تداعيات الأوضاع المشتعلة في النيجر على الداخل الليبي الهش

ليبيا المنقسمة بين حكومتين، والتي تتصارع فيها المؤسسة العسكرية مع ميليشيات قبليّة ودينية، أصبحت مطالبة الآن بتأمين حدودها الجنوبية، خشية تطوّر الأوضاع في النيجر إلى ما يشبه الحرب المفتوحة.

  • تداعيات الأوضاع المشتعلة في النيجر على الداخل الليبي الهش
    تداعيات الأوضاع المشتعلة في النيجر على الداخل الليبي الهش

في الوقت الذي تعاني الدولة الليبية حالة اضطراب داخلي واسعة منذ عام 2011، تأتي الأحداث الجارية في الدول المحيطة بها لتراكم عليها المشكلات، وتُلقي على عاتقها مزيداً من الأعباء الأمنية والسياسية؛ فليبيا المنقسمة بين حكومتين، والتي تتصارع فيها المؤسسة العسكرية مع ميليشيات قبليّة ودينية لفرض نفوذها، أصبحت مطالبة الآن بتأمين حدودها الجنوبية، خشية تطوّر الأوضاع في النيجر (جارتها الجنوبية) إلى ما يشبه الحرب المفتوحة.

في الأسبوع الأخير من الشهر الماضي، تصدّرت النيجر عناوين الأخبار، بعدما قامت وحدات من الحرس الرئاسي باحتجاز رئيس البلاد محمد بازوم في قصره في العاصمة نيامي. وبعدها بساعات قليلة، أعلن الجيش عزل الرئيس عن مهامه، وإغلاق حدود البلاد مع الدول المجاورة، وفرض حظر التجوال في مختلف نواحي النيجر، وتعيين رئيس الحرس عبد الرحمن تشياني قائداً جديداً للبلاد.

هذه الأحداث بدورها أثارت ردود فعل دولية، جاء أبرزها من باريس وواشنطن، إذ يُعد بازوم رجل فرنسا الأول في غرب أفريقيا. ولعلّ هذا ما أكسب التحرك قدراً من التأييد الشعبي، فالعديد من شباب أفريقيا صاروا أكثر ميلاً إلى تأييد الانقلابات الأخيرة، تعبيراً عن رفض الاستعمار الفرنسي غير المباشر، وخصوصاً أن فرنسا لطالما رعت الانقلابات في القارة السمراء لأنها كانت تصب في مصلحتها. كذلك، النيجر التي تملك اليورانيوم الذي يضيء فرنسا اليوم تعيش ذاتها في ظلام، في مفارقة تثير غضب أبناء البلد ضد المستعمر القديم.

على الصعيد الإقليمي، جاء رد الفعل الأبرز من نيجيريا، الجارة الجنوبية للنيجر، والتي تشترك معها في العديد من الروابط التاريخية والعرقيّة واللغوية، إذ يتزعم بولا أحمد تينوبو، الرئيس السادس عشر لنيجيريا، الجهود الرامية إلى إجهاض التحرك في النيجر.

وقد لوّحت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) باحتمال التدخل العسكري في النيجر ما لم تتم إعادة بازوم إلى منصبه الرئاسي، لكن دولاً مثل مالي وبوركينا فاسو تحفظتا على هذا الطرح، ما عرضهما للعقوبات الفرنسية وتعليق المساعدات.

بالنظر إلى حالة الاضطراب الضخمة الحاصلة في النيجر، لا شك في أنَّ ليبيا سيطالها جانبٌ من شظايا الرصاص المتطاير هنا وهناك، وخصوصاً أنها كانت تعاني لشهورٍ مضت لتجنّب الآثار السلبية للحرب الدائرة في السودان بين البرهان ومعاونه السابق حميدتي، وهي الحرب التي ألقت بظلالها القاتمة على مختلف دول المنطقة، وتسببت بحالة اضطراب إقليمي لم يكن أحد ينتظرها أو يطمح إليها، وخصوصاً في هذه المرحلة الصعبة التي يعيشها العالم من جراء الحرب في أوكرانيا.

وكان الرئيس النيجيري تينوبو قد أرسل وفداً منذ أيام عدة إلى ليبيا لبحث أزمة النيجر وضمان تحقيق حل نهائي وسلمي للأوضاع في البلاد.

الجيش الليبي يؤكد حضوره وتخوفات من "داعش" والهجرة غير الشرعية

يسيطر الجيش المدعوم من البرلمان الليبي على مناطق شرق ليبيا وجنوبها. وما إن تصاعد القلق بسبب الأحداث في النيجر، حتى خرج مدير إدارة الإعلام والتعبئة العامة في الجيش الليبي أحمد المسماري ليؤكد أن "القوات المسلحة الليبية تراقب دول الجوار التي تشهد توترات لمنع استغلال أراضي هذه الدول في القيام بهجمات ضد الدولة الليبية".

