الولايات المتحدة قد تتّجه نحو حرب أهلية قد تُنهي وجودها
المشروع الأميركي بالتوسع الدائم ومراكمة الرأسمال عبر الغزو وصل إلى حائط مسدود، وهذا سيرتد حكماً إلى الداخل الأميركي. وبما أن الثقافة الأميركية قامت على العنف منذ انطلاق الولايات المتحدة، كان لزاماً أن يرتد هذا العنف إلى الداخل.
يكثر الحديث في الولايات المتحدة عن توجه المجتمع الأميركي نحو حرب أهلية قد تكون أكثر دموية من الحرب الأهلية الأولى، التي حدثت بين عامين 1859 و1865 والتي أودت بحياة نحو 700 ألف أميركي. وتنتشر عناوين في مجمل الصحف الأميركية، كان أبرزها في "واشنطن بوست"، تفيد بأن الولايات المتحدة على شفير حرب أهلية ثانية في تاريخها، قد تؤدي إلى القضاء عليها وتقسيمها إلى عدة دول.
ونشر المؤرخ في جامعة ستانفورد فيكتور ديفيس هانسون، مقالاً في مجلة "ناشيونال ريفيو"، بعنوان "كيف ومتى ولماذا وصلت الولايات المتحدة الآن إلى حافة حرب أهلية حقيقية؟"، بينما نشر عضو الكونغرس عن الحزب الجمهوري عن ولاية أيوا، ستيف كينغ، مقالاً في "واشنطن بوست"، حذّر فيه من مغبة انتشار السلاح بصورة واسعة بين الأميركيين، وأفاد بأن الأميركيين يمتلكون 8 تريليونات رصاصة يمكن استخدامها في حال اندلعت الحرب. وأفادت استطلاعات للرأي بوجود نسبة كبيرة من الأميركيين تتخوف من اندلاع حرب أهلية خلال الأعوام القليلة المقبلة.
ثقافة الحرب الأميركية
تشكل حالة الاستقطاب التي تسبب بها فوز دونالد ترامب بالرئاسة في عام 2016، ثم ترشحه مجدداً خلال هذا العام، بغية العودة إلى البيت الأبيض، أحدَ عوامل التفجير للصراع في الولايات المتحدة. فرجل الأعمال، الذي تمكن من اختراق نادي النخبة السياسية المغلق بإحكام، تسبّب ببلبلة كبيرة في صفوف هذه النخبة، التي تحاول جاهدة احتواء الرئيس السابق المشاغب، الذي رفض نتائج الانتخابات السابقة التي أدت إلى خسارته أمام جو بايدن، والذي أمر أنصاره باقتحام الكونغرس، في سابقة هي الأولى في التاريخ السياسي للولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك الاتهامات التي تساق له بإقامة علاقة غير شرعية بممثلة إباحية ورشوتها للسكوت، وحتى اتهامات لروسيا بالتدخل في نتائج الانتخابات، والتي أدت إلى فوز ترامب في عام 2016.
لكن ظاهرة ترامب لا تُعَدّ إلّا أحد تمظهرات أزمة هي أعمق كثيراً مما يحاول الأميركيون تصويره، وهذه الأزمة مرتبطة بتعثر المشروع الإمبريالي الأميركي، الذي قام، منذ استقلال الولايات الثلاث عشرة عن بريطانيا في عام 1776، على ظاهرة التوسع والغزو. لذا، فإننا نرى أنه لم يمر عقد من الزمن في تاريخ الولايات المتحدة إلا وكانت متورطة في حرب كبرى.
لقد شهدت نهاية القرن الثامن عشر وبدايته حروباً مع البحارة الجزائريين قبالة السواحل الجزائرية، فيما يسميه الأميركيون الحروب البربرية بين عامي 1801 و1805، ثم عامي 1815 و1816. وخلال هذه الفترة، وقعت حرب بين الولايات المتحدة وبريطانيا في عام 1812، تمكّنت خلالها القوات البريطانية من التقدم في اتجاه واشنطن وإحراق البيت الأبيض، ومنع غزو الأميركيين لكيبيك الكندية، الواقعة تحت التاج البريطاني.
بالتوازي مع ذلك، كانت الولايات المتحدة بدأت الحروب ضد السكان الأصليين فيما عُرف بالحروب الهندية، لمدة ثلاثة عقود، تمّ خلالها نهب الأراضي الهندية وقتل معظم الشعب الأصلي. في عام 1848، شنت الولايات المتحدة حرباً ضد المكسيك، كان من نتائجها استيلاؤها على كامل الولايات المكسيكية الواقعة إلى الشمال من نهر الريو غراندي، وأبرزها تكساس ونيومكسيكو ونيفادا وكاليفورنيا الغنية بمناجم الذهب.
