المؤتمر الاقتصادي المصري: استمرار الرهان على "سياسات الإصلاح"

ركّز المؤتمر الاقتصادي المصري 2022 على مسألة دعم القطاع الخاص المحلي، وبذل كل ما هو ممكن من جانب الدولة بهدف تعزيز دوره في الاقتصاد المصري.

  • المؤتمر الاقتصادي المصري: استمرار الرهان على
    المؤتمر الاقتصادي المصري: استمرار الرهان على "سياسات الإصلاح"

على مدار 3 أيام، بداية من 23 تشرين الأول/أكتوبر، شهدت مصر فعاليات تجمّع ضخم تحت عنوان "المؤتمر الاقتصادي – مصر 2022". وقد ضمّت جلسات المؤتمر الذي انعقد في العاصمة الإدارية الجديدة عدداً من كبار المسؤولين المصريين والخبراء في المجالات الاقتصادية المتنوعة، إضافة إلى 21 جهة محلية ودولية فاعلة في السياق ذاته. وقد حظي المؤتمر بتغطية مكثفة من وسائل الإعلام المحلية، وترويج دؤوب في مواقع التواصل الاجتماعي.

بحسب البيانات الرسمية، فإنّ المؤتمر انعقد بموجب توجيهات من الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، واستهدف تحديد معالم خارطة الطريق الاقتصادية التي يمكن للدولة أن تسير في ضوئها خلال الفترة القادمة، إضافة إلى اقتراح المخططات السياسية والاقتصادية التي يمكنها أن تساهم في رفع كفاءة الاقتصاد المصري وزيادة مرونته وقدرته على جذب الاستثمارات الخارجية وتعزيز دور القطاع الخاص المحلي، عبر الإعلان عن مجموعة من الحوافز لقطاع الصناعة والتصدير.

ركّز المؤتمر في جلساته العديدة التي عُقدت ضمن المسارات الثلاثة للمؤتمر على مسألة دعم القطاع الخاص المحلي، وبذل كل ما هو ممكن من جانب الدولة، بهدف تعزيز دوره في الاقتصاد المصري عبر رفع العوائق الإدارية ومحاربة الروتين الحكومي، إضافة إلى تقديم العديد من المقترحات اللازمة لجذب الاستثمارات الأجنبية.

يأتي ذلك متساوقاً مع تهميش الحديث عن أي مخططات لتنمية القطاع الاقتصادي المملوك للدولة، بالشكل الذي يتوافق مع أجندة عمل الدولة المصرية خلال الفترة الحالية، وعلى مدار العقود الأربعة الماضية، والتي تقلل من الاعتماد على القطاع العام، وتراهن على الاستثمارات الخاصّة لسد العجز في الأسواق، والذي يتم تعويضه دوماً عبر الاستيراد المكثف من الخارج، ولعلاج البطالة المنتشرة في ربوع مصر.

ولكن مع عجز المستثمرين المحليين عن أداء دورهم المأمول، تذهب الدولة -بشكل متكرر- باتجاه مناشدة المؤسسات الأجنبية لتأسيس مشاريعهم داخل البلد، وسط حالة مستمرة من الجدل حول فعالية هذا المسار. في العموم، بدت كلمات المسؤولين المصريين مكررة إلى حد بعيد، إذ حاول الاقتصاديون تقديم وعود بتحسّن الأحوال مع تركيز الضوء على أن الصعوبات المحلية هي نتاج أزمة عالمية أثّرت بالسلب في الجميع، وأنَّ الزيادة السكانية في مصر في ظلّ ضعف الموارد تمثل عائقاً مهماً أمام التنمية.

مساعٍ حثيثة لاستمرار سياسة "الإصلاح الاقتصادي"

يسير الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة ضمن أجندة "إصلاح اقتصادي" تتوافق مع توجيهات صندوق النقد والبنك الدوليين. تركز الأجندة، كما هو معلوم، على خفض الإنفاق الحكومي وزيادة الموارد كوسيلة مباشرة لسد عجز الموازنة الناجم عن الفارق بين الإيرادات والمصروفات.

ويترتب على ذلك حزمة من الإجراءات التي تتضمن الخصخصة وزيادة الضرائب وتقليل حجم الرواتب التي تدفعها الحكومة عبر الحدّ من عدد الموظفين الحكوميين وخفض الدعم الذي تقدّمه الدولة للمواطنين بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وينجم عن ذلك ارتفاع في أسعار المواد الغذائية والوقود.

