العالم يبحث عن قيادة

ربما تكون الفرصة قد جاءت لموسكو نتيجة فعل خارج نطاق الحسابات الدقيقة، ولا حتى كثمرة لرؤية استراتيجية أو دراسة مستقبلية.

  • يشهد العالم إرهاصات الانتقال من النظام الدولي الأحادي القطبية إلى نظام دولي آخر لم ترتسم ملامحه بشكل مؤكد.
    يشهد العالم إرهاصات الانتقال من النظام الدولي الأحادي القطبية إلى نظام دولي آخر لم ترتسم ملامحه بشكل مؤكد.

بعد نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي، برز نظام القطبية الأحادية الصلبة، والذي مثّل علامة فارقة في تطور النظام الدولي والعلاقات الدولية، فتزايدت أولوية العامل الاقتصادي، وبرزت الثورة العلمية والتكنولوجية، وتراجعت أهمية القوة العسكرية في إدارة العلاقات الدولية، وبرزت نظريات فكرية وأيديولوجية غيّرت المفاهيم السائدة في فهم العلاقات الدولية، وانقسم العالم إلى نوعين من الدول: دول تحكمها التكنولوجيا، ودول تتحكم فيها الأيديولوجيا. وظهر فاعلون جدد من غير الدول، وأُفرِغت السياسة من مضامينها الاجتماعية والاقتصادية، وسيطرت عليها أبعاد طائفية وعرقية ومذهبية تعتمد الغرائز والانغلاق الفكري، على حساب السياسة التي تعتمد على العقل والفكر. وبدا واضحاً الفرق بيننا وبين الغرب، فهم يصنعون قضايانا، ونحن نحلّل قضاياهم، لكن الفكر الذي يصنع الواقع، أرقى بكثير من الفكر الذي يفسّر الواقع كما هو.

واليوم، يشهد العالم إرهاصات الانتقال من النظام الدولي الأحادي القطبية إلى نظام دولي آخر لم ترتسم ملامحه بشكل مؤكد، لكن الإشارات تشي بأنه سيكون نظاماً متعدد الأقطاب، بعد أن عاش العالم في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية في ظل النظام الثنائي القطبية الذي انتهى بتفكّك الاتحاد السوفياتي وبروز الولايات المتحدة الأميركية كقطب مهيمن على الساحة الدولية، فأصبح النظام الدولي أحادي القطبية وبشكل قوي وصلب. لكن تلك الصلابة ما لبثت أن تحولت إلى قطبية هشّة أشعرت الكثير من الدول "غير القانعة" بأن الفرصة ستكون سانحة ربما.

وبدا واضحاً أن القوة الشاملة للولايات المتحدة الأميركية بدأت بالتراجع، وإن احتفظت بالتفوّق العسكري على جميع دول العالم. فعلى الصعيد الاقتصادي تظهر المؤشّرات حجم المديونية الكبيرة على الحكومة الأميركية، أما على صعيد القوة الناعمة فقد بدت صورة الولايات المتحدة باهتة، في ظل فشلها الكبير في مواجهة فيروس كورونا وانكفائها عن تقديم المعونة لدول العالم، وهو ما أعطى الفرصة للصين لأن تبرز في هذا الجانب عبر تقديم الدعم الكبير لدول العالم، في ظل الاتهامات الأميركية لها باستخدام ما سمّته "دبلوماسية اللقاحات".

أما روسيا، فقد بدأت تشعر بفائض قوة بعد نجاحها في الإمساك بالملف السوري، وفي ظل تراجع الدور الأميركي في المنطقة، والذي تُوّج بالانسحاب الأميركي المهين من أفغانستان. هذا الانسحاب الذي وضع حلفاء أميركا في المنطقة في موقف محرج، بعد أن شاهد العالم كله كيف ترك الأميركيون مَن عمل معهم من الأفغان. 

وكان الرئيس بايدن، منذ وصوله إلى السلطة، قد تعامل مع حكام الشرق الأوسط من الأصدقاء بشيء من الفوقية والتعالي، فرفض استقبال أيّ منهم خلال عامه الأول. ومع الإعداد للحرب الأوكرانية من قبل الإدارة الأميركية، اضطر الرئيس بايدن إلى استقبال أمير قطر، رغبة منه في الضغط على قطر لزيادة الإنتاج من الغاز، لسدّ الفجوة في حال توقف الغاز الروسي عن الوصول إلى أوروبا. 