النصف الثاني من القرن الـ19
خلال العقد التالي (القرن التاسع عشر)، ستتجه الأمور في الولايات المتحدة إلى حالة استقطاب حادة بين الشمال، الذي دخل في وتيرة عالية من التنمية الصناعية الرأسمالية والمالية في مقابل الجنوب الذي كان يغلب عليه الاقتصاد الزراعي، لتندلع الحرب الأهلية في عام 1859 حتى عام 1865، والتي ستؤدي نهايتها، التي شهدت هزيمة الجنوب، إلى فتح المجال أمام التحول إلى الرأسمالية المالية، التي ستُخضع مناطق الجنوب والغرب الأوسط والأقصى لاستغلال مكثف.
بعد الحرب الأهلية، ستعاود الولايات المتحدة حروبها ضد السكان الأصليين لمدة ثلاثة عقود متواصلة، لتقضي عليهم بصورة شبه كاملة، وتصادر كامل أرضهم، وتُبقي القلة الناجية منهم في مستوطنات هي أشبه بمعتقلات كبيرة، على مثال حال قطاع غزة مع الاحتلال الصهيوني، أو التجمعات السكانية الفلسطينية في الضفة الغربية المعزول بعضها عن بعض، بالمستوطنات الصهيونية.
مع نهاية القرن التاسع عشر، كانت الولايات المتحدة سيطرت على كامل الأرض الواقعة إلى الشمال من نهر الريو غراندي، والتي تفصلها عن المكسيك، وإلى الجنوب من الخط الممتد من سياتل في الغرب إلى بوسطن في الشرق، وكان عليها الانطلاق من أجل التوسع حول العالم.
وكانت عيناها منصبَّتين، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، على بسط هيمنتها على الجزء الغربي من العالم، أي القارتين الأميركية الشمالية والجنوبية. وكان استيعاب كندا البريطانية سهلاً بحكم العلاقات الوثيقة التي أقيمت ببريطانيا مع نهاية القرن التاسع عشر، وبحكم عدد السكان القليل جداً، الذي يعيش في الولايات الكندية الشاسعة.
من هنا، شنت الولايات المتحدة حرباً ضد إسبانيا بذريعة دعم الحركة الاستقلالية الكوبية في عام 1898، والتي أدت إلى احتلال كوبا وبويرتوريكو والفيليبين، وإطلاق سياسة الهيمنة الأميركية على دول أميركا الجنوبية، تحت شعار دبلوماسية البوارج البحرية، وهو التعبير الذي صاغه الرئيس الأميركي الأسبق تيودور روزفلت (1901 – 1909).
نحو إطلاق مشروع الهيمنة العالمية
حتى عام 1917، كانت الولايات المتحدة تدعم نفوذها في أميركا اللاتينية، حين ارتأت الدخول في الحرب العالمية الأولى إلى جانب دول الوفاق الثلاثي، وهي بريطانيا وروسيا وفرنسا، ضد دول المركز، وهي ألمانيا والنمسا-المجر والدولة العثمانية.
خرجت الولايات المتحدة منتصرة، بأقل الخسائر البشرية، مع تكبدها فقط مئة ألف قتيل من الجنود في مقابل ملايين الفرنسيين والبريطانيين والألمان والروس وغيرهم. وخلال الحرب، تمكنت بنوكها من رهن اقتصادات الدول الأوروبية الحليفة لها والعدوة بحكم استدانتها من المصارف الأميركية.
وخلال مرحلة ما بين الحربين، عمّقت الولايات المتحدة هيمنتها الاقتصادية على الدول الأوروبية لتتحفز نحو إطلاق هيمنتها العالمية بعد الحرب العالمية الثانية.
لم تتكبد الولايات المتحدة سوى 300 ألف قتيل خلال الحرب العالمية الثانية، في مقابل 9 ملايين ألماني و30 مليون روسي وملايين البريطانيين والفرنسيين وغيرهم، وعشرات ملايين الصينيين واليابانيين.
وفي مقابل تدمير كامل لاقتصادات الدول الأوروبية والآسيوية، فإن الاقتصاد الأميركي خرج مزدهراً نتيجة بُعد الأراضي الأميركية عن ميدان المعارك، الأمر الذي جعل المصانع الأميركية تصبح المزود الأول للعتاد الحربي وغير الحربي للدول الحليفة لها، وهو ما جعل الاقتصادات الأوروبية ترتهن لها في مرحلة ما بعد الحرب، وخصوصاً بعد القروض التي منحت لهذه الدول عبر "مشروع مارشال" لإعادة الإعمار في عام 1948.
بعد الحرب العالمية الثانية، دخلت الولايات المتحدة في الحرب الكورية (1950 – 1953) ضد كوريا الشمالية والصين، لتبدأ، مباشرة بعد هذه الحرب، التورطَ في الازمة الفيتنامية، وتبدأ منذ أوائل الستينيات من القرن الماضي إرسال خبراء، ثم جنود، وتتورط في حرب فيتنام حتى عام 1975.
