الطلبة الأميركيون يعودون إلى مقاعد الأيديولوجيا في فصل غزة
غزة مست عصب النفوذ اليهودي العالمي، وصمود أهلها وبسالة مقاوميها هي ما ألهم الشعوب للانتفاض من أجلها، ولتجاوز ذاتهم من أجل قضية عامة.
جاءت مدهشة انتفاضة الطلبة الأميركيين من أجل غزة وفلسطين، بل يمكن القول إنها مثلت "طوفان الأقصى 3.0"، إذا عددنا تفاعل الجبهات المساندة، من جنوب لبنان إلى اليمن إلى العراق، "طوفان الأقصى 2.0".
ولعل أكثر ما هو مدهش فيها انبثاقها من العمق الاستراتيجي لما يمكن تسميته "الغرب الأقصى"، في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، من حيث ينبع دعم الصهيونية، بدلاً من "الشرق الأوسط"، ذلك المصطلح الاستشراقي الذي وضع لمحو الهوية وتهيئة المنطقة لتقبل "إسرائيل" ثقافياً.
لكنْ، هل تعفي الانتفاضة الطلابية، عالمياً وأميركياً، الأمة العربية وشعوب العالم الإسلامي، وخصوصاً شبابها وطلابها، من واجب دعم المقاومة بكل وسيلة ممكنة؟ وهل يجوز الاتكاء عليها، أو على فعاليات الجبهات المساندة وإنجازاتها، للانكفاء في مقاعد المتفرجين المصفقين أو الباكين؟ وهل يمكن أن تحققَ انتفاضة الطلبة الأميركيين ما لا يحققه إلا تولي عامة العرب والمسلمين أمر الصراع مع الطرف الأميركي-الصهيوني بأنفسهم وبأدواتهم؟
بالتأكيد لا، ولا، ولا! فالعرب، قبل غيرهم، أولى بالنصرة، بمعايير الجغرافيا والقرابة. وتعني النصرة تقديم الدعم بالمال والسلاح والتطوع وكسر الحصار وفتح الجبهات المساندة ومناهضة التطبيع، والتظاهر بمئات الآلاف والملايين دعماً للمقاومة، تماماً كما يفعل اليمنيون والمغاربة دورياً.
ومن يُسقِط أوهامه التسووية مع العدو الصهيوني على حراك الطلبة الأميركيين، معتقداً أنهم مركب الخلاص إلى عالمه الملوث كوكيلٍ للطرف الأميركي-الصهيوني في المنطقة، يشطح بعيداً، للأسباب الآتية:
أ – أن مشروع التسوية مع العدو الصهيوني ليس برنامج الحراك الطلابي الذي يركز على مقاطعة الكيان ووقف إطلاق النار في غزة في المدى القريب، وعند تناول المدى البعيد، يذهب إلى الحديث عن فلسطين من النهر إلى البحر غالباً، لا عن تعميم نموذج السلطة الفلسطينية في غزة مثلاً. وتجري الآن محاولات لتدجين الحراك واختراقه بطروحات التعايش.
ب – أن أكثر ما يميز الحراك الطلابي في الجامعات الأميركية أنه جاء من خارج المعادلات، لا من خلال جهود سفارات السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية في الخارج مثلاً، لا سمح الله، وأنه استهدف الدعم الأميركي للكيان الصهيوني، ودعم نخب الغرب للمجزرة في غزة، مباشرةً.
وتجري الآن محاولة إجهاضه والقضاء عليه بوسائل قمعية، كما سيأتي، لأنه يمثل حراكاً خارج السياق غربياً يُخِل بسلطة النخب الحاكمة فيه، كما لم يحدث منذ حرب فيتنام، ولأنه مسّ بالحركة الصهيونية ونفوذها في عقر دارها.
جـ – أن مشروع التسوية مع العدو الصهيوني، بمعنى "حل الدولتين"، سقط وانكشفت عورته بعد عقودٍ من اللهاث خلف سرابه، وأن استهتار النخب الصهيونية الحاكمة المزمن بمن يتبنونه فلسطينياً وعربياً، كان عاملاً آخر مساعداً، بعد مبدأ حق الشعوب في مقاومة الاحتلالات بدرجات، في إضفاء المشروعية على غزوة 7 تشرين الأول / أكتوبر المظفرة لدى كثيرٍ من الغربيين، وأن السقف الأعلى أميركياً وصهيونياً ما برح حكماً ذاتياً محدوداً بمسمى "دولة"، للسكان، وليس للأرض، في الضفة الغربية وغزة، "يشكل ضمانةً لأمن إسرائيل"، في خضم تهيئة كل الظروف لتحقيق "الترانسفير" الناعم أو الخشن للفلسطينيين.
