الممر البحري بين قبرص وغزة وآباؤه الكثر
لعل أحد أهداف الممر البحري، من دون مشاركة رسمية لحكومة نتنياهو في إقراره، التقليل من تفاقم الخلافات في صفوف المحتلين عن طريق إلقاء ذلك الملف في حضن داعمي "إسرائيل" في الخارج، بما يحافظ على وحدة حكومة نتنياهو أيضاً.
جرى تبني الممر البحري من قبرص إلى غزة رسمياً، والرصيف المؤقت والطريق الفولاذي العائم اللذين سيشيدهما الجيش الأميركي خلال شهرين، في بيان مشترك نُشر في موقع الخارجية الأميركية في 13/3/2024، بعد لقاء على مستوى وزراء الخارجية في قبرص بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والإمارات وقطر، ضمّ المفوض الأوروبي للمساعدات الإنسانية وإدارة الأزمات، يانس لينارشيش، وكبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، سيغريد كاغ، بالإضافة إلى قبرص طبعاً، بصفتها الميناء الذي سيبدأ منه الممر البحري إلى غزة.
وتدلل هوية الأطراف القائمة على المشروع أنه أنكلو-ساكسوني وتابع، وأنه بذراعين، إحداهما عسكرية والأخرى مالية، وقد أسبلت عليه غلالتان "إنسانيتان"، إحداهما أوروبية، والأخرى أممية، وأن الكيان الصهيوني شريكٌ حاضرٌ غائبٌ فيه، كما سنرى.
لم يأتِ الإعلان عن تأسيس الممر البحري إلى غزة مفاجئاً، لأن التطبيل والتزمير له سبقه، وكانت "كثرة الحديث عنه"، وربطه بجهات داعمة للعدوان الصهيوني أو مطبّعة معه، في ظل العدوان الوحشي على غزة على وجه الخصوص، أحد الأهداف المراد غسلها سياسياً في مياه الممر المزعوم.
لكنّ كل مياه البحر المتوسط لا تقوى على غسل عار التطبيع مع العدو الصهيوني أو دعمه، وخصوصاً أن بحر غزة تخضب بالأحمر مؤخراً، بعد أن جُبِل بدماء أطفالها وأهلها، إلى حدٍ بتّ تخال معه أن البحر الأحمر انتقل مكان البحر الأبيض المتوسط، وأن البحر الأحمر صار هو الأبيض المتوسط بعد أن طهره الإخوة اليمنيون من عار السفن الصهيونية أو المرتبطة بالعدو الصهيوني، وبعد أن نقلوه، بنخوتهم المباركة، إلى بؤرة عين العالم سياسياً.
في 8/3/2024 مثلاً، أي قبل 5 أيامٍ من صدور البيان المشترك في لارنكا القبرصية، رحب ليؤر حيات، الناطق بلسان خارجية الاحتلال، بافتتاح ممر بحري بين قبرص وغزة، مشيراً إلى أن "إسرائيل" ستسيطر على دخول المساعدات إلى غزة من خلال "إجراء فحوصات أمنية وفقاً للمعايير الإسرائيلية".
كان لقاء قبرص تنظيمياً إذاً، بعد الحصول على موافقة إسرائيلية، لأن القافلة الأولى من المساعدات، وهي إسبانية، انطلقت الثلاثاء باتجاه غزة، في حين يفترض أن تنتهي القوات الأميركية من تشييد الرصيف العائم والجسر الفولاذي، المركب من قطع "ليغو" كبيرة، طول الواحدة منها 12 متراً، بعد شهرين.
طريقة إخراج الممر البحري إلى غزة أميركياً
طرح الرئيس بايدن فكرة الممر البحري من قبرص إلى غزة في خطاب "حالة الاتحاد"، في 8/3/2024، كأنه محاولة لإحراج حكومة نتنياهو سياسياً وللقول بأنها لا توصل ما يكفي من المساعدات إلى الغزيين.
يحاول مسؤولو إدارة بايدن إذاً أن يسوّقوا الممر البحري والرصيف المؤقت إعلامياً كبادرة أميركية لأخذ شأن "تقديم الدعم للفلسطينيين" على عاتقهم، كأنها مبادرة "مستقلة" تجري رغماً عن أنف حكومة نتنياهو، وكأن كيل الإدارة الأميركية طفح بعد المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في الذين كانوا ينتظرون المساعدات في مدينة غزة في 29/2/2024، والتي قضى فيها 118 شهيداً، فيما عُرف باسم "مجزرة الطحين".