كما تتضمّن الأجندة الإصلاحية عزل الدولة عن التحكّم في سعر صرف العملة المحلية، وبالتالي يجري تحديد قيمة العملة وفقاً لقانون العرض والطلب، بالشكل الذي يتسبّب في تراجع منطقي للعملة المحلية في مواجهة العملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار، والسبب هو ارتفاع فاتورة الاستيراد بالشكل الذي يرفع معدل الطلب على العملات الأجنبية.

لم يكشف "المؤتمر الاقتصادي – مصر 2022" عن أيّ مخططات لتعديل المسار السابق، بل أثنى المشاركون على قدرة الدولة المصرية على قطع شوط طويل في مخططات الإصلاح التي توصي بها مؤسسات المال الدولية، وأن نجاح الحكومة في تطبيق السياسات المالية ضمن الخطة الاقتصادية التي انطلقت عام 2016، هي التي مكّنت الدولة من تحمّل المشكلات الاقتصادية التي نجمت عن تفشي وباء كورونا، الذي أدى إلى الضغط على السياسات المالية عند معظم دول العالم، وخصوصاً البلدان النامية، وأن البرامج الاقتصادية للحكومة حققت لديها وفرة مالية تم توجيهها إلى الطبقات الأقل دخلاً.

وقد تحدّث رئيس الجمهورية في اليوم الأول من المؤتمر عن أنه "استثمر رصيده وشعبيته لدى الشعب المصري بهدف تمرير عملية الإصلاح والبناء"، وأن "رفع الدعم الجزئي عن الوقود في 2015، كان مغامرة بالشعبية في نظر البعض، وأنه واجه معارضة من جانب كبار رجال الدولة أنفسهم".

وتعرض الرئيس المصري كالعادة لمسألة فقر موارد الدولة المصرية، وبالتالي فهي عاجزة عن تلبية طموحات المواطنين، وأنها اعتمدت على مساعدة الخارج، وأن دخل مصر لا يقارن بدول أخرى أصغر حجماً لكنها منتجة للبترول.

أما وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، هالة السعيد، فأكَّدت أن مصر شهدت برامج متعاقبة للإصلاح الاقتصادي في مصر بدءاً من عام 1991 وحتى برنامج الإصلاح الاقتصادي عام 2016، والذي قامت الدولة من خلاله بإصلاح مالي ونقدي، وإصلاح تشريعي من خلال إصدار حزمة من القوانين، وإصلاح هيكلي في قطاع الطاقة وتوجيه فائض الترشيد إلى الفئات الأكثر احتياجاً من خلال برامج الحماية الاجتماعية.

الحكومة المصرية بين التضخّم وقروض صندوق النقد

يشتكي عموم المصريين من الارتفاع المستمر للأسعار، ولا يملكون سوى الترشيد والتقشف، فيما يعتبره الخبراء عرضاً للأزمات التي يواجهها الاقتصاد المصري، ما بين تضخم وتراجع في أسعار العملة الوطنية وارتفاع أسعار الفائدة وتأثير الحرب الأوكرانية.

وقد أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، الشهر الماضي، بلوغ التضخم في أسعار المستهلكين 15%، في مقابل نحو 14.6% خلال آب/أغسطس، مسجلاً أعلى معدل للتضخم السنوي لأسعار المستهلكين في مدن مصر منذ تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2018، عندما سجل التضخم مستوى 15.7%.

في المؤتمر الاقتصادي، كشفت الحكومة المصرية عن مخططاتها لعلاج الأزمة، وقالت إنَّها تستهدف السيطرة على معدلات التضخم، وضمان استقرار الأسعار في السوق بصورة سريعة، كما أنها تعمل على الحفاظ على صلابة القطاع المصرفي، وكذلك مواصلة جهود رفع كفاءة عمل سوق سعر الصرف، بما يسهم في تعزيز الاستدامة والصلابة للاقتصاد المصري.

وبالنسبة إلى الإصلاحات البنيوية، تستهدف الحكومة زيادة دور ومساهمة القطاع الخاص بالاقتصاد، بما يسهم في تحقيق معدلات نمو مرتفعة ومستدامة للاقتصاد، يصاحبها خلق فرص عمل كافية ومنتجة لكل الراغبين في العمل في السوق.

وقد أوضحت وزارة التخطيط المصرية، في سياق المؤتمر، تطور استثمارات القطاعين العام والخاص من إجمالي الاستثمارات الكلية، إذ وصلت نسبة الاستثمارات العامة عام 19/2020 إلى 62%، والخاصة إلى 38%، لافتة إلى أن نسبة المشتغلين بالقطاع الخاص تصل إلى 78.4%.