خلال هذه الفترة، كانت واشنطن أطلقت مشروعها للهيمنة العالمية، وخصوصاً مع صعود فريق المحافظين الجدد، عقب اغتيال الرئيس جون كينيدي في تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1963. ومع التورط في حروب ثانوية، كحرب لبنان بين عام 1982 و1984، واجتياح غرينادا في عام 1983 واجتياح باناما في عام 1989، كانت واشنطن تتحضر لإطلاق مشروعها للأحادية القطبية في عام 1990، بعد نهاية الحرب الباردة، عبر محاولة إطاحة الرئيس العراقي صدام حسين كم حلال تدبير انقلاب ضده، الأمر الذي جعله يرد باجتياح الكويت في العام نفسه، ليتعرض بعدها العراق لضربة أميركية في شباط/فبراير 1991.
كانت الولايات المتحدة بدأت ترسم الخطوط العريضة لهيمنتها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، عبر توسيع حلف شمال الأطلسي شرقاً، ليصل إلى حدود روسيا، وعبر تحضر إقامة نظام عالمي جديد في بداية الألفية الجديدة، قائم على الهيمنة الأحادية الأميركية.
هذا الذي دفع الولايات المتحدة إلى اجتياح أفغانستان في عام 2002، والعراق في عام 2003، والتسبب بأزمات، كان الهدف منها تجديد النهب عبر الغزو الذي قامت عليه الولايات المتحدة، ومحاصرة القوى الأوراسية الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين. لكن حربي أفغانستان والعراق لم تسمحا لواشنطن بممارسة النهب، الأمر الذي يجعلها تعالج أزماتها الداخلية، فارتدّت تكلفة الحرب عليها، لتتفجر أزمة اقتصادية في عام 2008.
ثقافة العنف السياسي
بنتيجة الفشل في بسط الهيمنة المطلقة على الشرق الأوسط عبر القوة الناعمة، وصعود قوة إيران وحلفائها في محور المقاومة، بالتوازي مع صعود القوتين الروسية والصينية وإطلاق منظمة شنغهاي للتعاون في عام 2001 وبريكس في عام 2009، ظهر جلياً أن الولايات المتحدة لن تتمكن من تحقيق هدفها بشأن إقامة نظام أحادي القطبية.
وبعد فشل آخر محاولة لتنفيذ المخطط مع باراك أوباما (2009 –2017)، دخلت النخبة السياسية الأميركية في طور الأزمة، وكان وصول رئيس من خارج النادي السياسي، نتيجة ما يسمى التصويت الاحتجاجي من جانب الجمهور الأميركي، أحد تجلياتها.
من هنا، فإن المشروع الأميركي بالتوسع الدائم ومراكمة الرأسمال عبر الغزو والنهب وصل إلى حائط مسدود، وهذا سيرتد حكماً إلى الداخل الأميركي. وبما أن الثقافة الأميركية قامت على العنف منذ انطلاق الولايات المتحدة، كان لزاماً أن يرتد هذا العنف إلى الداخل الأميركي بعد عجز واشنطن عن شن حروب جديدة.
من هنا، فإن ما قام به أنصار دونالد ترامب في عام 2021، احتجاجاً على خسارته الانتخابات واقتحامهم للكابيتول، ما هو إلا عينة من الطريقة التي قد يسلكها الأميركيون في معالجة تناقضاتهم الداخلية، وهي العنف.
لذا، فإن علماء اجتماع أميركيين أبدوا خشيتهم من إمكان اللجوء إلى العنف، مؤكدين أن الخطر الأكبر الذي يواجه المجتمع الأميركي يكمن في مؤشرات العنف السياسي وتوجه الجمهوري الأميركي إلى اللجوء إلى هذا العنف، مثل سعي أحد لقتل ديمقراطيين وصحافيين يعارضون توجهاته اليمينية، وهو ما يؤشر على استعداد عموم الناس للانخراط في أعمال عنف ضد أعدائهم السياسيين.
والجدير ذكره أن حالة الاستقطاب المناطقية تعزز التوجه نحو العنف. فبينما يحتل الديمقراطيون الساحة في السواحل الشرقية والغربية للولايات المتحدة، فإن الجمهوريين يسيطرون على المناطق الجنوبية والغرب الأوسط، الأمر الذي يشير إلى استقطاب عمودي في المجتمع الأميركي.
ويتخوف علماء السياسة الأميركيون من أن تتجه الولايات المتحدة إلى حرب أهلية جديدة ستكون الأكثر دموية في تاريخها. فالحرب الأهلية الأولى كانت الأكثر دموية في تاريخ البلاد مع سقوط نحو 700 ألف قتيل، في مقابل 100 ألف قتيل في الحرب العالمية الأولى، و300 ألف قتيل في الحرب العالمية الثانية، وبضعة آلاف في الحرب الكورية، وخمسين الفاً في حرب فيتنام، وبضعة آلاف في حربي أفغانستان والعراق. وإذا كانت البلاد أطلقت مشروعها الإمبريالي، عقب نهاية حربها الأهلية في عام 1865، فإن الحرب الأهلية الثانية قد تعلن نهاية عصر الهيمنة الأميركية العالمية، بل نهاية الولايات المتحدة، ككيان سياسي ووطني موحد.