وأوضح المسماري أن "القوات الليبية متيقظة على الحدود مع النيجر والسودان"، متوقعاً أن تكون هناك عمليات نزوح إنساني ومحاولات تسلل لعناصر إرهابية، مشيراً إلى أن الحدود الليبية التي يبلغ طولها 4800 كيلومتر تحتاج إلى 4200 جندي ليبي لتأمينها.

ويعتبر مراقبون هذا الإعلان السريع من جانب قوات خليفة حفتر محاولة لتأكيد الحضور وإعلان القدرة على تأمين البلاد ضد المخاطر التي تتعرض لها، بهدف كسب التأييد الشعبي والحظوة الإقليمية والدولية. 

يأتي هذا في سياق حالة التنافس والصراع الحاصلة في ليبيا منذ سنوات بين حكومات الشرق المتعاقبة الموالية لحفتر والبرلمان، والحكومات الأخرى في الغرب، التي تسيطر على العاصمة طرابلس وتتمتع بتأييد غربي.

ويشير الخبراء الأمنيّون إلى أن الأوضاع الحالية في ليبيا تتطلب تفعيل جهاز حرس الحدود، لا سيما أن الحدود الجنوبية تم استغلالها سابقاً من قبل تنظيم "داعش"، إذ تسللت العناصر المتطرفة من الدول الأفريقية إلى ليبيا والعكس، كما أن حالة الاضطراب الحاصلة قد تكون فرصة للعصابات التي تقوم بتهريب الأفارقة الباحثين عن الهجرة إلى أوروبا عبر السواحل الليبية.

وتتعالى الأصوات الليبية المطالبة بضرورة توحيد الجهود الأمنية بهدف صدّ المخاطر التي تحاوط البلاد من مختلف الجهات، إذ يطالب الليبيون المجلس الرئاسي بتجاهل الخلافات وتوفير الدعم اللوجستي والبشري والمالي لقوات "الجيش الوطني" حتى تتمكن من تأمين الحدود الممتدة مع عدد من الدول الأفريقية، وأن تكون هناك رقابة وتحديد للمسؤوليات، حتى لا يتم اتهام القوات القائمة بالتأمين بدعم جهة ضد أخرى مثلما حصل في حرب السودان.

ومن المؤكد أن الدولة الليبية في المرحلة الحالية لا تحتمل الزج بها في أي صراعات خارج حدودها، وخصوصاً أن الوضع الداخلي هشّ للغاية، كما أن الشعب الليبي عانى كثيراً من الجماعات المتطرفة التي عاثت فساداً داخل البلاد لسنوات طويلة، ولا يمكنه استقبال مزيد من متطرفي الدول المجاورة.

وكانت ليبيا قد شهدت دعوات لتشكيل قوات مشتركة من الجيش والأجهزة العسكرية لتأمين الحدود الجنوبية المشتركة مع السودان والنيجر، وأكد رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي في 19 تموز/يوليو الماضي ضرورة مراقبة الحدود وضبطها وتأمينها للحد من تدفق الهجرة غير الشرعية ومحاربة الإرهاب ونشاط بعض المنظمات المشبوهة، كما بحث نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي عبد الله اللافي المقترح ذاته مع عدد من القيادات العسكرية مطلع شهر آب/أغسطس الجاري.

لكنّ هذه الدعوات دوماً ما يتم إجهاضها بسبب حالة الانقسام الحاصلة في ليبيا، فالمجلس الرئاسي نظرياً هو القائد الأعلى للقوات المسلحة الليبية، فيما عملياً لا يملك أي سلطة على شرق ليبيا أو جنوبها، فالحدود الليبية الواقعة قرب النيجر والسودان جميعها تحت سيطرة قائد القوات المسلحة في الشرق الليبي خليفة حفتر، الذي سيرفض بدوره قدوم أي قوة تابعة للقطب الغربي.

تباين مواقف الساسة الليبيين من أحداث النيجر

من دون إغفال الأسباب الداخلية للانقلاب الذي حصل في النيجر، فإن ثمة قطاعاً معتبراً من المراقبين السياسيين المهتمين بالشأن الأفريقي يشيرون إلى أن الانقلاب الأخير لا يمكن فصله عن الصراع الدولي بين روسيا والعالم الغربي، إذ يؤكدون أن ما يجري في النيجر يُعدّ بمنزلة المسمار الأخير في نعش سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كما أنه يُعدّ في الآن ذاته انتصاراً للمحور الروسي/الصيني الذي يطمح إلى تحجيم النفوذ الغربي في دول العالم الثالث. ولعلّ هذا تمثّل في اعتراض كل من موسكو وبكين على دعوات التدخل العسكري والحثّ على ضبط النفس واستخدام الحوار.