وعن الإجراءات المتخذة لتمكين القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي، قالت الوزارة إنها تتمثل بوثيقة تنظيم ملكية الدولة، وسياسة الحياد التنافسي، وإنشاء صندوق مصر السيادي، وتعديل قانون الشراكة مع القطاع الخاص رقم 67 لعام 2010، إلى جانب تفعيل بعض مواد قانون الاستثمار الخاصة بالحوافز الخضراء، وتحويل المنطقة الاقتصادية لقناة السويس إلى مركز صناعي لوجستي عالمي.

وكانت الحكومة المصرية كشفت في نيسان/أبريل الماضي أنها تستهدف نمواً اقتصادياً بين 6-7% في السنوات الثلاث المقبلة، وأن المستهدف هو خفض العجز الكلي للموازنة إلى 5.5% في 2023-2024. ويؤكد المسؤولون في مصر أن البلاد حققت بالفعل فائضاً أولياً عند 2%، لكنه تراجع بسبب جائحة كورونا، وأنها تطمح بالعودة إلى تلك المستويات.

وفيما يُلقي قطاع من المصريين اللوم على أجندة صندوق النقد الدولي، ويتّهمونها بأنها سببٌ رئيسي في ارتفاع الأسعار وتراجع قيمة الجنيه المصري، تؤكّد الحكومة استمرارها في مساعيها منذ مطلع العام الجاري لطلب تمويل جديد من الصندوق، وهي المرة الرابعة التي تتجه فيها مصر صوب صندوق النقد خلال أقل من 6 سنوات.

خلال عام 2016، ومع الإعلان عن برنامج الإصلاح الاقتصادي، حازت مصر تمويلاً بقيمة 12 مليار دولار. وبعدها بثلاثة أعوام، أعلنت الانتهاء من تنفيذ المرحلة الأولى من البرنامج. ومع تفشي وباء كورونا، عادت مصر إلى صندوق النقد لتحصل على 2.8 مليار دولار في إطار أداة التمويل السريع عام 2020، والتي أقرها الصندوق لدعم جهود الدول في مكافحة الجائحة، ثم في العام ذاته، حصلت مصر على 5.2 مليار دولار بموجب اتفاق استعداد ائتماني.

وتسعى مصر إلى الحصول على حزمة جديدة من صندوق النقد، على أمل وقف أزمة العملة التي قيدت الواردات وأثارت قلق السوق بشأن سداد الديون الخارجية. وبدأت المحادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة الدعم المالي في آذار/مارس بعد فترة وجيزة من الأزمة الأوكرانية التي أوقعت موارد مصر المالية غير المستقرة بالفعل في مزيد من الفوضى ودفعت المستثمرين الأجانب إلى سحب ما يقارب 20 مليار دولار من أسواق الخزانة المصرية في غضون أسابيع.

إلقاء اللوم من جديد على أحداث 2011

كان تخلّي الرئيس الأسبق حسني مبارك عن الحكم بعد 30 عاماً قضاها رئيساً للبلاد، وتولي المجلس العسكري قيادة البلاد في شباط/فبراير 2011، بمنزلة انتصار مدوٍ للقيم التي ناضلت في سبيلها القوى المعارضة، والتي تشكّلت بالأساس من حركات ليبرالية وإسلامية على تنوعها، إلا أنها في سياق آخر، ولدى معارضي الحراك، كانت بوابة الفوضى الأمنية والانهيار الاقتصادي التي فُتحت على مصراعيها لتهدد معيشة المواطنين واستقرار الدولة على حد سواء.

ينحاز الخطاب العام للإدارة المصرية في البلاد منذ حزيران/يونيو 2013 إلى الرأي الثاني. ودائماً ما يتم اتهام الثورة المصرية في الإعلام الموالي للدولة بأنها سبب رئيسي في كل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لحقت بالمصريين حتى اليوم، أي بعد مرور 12 عاماً على أحداث ميدان التحرير.

في سياق المؤتمر الاقتصادي، تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال الجلسة الافتتاحية والختامية عن "أن ما جرى في 2011 كان بمنزلة إعلان وفاة الدولة المصرية، وأن تكلفة التغيير وصلت إلى 470 مليار دولار.. وأن كل الأرصدة ضاعت فيما كان الناس يصفقون للتغير، وأن نتيجة الأحداث كانت وصول الإسلام السياسي إلى السلطة. وقد فشل في الحكم وتاجر بالدين"، وتابع "أن حالة التشكيك مستمرة في الدولة المصرية منذ 80 عاماً.. واستمرار التشكيك يخلق مجتمعاً غير سوي".

