الصين وكندا.. توتر العلاقة الذي تريده واشنطن
يشوب علاقات الصين وكندا توترات بسبب توسع نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي، وأيضاً بسبب تايوان التي زارها الشهر الماضي أعضاء من البرلمان الكندي، الأمر الذي اعتبرته الصين انتهاكاً لمبدأ الصين الواحدة.
عندما أصبح جاستن ترودو رئيساً للوزراء في كندا عام 2015، كان هناك تفاؤل بدخول العلاقة بين الصين وكندا عصراً ذهبياً، وخصوصاً أنَّ الجانبين الصيني والكندي أكّدا أنَّ بيير ترودو، والد جاستن ترودو، أدى دوراً مهماً في تطوير العلاقات بين البلدين وتعزيزها خلال فترة توليه منصب رئيس الوزراء عام 1968، إذ كان الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية وإقامة العلاقات الدبلوماسية معها جزءاً من برنامجه السياسي، وهو ما تحقق عام 1970.
وقد ساهم ترودو الأب في حصول الصين على مقعد دائم في الأمم المتحدة عام 1971. ويرى البعض أنَّ تعزيز بيير ترودو العلاقات مع الصين كان أمراً أساسياً في قيام الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيسكون بتطبيع العلاقات مع الصين.
خلال السنوات الأولى من توليه منصب رئاسة الوزراء في كندا، نجح جاستن ترودو إلى حد ما في تطوير العلاقات مع الصين، إذ كان التوصل إلى اتفاق تجارة حرة معها من أولويات حكومته. ومن أجل ذلك، سافر إلى الصين مرتين عامي 2016، حيث بدأت المباحثات حول اتفاقية التجارة الحرة، وعام 2017، إلا أن كندا أعلنت عام 2020 تخلّيها عن فكرة التجارة الحرة مع الصين بعد تدهور العلاقات بين البلدين على خلفية اعتقال السلطات الكندية المسؤولة المالية لشركة هواوي الصينية، واعتقال الصين مواطنين كنديين بتهمة التجسّس. وحول التخلي عن فكرة التجارة الحرة مع الصين، قال وزير الخارجية الكندي السابق فرانسوا فيلييب شامبين "إن الصين عام 2020 ليست الصين عام 2016"، في إشارةٍ إلى تنامي نفوذها.
شهدت العلاقات الصينية الكندية منذ اعتقال المديرة المالية لعملاق الاتصالات الصينية، شركة هواوي، وابنة مؤسسها مينغ وانزو تدهوراً كبيراً. وقد جاء الاعتقال بناءً على طلب واشنطن نتيجة الحرب التجارية بين الصين وأميركا، فقد أعلن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب صراحةً أنه على استعداد لإسقاط التهم الموجّهة إلى ابنة مؤسس هواوي إذا كان ذلك يساعد الولايات المتحدة الأميركية في المفاوضات التجارية مع الصين. وفي عام 2021، أُطلق سراح المسؤولة المالية لشركة هواوي والمواطنين الكنديين بناءً على مباحثات تمت بين الجانبين الصيني والأميركي.
لطالما انتقدت أوتاوا انتهاك بكين لحقوق الإنسان في إقليم شينغيانغ، ووصل الأمر إلى حد إقرار مجلس النواب الكندي عام 2021 مذكرة غير ملزمة تقدَّم بها حزب المحافظين الذي يتخذ موقفاً متشدداً تجاه الصين، اعتبرت أن الانتهاكات التي تتعرض لها أقلية الإيغور المسلمة ترقى إلى جريمة "إبادة جماعية"، فيما امتنع كلّ أعضاء حكومة رئيس الوزراء الكندي من الحزب الليبرالي عن التصويت عليها.
ووقفت كندا إلى جانب الولايات المتحدة، وامتنعت عن المشاركة الدبلوماسية في أولمبياد بكين الشتوي الذي أقيم في شهر فبراير/شباط الماضي، بذريعة انتهاك الصين لحقوق الإنسان. وعندما أقرَّت بكين قانون "الأمن القومي" لهونغ كونغ عام 2020، ردَّت أوتاوا على ذلك بتعليق العمل باتفاقيةٍ مع هونغ كونغ لتسليم المجرمين وتجميد صادرات المعدات العسكرية الحساسة إليها.
ويشوب البلدين توترات بسبب توسع نفوذ الصين في بحر الصين الجنوبي، وأيضاً بسبب تايوان التي زارها الشهر الماضي أعضاء من البرلمان الكندي، الأمر الذي اعتبرته الصين انتهاكاً لمبدأ الصين الواحدة، وتدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية، إذ إن الصين تعتبر تايوان جزءاً من أراضيها، وترى أنها ستعود إلى حضن الوطن الأم عاجلاً أم أجلاً، فيما تطالب حكومة الحزب الديمقراطي في الجزيرة بالاستقلال.