في ضوء هذه الفرضيّة، يمكن قراءة مواقف السياسيين الليبيين، فلا شك في أن الجهات الليبية الأقرب إلى العواصم الغربية ستكون أكثر حماسة للإعلان عن موقفها الداعم لشرعية رئيس النيجر المخلوع محمد بازوم. أما العناصر الليبية القريبة من موسكو، فستكون، على الأقل، متحفظة عن الإعلان عن موقفها السياسي مما يجري في النيجر.

وكان رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي قد أعلن رفضه الانقلاب العسكري "الذي يستهدف تغيير النظام الدستوري للبلاد"، واصفاً ما يجري بأنه "عملية خارجة عن القانون والشرعية"، داعياً المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا إلى تأمين سلامة الرئيس محمد بازوم وأسرته ورئيس الحكومة وأعضائها.

أما رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبد الحميد الدبيبة، فأكد أن التحركات العسكرية في النيجر "تشكل مصدر قلق للدول المجاورة، وأنه لا بد من وضع حدّ فوري لهذه التحركات العسكرية التي تقوض أمن المنطقة واستقرارها، وتشكل مصدر قلق لجميع البلدان المجاورة وللمجتمع الدولي ككل".

على الصعيد المقابل، لم يصدر أي تصريح عن حفتر بشأن ما حدث في النيجر، إلا أن بعض قواته، وهي كتيبة "طارق بن زياد"، تحركت إلى الحدود الجنوبية لتأمينها، من دون أي تعليق سياسي على الانقلاب الأخير.

احتمال اندلاع حرب في النيجر وتأثيرها في ليبيا

بحسب التقارير التي تتناول الأوضاع داخل النيجر، فإن الاحتمالات كافة باتت واردة الحدوث، فدول مثل نيجيريا وساحل العاج والسنغال وبينين، قالت إنها مستعدة لإرسال قوات إلى النيجر في حال قررت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إكواس) القيام بذلك، وخصوصاً أنّ المهلة التي تم منحها لقادة الجيش للتراجع عن انقلابهم انقضت.

وتملك نيجيريا، التي تتزعّم إقليمياً "جبهة رافضي الانقلاب"، نحو 135 ألف جندي، بحسب مؤشر "غلوبال فاير باور"، فيما تملك النيجر نحو 10 آلاف جندي فقط.

ويلمّح بعض الخبراء إلى احتمال تدخل كل من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية بشكل مباشر في الصراع، فواشنطن تخشى على قاعدة الطائرات التي أقامتها في وسط صحراء أجاديز شمالي النيجر عام 2014، كما أنها تريد حصار النفوذ الروسي الآخذ بالصعود في غرب أفريقيا.

أما باريس، فتريد الحفاظ على النيجر كدولة تدور في فلكها السياسي والاقتصادي، وتملك فرنسا بالفعل نحو 1500 جندي فرنسي في النيجر، كما أنّها تعتبر قاعدةً مركزية لقوات حلف شمال الأطلسي في غرب أفريقيا.

ولا يتمنى الليبيون بأي حال أن تندلع حرباً داخل النيجر، إذ من المتوقع أن تؤثر سلباً في بلادهم من خلال الآتي:

أولاً، تسبب الحرب بلجوء العديد من مواطني النيجر البالغ عددهم نحو 24 مليون نسمة إلى ليبيا، ما يضيف مزيداً من الأعباء الاقتصادية على الدولة الليبية.

ثانياً، تسبب الاشتباكات بانهيار تام للأمن الحدودي، ما يتسبب بنشاط مكثف للخارجين عن القانون، سواء كانوا عصابات المهربين أو الحركات السلفية الجهاديّة.

ثالثاً: حالة الاستقطاب التي ستحدث نتيجة الحرب في النيجر ستلقي بظلالها على ليبيا، وستعمّق الانقسامات الحاصلة بالفعل في البلاد.

رابعاً: عانت ليبيا بسبب التدخل العسكري الغربي عام 2011، ولا تزال النتائج الوخيمة لهذا التدخّل ماثلة إلى اليوم، وتكرار المأساة ذاتها في دولة جارة هي النيجر هو أمر محبط ومخيب للآمال على المستوى الإنساني والشعبي.

خامساً: بمجرد اندلاع الحرب، سيتجه الحجم الأكبر من المجهود الأممي باتجاه النيجر، وسيتم خفض حجم الاهتمام بالمشكلة الليبية، وبالتالي ستعود جهود المصالحة إلى المربع صفر، وسيطول أمد معاناة الليبيين المترتبة على الانقسام.

سادساً: انهيار العديد من المشاريع التنموية التي كانت معدة لزيادة حجم التبادل التجاري بين ليبيا والدول الأفريقية.

سابعاً: تضرر الجنوب الليبي الغني بالنفط والمياه، واحتمال تحول ليبيا إلى ساحة لتصفية الحسابات الدولية.