الثمن الباهظ الذي يدفعه الطلبة المشاركون في الحراك التضامني مع غزة وفلسطين
أما القول إن الحراك الطلابي الأميركي جاء من خارج المعادلات، فلا يستند إلى خطابه مرتفع السقف فحسب، قياساً بما جرت عليه العادة في الغرب، أو إلى ازدهاره وانتشاره بمثل هذا البهاء في أقل مكان يمكن توقع نشوئه فيه، أي في الجامعات الأميركية بالذات، ولا سيما جامعات النخبة، بل إلى الثمن الباهظ الذي يدفعه المشاركون فيه فردياً، كما سنبيّن تالياً.
سأقتصر فيما يلي على الجامعات الأميركية بحكم احتكاكي المطوّل بجوّها العام، دراسةً وعملاً، وبمصادر المعلومات المحدثة عنها، تاركاً الجامعات الغربية الأخرى وحراكاتها لمن هم أدرى مني بها.
توجد نحو 4000 جامعة وكلية في الولايات المتحدة مخوّلة منح شهادات رسمية في المرحلة التالية للدراسة الثانوية، ثلثها تقريباً كليات تتم برامجها التدريسية في سنتين، وثلثاها في 4 سنوات، بحسب موقع وزارة التربية الأميركية.
أما المراجع التي تشير إلى نحو 6000 جامعة وكلية أميركية بالمجمل، فتضيف نحو ألفي معهد و"جامعة" تمنح شهادات "حضور برنامج" أو "متابعة منهاج" غير معترف بها رسمياً أو دولياً، كتدريب أو تعليم مستمر، أو لعشاق الشهادات الوهمية والألقاب الشكلية.
تسمّى الجامعات الأميركية التي تقدم برامج ماجستير فحسب "جامعات إقليمية" Regional Universities، والمقصود جامعات تخدم الولايات جهوياً. لكنّ أحد أهم مصادر نفوذ الولايات المتحدة الأميركية عالمياً ينبع تحديداً من "الجامعات القومية" National Universities، وهي الجامعات التي تشمل مكوّناً بحثياً وطيداً، لا تدريسياً فحسب، والتي تقدم برامج دكتوراه معمقة في تخصصات متعددة.
يبلغ عدد الجامعات القومية في الولايات المتحدة 439 جامعة، منها 227 جامعة حكومية، تتلقى دعماً حكومياً بصورة غير حصرية، و208 جامعات خاصة غير ربحية تجني عائداتها من الأقساط والتبرعات وبعض الدعم الحكومي، و4 جامعات خاصة تديرها شركات خاصة بغرض تحقيق الربح.
وتتلقى الجامعات الحكومية تبرعات خاصة، أما الجامعات الخاصة فتتلقى دعماً حكومياً، وإنما الاختلاف في النسب بين الاثنين. وتتلقى الجامعات الحكومية والخاصة موازنات من حكومات الولايات، الأمر الذي يفسر اختلاف أقساط الطلاب المقيمين في الولاية In-State Tuition مقارنةً بأقساط زملائهم القادمين من ولايات أخرى Out-of-State Tuition تضاف إليها رسومٌ أخرى في حالة الطلاب غير الأميركيين International Students.
جامعة هارفرد، أقدم جامعة أميركية، على سبيل المثال، جامعة خاصة غير ربحية لا تملكها شركة أو الدولة، وتؤول أصولها في حال حلها إلى ولاية ماساتشوستس التي سجلت فيها قبل قرون، لكنها تتلقى، بحسب آخر موازنة منشورة لها، 12.5% من عائداتها من الحكومة الفيدرالية، يذهب أغلبها لتمويل برامج أبحاثها بنسبة 66% من تكلفتها، أضافة إلى نحو 6% من أقساط طلابها على صورة منح طلابية.
وكان ذلك التمويل الحكومي هو الرافعة التي استغلها الكونغرس للتشهير برئيسة جامعة هارفرد السابقة كلودين غاي في جلسات عامة متلفزة وإطاحتها بتهمة "معاداة السامية".
