظومة العولمة الرأسمالية تحت حكم حزب شيوعي يحمل مشروع نهوضٍ قومياً، وأنها أنجزت ذلك بأقل قدر ممكن من الجلبة والنزاعات، وأن صعودها، وصعود روسيا والدول المستقلة، يهيئ لعالم متعدد الأقطاب يخلق ظروفاً أفضل لصعودنا وتحررنا، وشتان ما بين هذا وبين الهيمنة الغربية.
حرب أميركية شعواء على الشركات الصينية
لم تغب الصلات العامة -الخاصة والمدنية- العسكرية للشركات الصينية عن الدولة العميقة في الولايات المتحدة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2020، أصدر الرئيس الأميركي السابق ترامب أمراً تنفيذياً يحظر على الأميركيين الاستثمار في أسهم 31 شركة صينية عُدت مرتبطة بالجيش الصيني، من بينها عمالقة مثل "هواوي" و"تشاينا موبايل" و"تشاينا تليكوم"، وحظر الأمر التنفيذي ذاته حتى تداول أسهم الشركات التي تتعامل مع الشركات المحظورة.
نقول الدولة العميقة لأنَّ الرئيس الأميركي الحالي بايدن جدّد الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب، ووسعه إلى 59 شركة، لتجري توسعته بعدها إلى 68، والحبل على الجرار. والهدف هو تقليص الاستثمار الأميركي الخاص في الشركات الصينية، وحرمانها من الحصول على رؤوس أموال في أسواق المال الدولية تمكّنها من التوسع والاستثمار في تطوير منتجاتها.
تأثرت أسعار أسهم تلك الشركات طبعاً، وترافق ذلك مع تزايد بيع المستثمرين الأجانب أسهم الشركات الصينية على خلفية أزمة أوكرانيا، خوفاً من فرض عقوبات غربية على الصين وشركاتها جراء اصطفافها مع روسيا، ما تسبب بهجرة واسعة لرأس المال الأجنبي من الصين، وشبه انهيار في سوق الأسهم الصينية بلغ قعره في 26 نيسان/أبريل الفائت، لتعود الأسهم الصينية إلى التعافي تدريجياً بعدها.
ولا يستطيع المستثمرون الأجانب أن يلقوا بكل ما بجعبتهم من أسهم صينية في الأسواق فجأةً، كما لا تستطيع الصين أن تلقي بكل ما لديها من أذونات خزينة أميركية في الأسواق فجأة، لأن ذلك يحطم سعرها ويدمر قيمتها بموجب قانون العرض والطلب، كما سبقت الإشارة في خاتمة مادة "معدلات الفائدة الأميركية كرافعة للهيمنة العالمية" في الميادين نت في 10/5/2022. ولذلك، لا بد من تصريفها تدريجياً وبحكمة.
باختصار، نرى أن الصين معرضة لخسائر أكبر من الولايات المتحدة في حال انفضاض العلاقة المالية بينهما، لأن ما تملكه من دين حكومي أميركي معرض للتجميد والشطب، ومعه ثلث احتياطياتها من العملة الصعبة، فيما يدفع ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية قيمة ما تملكه من سندات حكومية أميركية إلى التقلص أمام ناظريها.
السباق التكنولوجي هو الأكثر ضراوةً
لا تقتصر أبعاد ظاهرة التشابك الاقتصادي والمالي على قيمتها بالدولار فحسب، بل تتعداها أيضاً نوعياً إلى حقل التكنولوجيا المتقدمة. وقد نشطت الإدارة الأميركية هنا في تقييد عمل الشركات الصينية المملوكة حكومياً أو في حظرها تماماً من السوق الأميركية، كما جرى مع تكنولوجيا الـ5G التي تتفوق فيها الصين على بقية العالم.
ومع ذلك، فإنها حرمت الشركات الصينية التي طورتها من العمل في السوق الأميركية بذريعة الملكية الحكومية لتلك الشركات، ما "يعرض الأميركيين لخطر التلاعب والاختراق من طرف الحكومة الصينية"، بحسب الخطاب الأميركي.
أما إذا كانت الشركة الصينية خاصة، فالتهمة الجاهزة، وهي أنها ذات صلات تجارية بالحكومة الصينية، وهو مقياس لو طبق على الشركات الأميركية ذاتها لحرم الآلاف منها من العمل في بقية العالم.
ولا يقتصر السباق الصيني الأميركي على حيز تكنولوجيا الـ5G على سرعة شبكات الإنترنت أو فعاليتها، بل يتعلق أيضاً بهوية من يحدد المقاييس العالمية لشبكات الـ5G، بما يؤثر في الأمن القومي للدول والأمن الشخصي للأفراد، كما يتعلق بالجغرافيا السياسية لتوزيع معدات الإرسال والاستقبال عالمياً، أي بالسيطرة العالمية على شبكة الاتصالات في النهاية، بحسب تقرير لـ"فايننشال تايمز" البريطانية في 7/2/2022.
ولكن تكنولوجيا الـ5G ليست سوى أحد ميادين الصراع الأميركي الصيني، والتي يوازيها السباق على تكنولوجيا الحساب الكمومي (Quantum Computing)، والأهم هو الصراع الضاري الدائر بين العملاقين في ميدان الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، إذ إن القفزات النوعية التي حققها الصينيون على هذا الصعيد وغيره دفعت الجانب الأميركي إلى اتخاذ حزمة إجراءات لإعاقة التطور التكنولوجي الصيني وشلّه، ومنها فرض قيود على الاستثمارات الصينية في قطاعات التكنولوجيا المتقدمة الأميركية، وعلى التخصصات التي يدرسها المبتعثون الصينيون في الجامعات الأميركية (370 ألف طالب صيني في الولايات المتحدة!)، ولاستهداف قطاعات صناعية صينية رئيسية برسوم جمركية مختارة لإضعاف قدرتها التنافسية، وتكثيف العمل الأمني المضاد للتجسس الصناعي، وتوجيه المزيد من الموارد نحو العمل الاستخباري الموجه ضد الصين، وغيرها من الإجراءات.
الولايات المتحدة ليست معتادة على وجود من يناطحها تكنولوجياً منذ بداية القرن العشرين، بيد أن دراسة معروفة لمؤسسة "PWC" الدولية توقعت قبل بضع سنوات أن تتشارك الصين والولايات المتحدة في نحو 69% من الـ15.7 تريليون دولار التي سيجلبها الذكاء الاصطناعي للاقتصاد العالمي مع وصولنا إلى عام 2030، سيذهب منها أكثر من 7 تريليون للصين، ونحو 3.7 تريليون لأميركا الشمالية، ناهيك بالتطور التكنولوجي ذاته، وهذا، ببساطة، أمر غير مقبول أميركياً.
لقد باتت الصين مهيأة لتحقيق قفزات تكنولوجية عظمى، على الرغم من أنها لم تستكمل عملية مجاراة الغرب على كل الأصعدة التي ترغبها، ما قد يسبّب بعض الإرباك عندما تقع الوقيعة بين الصين والولايات المتحدة، لكنّ الغرب بات يفضل إعاقة التطور التكنولوجي ذاته على أن يرى غيره يسبقه فيه، وشبكات الـ5G نموذجاً.
أما الصين، فبإمكانها، بالتعاون مع روسيا وغيرها من الدول المستقلة، أن تقود تطور قوى الإنتاج إلى الأمام الذي باتت تعوقه الهيمنة الغربية.