الطريف أن "تايمز أوف إسرائيل"، نشرت في 7/3/2024، أن بايدن سيعلن في اليوم التالي، في خطابه عن "حالة الاتحاد"، عن شروع الجيش الأميركي في تنفيذ "مهمة طارئة" لتشييد رصيف مؤقت على شاطئ غزة لإيصال المساعدات إليها على نطاق واسع، مضيفةً، نقلاً عن مسؤول أميركي كبير لم تسمه: "نحن لا ننتظر الإسرائيليين. هذه لحظة للقيادة الأميركية، ونحن نعمل على بناء تحالف من الدول لتلبية هذه الحاجة الملحة".
هذا هو "عز الطلب" إعلامياً بالنسبة إلى إدارة بايدن الواقعة بين مطرقة ترامب الانتخابية، وسندان فقدانها الدعم في صفوف الحزب الديمقراطي ذاته من جراء دعمها غير المقيد للمجازر الصهيونية في غزة، عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً. والانتخابات على الأبواب بعد 8 أشهر، وما تظهره استطلاعات الرأي حتى الآن هو أن ترامب يتفوق على بايدن بنحو 1.8% إلى 2.4%، وهذا يعني أن بقاء بضع مئات آلاف الناخبين الأميل إلى الحزب الديمقراطي، مثل الأميركيين العرب والمسلمين، في المنزل، بدلاً من الاقتراع لبايدن، ولو لم يصوّتوا لترامب، سوف يضمن فشل بايدن وفريقه في الدولة العميقة الأميركية انتخابياً.
لذلك، تجري حالياً عملية تجميل، عميقة أيضاً، للانطباعات الناشئة عن موقف إدارة بايدن من العدوان الصهيوني على غزة، من دون تخفيف منسوب الدعم الأميركي فعلياً للكيان الصهيوني. لذلك أيضاً دخلت إدارة بايدن سيرك الإنزالات الاستعراضية للمساعدات من الجو، على الرغم من أنها عالية التكلفة وقليلة الحمولة مقارنة بالشحنات البرية، لكن تغطيتها أكثر بروزاً سياسياً.
الموقف الإسرائيلي وتصريحات غالانت عن الممر البحري إلى غزة
لا يجري كل هذا من دون التنسيق مع الكيان الصهيوني، جواً أو بحراً، ولا يخرج الممر البحري من قبرص، وتشغيل الرصيف العائم في غزة، عن ذلك طبعاً، بدلالة الترحيب الذي حظي به من وزير الحرب الصهيوني يوآف غالانت، الذي عدّ الخطوة إسهاماً في تحقيق أحد أهم أهداف الحرب على القطاع: "تقويض حكم حماس"، بحسب قوله، والذي تناقلته وسائل إعلام إسرائيلية وغربية شتى يوم الأحد الفائت.
وكما أشار السيد حسن نصر الله في كلمته في الأمسية القرآنية يوم الأربعاء الموافق 13/3/2024، استناداً إلى قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) "ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلَتَاتِ لسانه، وصفحاتِ وجهه"، إلى أن وزير الحرب غالانت ذاته، ورئيس هيئة الأركان هاليفي، كشفا عرضاً بأن العدو يتكبّد خسائرَ جسيمةً في الجبهة الشمالية، في حين أن العدو يتكتم تكتماً شديداً عليها، كذلك كشف غالانت مجدداً طرف الخيط الذي يمكننا من وضع قصة الممر البحري والرصيف الأميركي العائم في غزة في سياقهما الصهيوني.
تكمن الحلقة المركزية هنا في بلورة بنية إدارية دولية ومحلية يشرف عليها العدو الصهيوني لإيصال المساعدات بطريقة تضمن عدم وقوعها بأيدي المقاومين، وهذا يعني عملياً، بمقدار ما ينجح، إيجاد بديل للمؤسسات المدنية التي تدير القطاع منذ عام 2007، وربما إيجاد بديل دولي لـ"الأونروا" أيضاً.
يقول غالانت في تصريحاته ذاتها عن الممر البحري: "سوف نتأكد من أن المساعدات تذهب إلى من يحتاجها، وليس إلى من لا يحتاجها"، مضيفاً: "سنجلب المساعدات من طريقٍ بحريٍ منسق مع الولايات المتحدة في الجانبين الأمني والإنساني، وبمساعدة الإمارات في الجانب المدني، ومع التفتيش المناسب في قبرص، وسنقوم بجلب البضائع التي تستوردها المنظمات الدولية بمساعدة الولايات المتحدة"، ولم يضف: "بتمويل خليجي".