وأضاف "أن المتظاهرين ضغطوا على الحكومة في 2011 لتعيين مليون ونصف مليون موظف، وتسبب الأمر في رفع الأجور الملزمة بها الدولة من 80 إلى 230 مليار جنيه.. وأنه أوقف التعيينات الحكومية منذ 7 سنوات كجزء من مسار الإصلاح الذي تتجه نحوه البلاد".

ولاقت تصريحات الرئيس المصري صدى ملحوظاً لدى النشطاء السياسيين في مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تابع المؤيدون في اتهام الأحداث التي جرت في الفترة ما بين 2011 و2014 بالمسؤولية الكاملة عن الانهيار الاقتصادي الذي تعاني مصر تبعاته إلى اليوم، فيما اعتبر المعارضون أن مواصلة إلقاء اللوم على ثورة يناير، التي مرّ عليها أكثر من عقد، هي بمنزلة تهرب من المسؤولية وتشويش على الأسباب الحقيقية للتدهور الاقتصادي.

ردود فعل الشارع المصري تجاه المؤتمر

بعيداً من رجال الأعمال المصريين الذين اهتموا بالمؤتمر طمعاً في أن يقدّم المسؤولون برنامجاً لحل أزمة نقص الدولار اللازم لعملية الاستيراد، فإن عموم المصريين المنتمين إلى الطبقات الأقل دخلاً، كانوا قليلي الاكتراث إلى حد بعيد بالمؤتمر وجلساته والنتائج المترتبة عليه.

يُدرك الشارع المصري أنّ الحكومة دوماً ما تشير إلى أنّ المشكلات الكبرى للاقتصاد تعود إلى أسباب خارجة عن إرادتها، كالأوضاع العالمية أو الزيادة السكانية أو المؤامرات الخارجية أو تقاعس الإدارات السابقة عن تنفيذ المخططات اللازمة للتنمية، وتكون المؤتمرات الضخمة مناسَبة لتكرار تلك الادعاءات، مع وعود بالبحث عن حلول من دون تحديد جدول زمني لقطف الثمار.

في ضوء هذا الإدراك، صار المواطنون أقل انشغالاً بهذا النوع من الأحداث، وأكثر تركيزاً على أعمالهم الخاصة أو وظائفهم التي تضمن لهم دخلاً بالكاد يكفيهم. يأتي هذا الأمر دلالة على أن المواطن المصري صار أشدّ وعياً بصعوبة النجاة الجمعيّة، وباحثاً بدرجة أكبر عن كل ما يمكنه من النجاة كفرد، رغم صعوبة الأمر عملياً.

ربما أكثر ما سيلفت أنظار المصريين الناشطين في مواقع التواصل هو تصريحات رئيس الجمهورية التي جاءت ضمن كلمتيه في افتتتاح المؤتمر وختامه وأثناء المداخلات، والتي تضمنت شرحاً للأوضاع الاقتصادية الصعبة مع تعرّض لبعض الأحداث التي وقعت في الماضي وألقت بظلالها على الحاضر، وإن كان الحديث مكرراً إلى حد بعيد، كما أنه جاء خالياً من أي وعود كان يتشوق إليها المواطنون الذين يشتكون جراء ارتفاع الأسعار.

في الختام، لا شك في أن تحسّن الأوضاع الاقتصادية في مصر يتطلب أفكاراً خارج الصندوق (سواء كان صندوق النقد الدولي أو صندوق الاعتماد على "منح الأشقاء")، وأنَّ أشد ما يحتاجه المصريون حالياً هو مشروع جمعي يربط المصلحة الخاصة بالمصلحة العامة، وأن يكود عائد الاستثمارات الكبرى موجهاً إلى عموم المصريين، وليس إلى فئات بعينها، على أن يُعاد النظر في خطط "الإصلاح" برمتها، ويُعاد التقدير مرة أخرى للاقتصاد الوطني/والعربي المشترك، الذي تقطف الجماهير ثماره بشكل مباشر، ويوفر الاحتياجات المحلية، فلا تعود مصر، وهي أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان، مضطرة إلى استيراد نحو 80% من احتياجاتها، كما هو الحال اليوم.