تتيح الجامعات القومية الأميركية للولايات المتحدة تصدُر مراتب التصنيف الجامعي عالمياً، بـ 53 من أول 100 جامعة عالمياً، تليها بريطانيا بـ 8 جامعات، والصين بـ 6، وأستراليا بـ 6، وكندا بـ 6، وهولندا بـ 5، وسويسرا بـ 3، وهونغ كونغ بـ 3، وبلجيكا بـ 2، وسنغافورة بـ 2، وبجامعة واحدة لكلٍ من ألمانيا واليابان والبرازيل وفنلندا والدنمارك والنرويج.
هذا يعني أن التعليم العالي عالمياً يبقى أنكلو-ساكسونياً، مع اختراق صيني حقيقي بـ 9 جامعات في الصين وهونغ كونغ. أما المراتب العشر الأولى عالمياً فتحتلها 8 جامعات أميركية واثنتان بريطانيتان. أما المراتب العشرين الأولى، ففيها 14 جامعة أميركية، واثنتان صينيتان.
ليست كل الجامعات القومية الأميركية سواء طبعاً، إذ تتربع على رأسها مجموعة من الجامعات المتميزة تحتل مراتب متقدمة في التصنيف العالمي أيضاً مثل برينستون، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT، وهارفرد، وستانفورد، ويال، وجامعة بنسلفانيا، ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا CalTech، وديوك، وبراون، وجونز هوبكنز، ونورث وسترن، وكولومبيا، وكورنل، وجامعة شيكاغو، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وغيرها.
وثمة جامعات لا يقع تصنيفها العام ضمن الفئة الأولى أميركياً بالضرورة، لكنّ بعض كلياتها يصنّف ضمن الفئة الأولى في مجالها، في الإعلام مثلاً أو الهندسة الزراعية إلخ... وفي الحالتين، تخرّج تلك الجامعات نخبة النخبة ممن يفترض أنهم يملكون أعلى الفرص في تأمين مستقبلهم ومستقبل ذريتهم.
وإذا كانت أسماء بعض الجامعات أعلاه تبدو مألوفة من الإعلام فلأن بعض أعنف المواجهات والاعتقالات وفصل الطلاب المتضامنين مع غزة وفلسطين جرت فيها مؤخراً.
لكن مستقبلهم المهني والشخصي ليس وحده ما خاطر به الطلاب المحتجون من أجل غزة وفلسطين. وحتى نقدر معنى ذلك جيداً في السياق الأميركي، لا بد من البدء بشروط القبول في جامعات الفئة الأولى، ومنها الحصول على معدل عام في أعالي التسعينيات (من مئة)، أي 4.0 GPA، ومعدلات تفوق 1400، من أصل 1600، في امتحان دخول الـ SAT، أو معدلات تفوق 31، من 36، في امتحان دخول الـ ACT.
لكن هذا كله مجرد "فتحة عداد"، إذا صح التعبير، لأن الجامعات تأخذ الأكثر تفوقاً فقط من بين هؤلاء. فجامعة هارفرد تقبل 3% فقط ممن يتقدمون للانتساب إليها، وجامعة يال 5%، وجامعة كولومبيا 4%، أما جامعة كورنل فأكثر تساهلاً عند معدل قبول 7.5%، إلخ... أي أن التنافس للانتساب، بعد العلامات والمعدلات، يجري على الهامش بمؤهلات أخرى، مثل نشر بحث علمي في مجلة محكمة أو القيام بمشروع متميز في مجال التخصص، أو التميز رياضياً أو فنياً، ونتحدث عن سنة أولى جامعة هنا، أي أن الإعداد لدخول تلك الجامعات يبدأ في بداية المرحلة الثانوية فعلياً.
لنفترض، بعد ذلك كله، أن الطالب نال القبول الجامعي، فإن ذلك أيضاً يظل شرطاً ضرورياً غير كافٍ لمتابعة الدراسة، إذ هناك الأقساط الباهظة لتلك الجامعات، ولا سيما جامعات الفئة الأولى. لنأخذ وسطاً حسابياً هنا: في عام 2023، بلغ متوسط الأقساط والرسوم في جامعة كولومبيا نحو 62 ألف دولار سنوياً، وفي جامعة هارفرد نحو 58 ألف دولار...