ينسجم ذلك طبعاً مع تصريح غالانت ذاته بأن من يجب أن يتولى توزيع المساعدات في غزة يجب أن يكون محمد دحلان أو ماجد فرج، بحسب القناة 12 العبرية. ويرجح أن يكون الدحلان إذا اعتمدنا على موقع "يديعوت أحرونوت" في 10/3/2024، والذي أشار إلى دوره في الترويج للفكرة.
كما أنه ينسجم مع منطق استهداف دوريات الشرطة المرافقة لشاحنات المساعدات، وشرطة غزة بصورةٍ عامة، من طرف العدو الصهيوني، ويصب في القناة ذاتها، لأنه يفتح باب الفوضى، ويتيح التغطية على استهداف الغزيين الذين يلاحقون شاحنات المساعدات الشحيحة، تحت ذريعة أنهم اندفعوا، لدرء خطر المجاعة عن عائلاتهم، باتجاه شاحنات يواكبها جنود إسرائيليون، فـ"شعروا بالخطر، وكان لا بد من أن يدافعوا عن أنفسهم"، وهو الخطاب الدارج في الحوار الداخلي الإسرائيلي.
لا تتوقف القصة هنا، ففي سياق متابعة "فلتات اللسان" عند العدو وأنصاره، وجدت تقريراً في موقع يميني أبيض أميركي معروف، ومناصر للكيان الصهيوني، هو "ناشونال ريفيو" National Review، بعنوان: "ولمَ لا ترحب إسرائيل برصيف بايدن الغزي؟"، في 12/3/2024، يرى أن الممر والرصيف البحريين، على الرغم من أن إدارة بايدن سعت لإبرازهما كخطوة اعتراضية على سياسات حكومة نتنياهو، يفيدان "إسرائيل" عسكرياً في تحريرها من عبء مرافقة شاحنات المساعدات عبر مسالك القطاع، الأمر الذي كثيراً ما يعرضها لاستهداف المقاومين الغزيين، ومن عبء تخصيص قوات لذلك الغرض، كما يفيدانها إعلامياً في إزالة عبء تحمل مسؤولية إيصال المساعدات إلى قطاع غزة.
قبرص والاحتضان الأوروبي لفكرة الممر البحري إلى غزة
قبل ذلك كله، لا بد من الإشارة إلى أن فكرة فتح ممر بحري إلى غزة لم تبدأ مع بايدن أيضاً، بل سبق أن طرحتها قبرص في "مؤتمر باريس للسلام" في تشرين الثاني / نوفمبر الفائت، حين تبناها الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس، بدعم الاتحاد الأوروبي ودولٍ أوروبيةٍ شتى والأردن.
طرحت آنذاك مشكلة عدم وجود ميناء غزي قادر على استيعاب حمولات مثل هذا الممر. ومن هنا جاءت، على ما يبدو، فكرة الرصيف والجسر العائمين الأميركية.
المشكلة الأخرى التي أثيرت وقتها كانت طريقة مراقبة حمولات الممر البحري من طرف العدو الصهيوني، مع إصراره مسبقاً، بحسب مسؤول إسرائيلي كبير في موقع "بوليتيكو" في 9/11/2023، بأن لا تتضمن تلك الحمولات سوى الماء والغذاء والدواء، لا الوقود.
في الشهر التالي، أشارت تقارير في وسائل الإعلام الغربية، ومنها "المونيتور" و"بلومبيرغ" في 20/12/2023، أن قبرص والكيان الصهيوني بصدد وضع اللمسات النهائية على ممر بحري إلى غزة، ناقلةً تصريح وزير خارجية العدو الصهيوني السابق، إيلي كوهين، في مؤتمره الصحفي مع نظيره القبرصي، بأن قبرص و"إسرائيل" وشركاء آخرين في المنطقة يروّجون لمبادرة لتسهيل نقل المساعدات الإنسانية إلى غزة "بطريقة منظمة ومدققة جيداً".