وكان التصعيد الكلامي ضدّ الصين والاتهامات الأميركية لم تتوقف، بل إن استراتيجية احتواء الصين كانت هي الأولوية على أجندة السياسة الخارجية الأميركية. لكن السياسة الصينية الهادئة، والعقل السياسي الصيني المفعم بالبراغماتية وصياغة الأهداف والسعي إلى تحقيقها، هذا السلوك من قبل الصين استطاع أن يجعل المواجهة معها مؤجّلة مرحلياً على أقل تقدير، فكانت المواجهة الأميركية والغربية مع روسيا هذه المرة. 

روسيا التي لم يكن أمامها خيارات، فإما السكوت والسماح للناتو بالوصول إلى حدودها وتهديد أمنها، وإما المواجهة والتصعيد واستثمار اللحظة التاريخية التي يشهدها النظام الدولي. فالولايات المتحدة عاجزة عن خوض أي حرب مباشرة، وأوروبا مفكّكة ومقسّمة، ودولها الأقوى (بريطانيا – فرنسا - ألمانيا) تعيش أسوأ عصر لها، فبريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، والرئيس الفرنسي مشغول بالانتخابات الرئاسية التي تهدّد مستقبله السياسي، أما ألمانيا فمستشارها حديث العهد وتنقصه الخبرة والحنكة السياسيتان اللتان تمتعت بهما ميركل التي جنّبت ألمانيا الكثير من المشاكل. 

لقد اتّضح لنا أن الأوروبيين خصوصاً، والغرب عموماً، لم يكونوا في الواقع كصورتهم المرسومة في أذهاننا أو كما كنا نعتقد، واتّضح أن أوروبا قارة عجوز بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتبيّن لنا جليّاً من هي الدول الفاشلة والنظم الهشّة غير القادرة على مواجهة أيّ أزمة تعصف بها.

ولأن الأحداث التاريخية الكبرى أحداث مركبة يتداخل فيها أكثر من عامل، لم تشذّ الحرب الأوكرانية عن تلك القاعدة. فالقوى الحاضرة في المشهد كانت قادرة على التقاط اللحظة التاريخية، فكانت الحرب التي ستشكل منعطفاً كبيراً في المشهد الدولي. فالخسارة العسكرية لموسكو تبدو غير واردة في ظل التهديد الصريح باستخدام السلاح النووي في حال اضطرت إلى ذلك. أما العقوبات الاقتصادية، فمن المؤكد أنها لم تفاجئ موسكو، حيث قامت بتحويل جزء كبير من احتياطياتها إلى الذهب واليوان الصيني، ووقّعت اتفاقيات مع الصين وإيران ستكون موسكو قادرة من خلالها على كسر طوق العقوبات الغربية.

إن إعلان الرئيس بوتين عدم بيع النفط والغاز إلا بالروبل، هو حدث تاريخي لم يُعجب الكثيرين ربما، فبدأوا بشتمه والهجوم عليه والتقليل من شأنه، متناسِين حقيقة أن شتم الحدث التاريخي لا تغيّره ولا تقلّل من تبعاته، والخبرة التاريخية تنبئنا بأنه لو نجح فستتم الإشادة به والثناء على مَن فعله. ولعل هذا الحدث سيكون له دور كبير في إنهاء القطبية الأحادية، من دون الحاجة إلى خوض حرب عالمية ثالثة. 

إنها حركة التاريخ، فالتاريخ أحياناً يهدي للمجتمعات فرصاً من هذا النوع، لكن ليس كل المجتمعات قادرة على اقتناص تلك الفرصة، إلا إذا أدركت أهمية تلك اللحظة التاريخية، وهذا الإدراك هو المهمة الأولى والأصعب التي يجب على النخب التنبّه إليها والعمل على استثمارها، وهو ما برز في الحالة الروسية، حيث ظهر دور النخب والاستراتيجيين الروس، أمثال ألكسندر دوغين وغيره. 

وربما تكون الفرصة قد جاءت لموسكو نتيجة فعل خارج نطاق المعقول المنظّم أو الحسابات الدقيقة، ولا حتى كثمرة لرؤية استراتيجية أو دراسة مستقبلية، لكنها فرصة إذا تمّ استثمارها فستغيّر من وزن روسيا كلاعب على الساحة الدولية. فوزن الفاعل السياسي لا يكون عادة بالشعارات واللغة الخطابية، بل بامتلاكه لمرتكزات الفعل السياسي، وأهمها العلم والشجاعة والحكمة. 