وبلغ متوسط الأقساط والرسوم في الجامعات القومية الأميركية عام 2023 كما يلي: في الجامعات الخاصة نحو 45 ألفاً سنوياً، وفي الجامعات الحكومية 28 ألفاً لغير أبناء الولاية، ونحو 12 ألفاً سنوياً لأبنائها، يعني تخيلوا كلفة الأقساط والرسوم وحدها في 4 سنوات، من دون كلفة المعيشة.
تغطى تلك الرسوم والأقساط إما من الأهل في حالة الأثرياء، وهم قلة، أو من القروض الطلابية في الأعم الأغلب. لذلك، بلغت القروض الطلابية للأميركيين رقماً مهولاً هو 1.6 ترليون دولار، أي 1600 مليار، مع نهاية عام 2023، ويعد الطالب المدين مسؤولاً عنها إن تخرج أو لم يتخرج. وقد تغطى الأقساط من المنح، منح التميز مثلاً، والإعفاءات الجزئية أو الكلية، وتسقط المنحة بالضرورة إذا جرى فصل الطالب من الجامعة، ولو لأسباب غير أكاديمية مثل الاحتجاج من أجل غزة وفلسطين.
بهذا كله يخاطر الطلاب الأميركيون عندما يتضامنون معنا... والاعتقال أقل الهموم، إذ بلغ عدد من اعتقل منهم في الاحتجاجات نحو 3000 حتى الآن. أما عدد الذين فصلوا مؤقتاً أو بصورةٍ تامة، فلا يوجد تقدير مؤكد له، لأن الجامعات ترفض كشف تلك الإحصاءات، بحسب المواقع الأميركية المعنية.
ولما نتطرقْ بعد إلى الأساتذة الجامعيين الذين يعملون بعقد سنوي Adjunct Professors، والذين لم تجدد عقودهم، أو الأساتذة المثبتين في الجامعات Tenured Professors الذين يتعرضون للاضطهاد والتضييق والتشهير، بحسب تقرير مفصل في موقع "ذا إنترسبت" في 16/5/2024، بعنوان "أساتذة جامعيون يخسرون وظائفهم نتيجة مكارثية جديدة بشأن غزة".
وبعد ذلك كله، هناك "القوائم السوداء"، للطلبة والأساتذة المستهدفين، والتي تقلل فرصهم في العمل في المستقبل.
مسألة الحافز الأيديولوجي تعود إلى الواجهة من جديد
يمثل الإقدام على فعل تضحية كبير من أجل قضية عامة يفترض أنها بعيدة كل البعد، جغرافياً وثقافياً، عمن تبناها عملاً "أحمق" من المنظور البراغماتي الفردي قصير المدى وضيق الأفق. لكننا لا نتحدث عن مجموعة من الحمقى والمغفلين هنا، بل عمن أثبتوا جدارتهم واجتازوا أصعب الاختبارات كي يدخلوا جامعات الفئات الأولى والثانية والثالثة في الولايات المتحدة، ومن كان يجري تأهيلهم كي يصبحوا بيروقراط القطب الأوحد كما يفترض.
ويدرك القارئ اللبيب أن الحديث هنا لا يدور عما قام به الطلبة الأميركيون، بل عما لا نقوم به نحن. والأهم من الأثر السياسي لاحتجاجات الطلبة الأميركيين هو المثال الأخلاقي الذي يضربونه لنا كعربٍ ومسلمين: ما الذي فعلته من أجل غزة وفلسطين مؤخراً؟
الأمر الوحيد الذي يمكن أن يدفع المرء إلى تجاوز ذاته من أجل الذوبان في قضية أكبر هو العقيدة، أو الأيديولوجيا، أي منظومة القيم والمفاهيم التي تحكم رؤية الإنسان للعالم وطريقة تعامله معه.
وهنالك من ينظر إلى العالم بمقاييس المصلحة الخاصة فحسب، وتلك هي الأيديولوجيا البراغماتية، وهناك من ينظر إليه بمقاييس تتجاوز ذاته المعظمة: الأمة، الطبقة، جماعة المسلمين، البشرية، إلخ...
لعل بعض أولئك الطلبة ظنوا أنهم "أبناء النظام الأميركي" وورثته المستقبليون، وأن "القيم الأميركية" التي تشربوها تتيح لهم، لا بل تحضهم على، التعبير عن رأيهم المندد بالمجزرة الجماعية في غزة، بموجب "التعديل الأول" للدستور الأميركي First Amendment Rights على الأقل، والذي يضمن حق التعبير بمختلف أشكاله. وكانوا قد تلقنوا أن "الأنظمة الشمولية" وحدها هي التي تقمع حرية التعبير والاحتجاج والتظاهر، وأن الولايات المتحدة بلدٌ حر، وأنهم لم يمارسوا إرهاباً أو يعتدوا على أحد، وإنما ينتصرون لـ"حقوق الإنسان".