بنيامين نتنياهو و "إسرائيل" كاتس يكشفان الطابق تماماً
وفي 10/3/2024، نشرت "جيروزاليم بوست" تقريراً خاصاً زعمت فيه، نقلاً عن مصادر دبلوماسية عليا، أن فكرة الممر البحري إلى غزة هي فكرة بنيامين نتنياهو، وأنه ناقشها مع الرئيس بايدن في 22/10/2023، أي بعد أسبوعين من عملية "طوفان الأقصى"، وأنه ناقشها بعد ذلك، في 31/10/2023 تحديداً، مع الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليدس. وإذا صح هذا الكلام، فيعني أن ذلك المشروع البحري الذي عوّم في "مؤتمر باريس للسلام" كمشروع أوروبي تبنّاه الأردن أيضاً، وأن ما قدمه بايدن كـ"موقف أميركي جاد" ضد إصرار حكومة نتنياهو على عرقلة وصول المساعدات إلى الغزيين، هو في الواقع مشروعٌ إسرائيلي.
ويبدو أن مشروع الممر البحري إلى غزة ليس جديداً أيضاً، وبحسب موقع "يورونيوز"، في 22/1/2024، فإن وزير خارجية الاحتلال الحالي إسرائيل كاتس، والذي حل محل إيلي كوهين بداية العام الجاري، أثار حفيظة وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي المجتمعين في بروكسل عندما استغل المناسبة كي يعرض فيديوهين أحدهما للمشروع الذي اقترحه، عندما كان وزيراً للمواصلات عام 2017، لإقامة جزيرة عائمة مقابل ساحل غزة تؤدي دورَ مركزٍ تجاريٍ يربط غزة مع بقية العالم، والثاني لإقامة سكة حديد بين الضفة وغزة، أي أن كاتس أبو فكرة الممر البحري إلى غزة!
أصرّ كاتس أمام المجلس الأوروبي أن مشاريعه جوهرية في سياق "الحل الدائم" للصراع، وأنها لا تعني تهجير الغزيين إلى تلك الجزيرة، ولا الموافقة على "حل الدولتين". فإذا أخذنا ما يقوله كاتس على محمل الجد، فإنه يعني ربط مشروع الممر البحري والرصيف العائم برؤية الليكود الذي ينتمي إليه، والتي تقوم على "الحل الاقتصادي للمسألة الفلسطينية".
ميناء إسرائيلي في قبرص استكمالاً للممر الهندي-الأوروبي؟
بحسب موقع "الراديو العام الأميركي" PBS في 12/3/2024، فإن جمعية "مطبخ العالم المركزي" غير الحكومية هي التي ستتولى توزيع الغذاء شمالي القطاع، وهي جمعية تدير منذ الآن 65 مطبخاً في القطاع، وهو أمر ذو مغزى في الأجندة الإسرائيلية.
يضيف تقرير الموقع أيضاً نقلاً عن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بأنها "المرة الأولى التي يسمح فيها بإيصال المساعدات مباشرةً إلى غزة منذ عام 2005"، كأن ذلك انتصارٌ سياسيٌ عظيم، وبأن "الاتحاد الأوروبي سوف يستخدم سفناً صغيرة لإيصال المساعدات إلى القطاع ريثما يكتمل تشييد الرصيف العائم الأميركي".
تكتمل الصورة بعض الشيء مع نشر تقرير في "يديعوت أحرونوت" في 10/3/2024 عن توجه وفد إسرائيلي إلى قبرص، بناءً على توجيهات وزيرة المواصلات والبنية التحتية من الليكود، ميري ريجيف، لشراء ميناء في قبرص بقيمة 140 مليون دولار، على أن تكون مهمة ذلك الميناء، بحسب تقرير "يديعوت"، ما يلي:
أ – تفتيش شحنات المساعدات المتوجهة عبر الممر البحري إلى غزة.
ب – استقبال شحنات البضائع المتوجهة إلى الكيان الصهيوني، وتوجيهها إلى ميناء "أسدود" أو "إيلات"، في حال تعطل ميناء حيفا نتيجة الصراع مع حزب الله على الجبهة الشمالية.
ج – استكمال الممر الهندي-الأوروبي بمحطة بحرية ترسل إليها البضائع من موانئ الكيان الصهيوني المختلفة، ومن هناك إلى أوروبا.
أما الشحنات المتوجهة إلى غزة، فسوف تحول إلى ميناء "أسدود"، ومن هناك براً إلى غزة، حتى يستكمل الميناء الأميركي العائم في غزة، بما يناقض ما قالته أورسولا فون دير لاين تماماً.