فالتاريخ لم ينتهِ بالهيمنة الأميركية على العالم، ولا الثقافات انصهرت في سياق الصدام الحضاري، فالتاريخ في حراك دائم، والثقافات شامخة لم تهتز في وجه رياح العولمة والأمركة، ولعل الحوار بين الحضارات هو الأقرب إلى العقل والمنطق والإنسانية. كما أن سلطة المركز لم تحلّ محل الدولة الوطنية والقومية المستقلة في الأطراف، وحقوق الإنسان التي ينادي بها الآخر في العالم، هي جزء من أعمال التحرر والتنمية، وهي جزء من غايات الإسلام ومَرامِيه قبل العولمة، ومنذ أكثر من أربعة عشر قرناً، والتنوع الطائفي والثقافي والمذهبي القائم في منطقتنا، لم يكن إلا شكلاً من أشكال التعددية التي كانت عامل قوة وبناء، لا نقطة ضعف أو أداة للهدم. 

واليوم، وعلى الرغم من كل التصريحات والمؤتمرات والعقوبات الغربية، نجد أن موسكو ماضية في حربها، التي لن تتوقف بتقديري إلا بعد تحقيق الأهداف المعلنة لها، ولعل الخاسر الأكبر هو أوكرانيا، ومن خلفها الدول الأوروبية التي بدأت تئن تحت وطأة ارتفاع الأسعار وازدياد معدلات التضخم. بل إنها ستتحمل أعباءً لم تكن تتوقّعها من حيث البحث عن مصادر للطاقة البديلة، وما يعنيه ذلك من حاجة إلى رأس مال كبير، أو شراء الغاز الأميركي المرتفع الثمن. ولعل المشكلة الكبرى والأكثر أهمية أن تلك الدول بدأت تفكر جدياً في بناء جيوش قوية، وهو ما سيحقق للولايات المتحدة الأميركية الهدف الأهم من هذه الحرب، ألا وهو بيع السلاح خدمة للمجمع الصناعي الحربي. 

من هنا فقد بدأت الدعوات الأوكرانية إلى التفاوض، بعد أن خذلهم الجميع، وبعد الخطابات المتعددة التي ألقاها زيلنسكي، سواء إلى الداخل الأوكراني أم إلى الاتحاد الأوروبي، أم الاستجداء الذي قام به في كلمته أمام الكنيست الإسرائيلي، مشبّهاً ما يحدث في أوكرانيا بالمحرقة المزعومة التي تعرّض لها اليهود، مذكّراً الكيان الصهيوني بما قدّمته له أوكرانيا قبل ثمانين عاماً، مضمّناً خطابه كل مضامين الحقد والكراهية والتحريض، ورافضاً الحياد الإسرائيلي المزعوم، وهو ما أعلنه صراحة بأنه يجب على "إسرائيل" أن لا تقف على الحياد، وأن تزوّده بالسلاح، وخاصة القبة الحديدية. وبعد الفشل في ذلك، بدأ بتوجيه الدعوات المتكررة إلى الرئيس بوتين للقائه، متناسياً أن التفاوض لا يكون إلا وفقاً لوزن الفاعل السياسي وقوته وتحالفاته الدولية وفعاليتها، ومن هنا فإن بوتين يرفض حتى اللحظة الجلوس معه إلى طاولة المفاوضات، انطلاقاً من إدراكه لقوة روسيا ومكانتها ودورها وقدرتها على الفعل. 

لقد أصبح من الواضح للجميع أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد قادرة على البقاء في مركز الريادة وتحمّل نفقات قيادة العالم، وبالتالي لم تعد أميركا هي الدولة الرائدة في العالم. ولعل ما شاهدناه من عجز كبير في طريقة تعاطي الإدارة الأميركية مع أزمة كورونا خير دليل على ذلك، والذي تُوّج آنذاك بإعلان الرئيس ترامب أنه لن يدفع الأموال المترتبة على الولايات المتحدة لمنظمة الصحة العالمية، والتي تبلغ 15٪ من تمويل هذه المنظمة.

وسط ذلك المشهد المرتبك، نرى العالم وكأنه يعيش حالة من الفوضى أو انعدام الجاذبية، فالكل يسبح في فلكه من دون أن يكون قادراً على تغييره، وهو ما يجعل الجميع يفكر في البحث عن قيادة تعيد إلى هذا الكوكب توازنه وتأخذه بعيداً عن مخلّفات القطبية الأحادية. 

إن الأوضاع الاقتصادية في جميع دول العالم تزداد سوءاً، وهناك الآلاف من الشركات التي أعلنت إفلاسها في أوروبا وأميركا، بينما الشركات الصينية عادت إلى الإنتاج بقوة وسرعة كبيرتين، وحققت أرباحاً خيالية، وهو ما سيساعد الصين على تقليص الفجوة الاقتصادية بينها وبين الولايات المتحدة الأميركية، وستلعب تقنية الجيل الخامس دوراً كبيراً في ذلك، وسيكون جزءاً من مستقبل العالم يتمحور حول إذا ما كانت الصين قادرة على تحمّل نفقات قيادة العالم وراغبة في ذلك، أم لا؟