لعلهم ظنوا أن مناهضة الصهيونية كمناهضة غيرها، فرفعت في وجوههم ورقة "معاداة السامية"، ذلك السيف البتار في الغرب الذي توضع رقاب مليارات البشر على حد نصله، والذي سقط على عتباته أكثر من مثقفٍ عربي، وخصوصاً في الغرب، حيث الحفاظ على الذات في مواجهته مسألة حياة أو موت، فيندفع تحت وطأته إلى إنتاج تخريجات "تقدمية" أو "علمانية"، أو حتى "إسلامية"، تدين مجرد الحديث عن النفوذ اليهودي عالمياً، في عالم المال والأعمال أو السياسة أو الإعلام أو حتى الأكاديميا، من أجل تبرئة نفسه وتزكيتها غربياً.
ولو لم يكن مرتبطاً في عيشه بالغرب، بصورةٍ أو بأخرى، لما اضطر إلى ممارسة هذا النوع من الانتهازية الفكرية.
وبعيداً من السقوط الأخلاقي والسياسي الذي مارسته رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شفيق للحفاظ على منصبها باستدعاء الشرطة لقمع الطلاب المحتجين، واعتقال وفصل عددٍ منهم، فإن الخطر الأكبر فكرياً هو أولئك الذين يلعبون على حبال الأيديولوجيا والمبدأ كي ينتجوا مناهضة صهيونية لا تمس النفوذ اليهودي العالمي، والذي ما برحت تلعب منظماته دوراً مفصلياً في تدمير عددٍ كبيرٍ من الطلاب والأساتذة المناصرين لغزة وفلسطين في الولايات المتحدة الأميركية. وثمة معارك ضمير حقيقية تجري الآن على صعيدٍ فردي للصمود في وجهه.
مقارنة مع تجربة "احتلوا وول ستريت" Occupy Wall Street
أقامت حركة "احتلوا وول ستريت"، مركز رأس المال المالي الدولي في نيويورك، مخيماً في متنزه زكوتي Zuccotti Park في منطقة منهاتن السفلى، حيث تقع وول ستريت، من 17 أيلول / سبتمبر حتى 15 تشرين الثاني / نوفمبر عام 2011.
ومع أن الحركة كانت تطرح عناوين صريحة مناهضة للرأسمالية، ولهيمنة الاحتكارات على الاقتصاد الأميركي، وللنظام الأميركي الذي أنقذ البنوك المتعثرة في الأزمة المالية الدولية على حساب دافعي الضرائب، وكانوا أحياناً يسدون مداخل بورصة نيويورك، وشركات عالمية عابرة للحدود، فإن مخيمها استمر نحو شهرين، في متنزه زكوتي المملوك ملكيةً خاصةً، في حين لم يحتمل النظام الأميركي المخيمات الطلابية في الجامعات الأميركية بضعة أيام، أحياناً بذريعة أنها خاصة لا حكومية.
وعندما جرى فض مخيم "احتلوا وول ستريت"، نال المشاركون فيه أحكاماً مخففة جداً، وسمح لهم أن يعودوا إلى الاحتجاج، بشرط ألا يبقوا ليلاً، ولم يتح ذلك للطلاب الأميركيين المتضامنين مع غزة.
العبرة واضحة: غزة مست عصب النفوذ اليهودي العالمي، وصمود أهلها وبسالة مقاوميها هي ما ألهم الشعوب للانتفاض من أجلها، ولتجاوز ذاتهم من أجل قضية عامة.
وهي من قدم المثال الأعلى لهم في التضحية والفداء، فأعادوا إنتاجه على صورتهم. لكن تجربة الطلبة الأميركيين تثبت أيضاً أن الحديث عن مناهضة الهيمنة الأميركية يبقى حديثاً خاوياً إن لم يترافق مع مناهضة النفوذ اليهودي العالمي الذي تحميه تلك الهيمنة في غزة وفلسطين. ومن يريد تجاهل ذلك النفوذ، فإنه لن يتجاهله.