الممر البحري كمخرج سياسي لأحد الملفات الخلافية في حكومة نتنياهو
ثمة مشكلة في إيصال المساعدات عبر المعابر البرية إلى غزة، وهو الحل الأمثل بطبيعة الحال، وهي المعارضة الشديدة لذلك في حكومة الاحتلال وفي صفوف الرأي العام الإسرائيلي، بدلالة الاحتجاجات المستمرة عند معبر كرم أبو سالم والتي منعت مئات شاحنات المساعدات من الوصول إلى غزة.
ولعل أحد أهداف الممر البحري، من دون مشاركة رسمية لحكومة نتنياهو في إقراره، التقليل من تفاقم الخلافات في صفوف المحتلين عن طريق إلقاء ذلك الملف في حضن داعمي "إسرائيل" في الخارج، بما يحافظ على وحدة حكومة نتنياهو أيضاً، الأمر الذي يفسر بعضاً من الضوء الأخضر الذي منحه للممر البحري، كما يوحي تقرير "تايمز أوف إسرائيل" في 7/3/2024.
هل افتتح الممر البحري بضغط إماراتيٍ حقاً؟
بناءً على كل ما سبق من دلائل ومؤشرات بأن الممر البحري مشروعٌ إسرائيلي، وأنه ليس جديداً، كان من المضحك ما ادعاه موقع I24 الإسرائيلي في 10/3/2024، في تقرير زعم أنه "خاص"، بأن الإمارات هددت بقطع الممر البري من الإمارات إلى الكيان الصهيوني عبر السعودية والأردن إذا لم تصل المساعدات إلى غزة، وبأنها اقترحت على بايدن تشييد ميناء في غزة بدعم "رجال أعمال إماراتيين وفلسطينيين"، وبأن واشنطن أدركت خطورة الموقف فوافقت في الحال على الفكرة وتبنتها، وبأن ذلك كان خلف مسارعة بايدن إلى الإعلان عن الممر البحري والرصيف العائم في خطاب "حالة الاتحاد". وقد أضاف الموقع أنه اتصل بمكتب نتنياهو للتحقق من هذه الرواية لكنه "رفض التعليق".
لكنْ، لا بد من التعليق على هذه "المعلومات" من منظور مواطن عربي عادي: كثيراً ما تزعم الأنظمة العربية المطبّعة أن تطبيعها مع العدو الصهيوني هدفه "مساعدة" الأهل في فلسطين المحتلة، وبأنهم لولا التطبيع لما تمكنوا من تمرير المساعدات إلى غزة مثلاً.
والحقيقة أن مثل ذلك الخطاب، والذي طالما رُدد على مسامع مقاومي التطبيع في الأنظمة المطبعة، عبارة عن هراء، والدليل أن معبر رفح بقي مغلقاً، بعد 46 عاماً على "كامب ديفيد"، مع أن "إسرائيل" لا تتحكم به لوجستياً، وأن الحالات الاستعراضية لإلقاء بعض المساعدات من الجو، والنزر القليل من المساعدات الذي دخل عبر معبر كرم أبو سالم الذي يتحكم به الإسرائيليون لا يسد رمق حارة واحدة في مدينة غزة، من دون التوقف عند الطريقة المهينة لإيصالها.
الأهم من ذلك كله أن قصة غزة ليست قصة مساعدات، ولا يجوز اختزالها بتلك الطريقة، بل قصة أرض محتلة وشعب مقاوِم. لذلك، فإن أي تطبيع عربي وإسلامي يقدم غطاءً سياسياً "أخوياً" للاحتلال وما يمارسه في فلسطين أرضاً وشعباً ومقدساتٍ، من القدس إلى الغور إلى غزة إلى الجليل إلى النقب، وأن إقامة علاقات طبيعية مع عدو مجرم يعني فعلياً الموافقة على إجرامه، ويعني تحويل قصة غزة إلى قضية "رهائن لا بد من الضغط لإطلاق سراحهم"، و"جائعين لا بد من إطعامهم".
إن واجب العربي والمسلم إزاء أخيه الذي يتعرض لعدوان خارجي هو دعمه بالسلاح والمال والمتطوعين، وعدم تقييد المبادرات الشعبية التي تنحو بهذا المنحى، وقطع النفط والغاز عن داعمي العدوان الغربيين... إلخ. أما الحد الأدنى الذي لا يمكن النزول عنه فهو قطع العلاقات كافةً مع العدو الصهيوني، ولن تعدم أمة فيها 500 مليون عربي ونحو ملياري مسلم الوسائل لإيصال الدعم رغماً عن العدو عندما تتوافر الإرادة.