ويُظهر فيديو انتشر في الآونة الأخيرة الرئيس الصيني شي جين بينغ وهو يوبخ رئيس وزراء كندا جاستن ترودو في قمة مجموعة العشرين في بالي، لتسريب الجانب الكندي تفاصيل عن اجتماع سابق تم بين الرئيسين، ما يسلط الضوء على العلاقة الباردة بين البلدين.
وكان الرئيس شي والرئيس ترودو أجريا محادثات على هامش قمة مجموعة العشرين، أثار خلالها ترودو مخاوف كندا من تدخل صيني محتمل في انتخابات 2019، إذ زعمت شبكة "غلوبال نيوز" الإخبارية الكندية أن 11 مرشحاً في تلك الانتخابات تلقوا تمويلاً من الحكومة الصينية.
وتأتي مناقشةُ رئيسِ وزراء كندا أمرَ التدخل الصيني في الانتخابات مع الرئيس شي بناءً على ضغط من حزب المحافظين الكندي الذي صرّح زعيمه بيير بواليافر بأنَّ رئيس الوزراء ترودو فشل في حماية الديمقراطية الكندية، ومطالبة أعضاء البرلمان من الحزب نفسه بإجراء تحقيق في تدخل الصين في الانتخابات.
وفي إطار آخر، اكتشفت وحدة أبحاث فيدرالية أن الحزب الشيوعي الصيني حاول ثني الكنديين من أصل صيني عن التصويت لمصلحة حزب المحافظين في الانتخابات الفيدرالية التي جرت عام 2021. واتهم رئيس حزب المحافظين السابق إيرين أوتول الصين بالتسبب بهزيمة ما يصل إلى 9 مرشحين من الحزب في الانتخابات الفيدرالية.
ويأتي لقاء الرئيسين أيضاً غداة إعلان كندا إلقاء القبض على مواطن صيني سابق لدى شركة الكهرباء العامة في مقاطعة كيبيك للاشتباه في حصوله على أسرار صناعية لمصلحة الصين. وعلى خلفية مزاعم كندا بالتجسس الصيني، أمرت أوتاوا 3 شركات صينية بالتخلي عن استثماراتها في شركات كندية تنشط في قطاع المعادن النادرة في أراضيها.
وحظرت كندا في شهر أيار/مايو الماضي استخدام شبكات الجيل الخامس التي تنتجها شركة هواوي، في خطوة كانت متوقعة، إذ يقوم حلفاء واشنطن بضغط منها على استبعاد الشركة بذريعة الأمن القومي. من ناحية أخرى، أغلقت كندا العديد من معاهد كونفوشيوس في السنوات الأخيرة بذريعة اتهامها بالتجسس لمصلحة الصين.
إزاء التوترات في العلاقات بين كندا والصين، كانت الأخيرة تدعو كندا دائماً إلى التوقف عن التسبّب بتدهور العلاقات الثنائية وملاقاتها في منتصف الطريق. في المقابل، ترى أوتاوا أن بكين قوة اقتصادية، ولها نفوذ ووزن، ولا يمكن تجاهلها، والتعاون معها ضروري لمواجهة التحديات العالمية، مثل التغيرات المناخية، لكن يجب توخي الحذر في التعامل معها. وقد اتهمها ترودو بأنَّها تستخدم ثقلها الاقتصادي للتلاعب بذكاء شديد بالدول الديمقراطية ضد بعضها البعض، وشدد على ضرورة تشكيل جبهة موحدة ضدها.
وعلى الرغم من العلاقات الباردة بين البلدين، فإنَّ الصين تعدّ الشريك التجاري الثاني لكندا. وقد نمت الصادرات الكندية إلى الصين عام 2021 بنسبة 14% على أساس سنوي، وهو أكبر معدل نموّ منذ عام 2018، لكن عام 2022 شهد انخفاضاً في الصادرات الكندية إلى الصين، وزيادةً في الواردات الصينية إلى كندا بسبب سياسة الإغلاق التي اتبعتها الصين جراء تفشي فيروس كورونا المستجدّ، إذ شكلت عملية الإغلاق مشكلة رئيسية للتجارة الكندية تمثّلت بانخفاض طلب المستهلكين الصينيين، ما أدى إلى انخفاض الصادرات الكندية إلى الصين مع استثناءات محدودة، أهمها استثناء الفحم الذي يعد عنصراً أساسياً في إنتاج الطاقة في الصين.
ومع تخفيف الصين تدريجياً لتدبير الإغلاق، من المحتمل أن يحدث مزيد من النمو في حجم التبادل التجاري بين البلدين، وخصوصاً أن الصين استأنفت منذ فترة شراء بذور الكانولا الكندية من شركتين تم حظرهما على خلفية اعتقال المديرة المالية لهواوي، وتشكّل السوق الصينية نحو 40% من صادرات الكانولا الكندية، إلا إذا ازدادت التوترات في العلاقات بين كندا والصين.
وفي إطار آخر، تعد الصين ثاني أكبر الدول إرسالاً للطلاب إلى كندا. وعلى الرغم من ذلك، فقد انخفض أعداد الطلاب الصينيين في الجامعات الكندية منذ عام 2019 بسبب تفشي وباء كورونا. وانخفاض الطلاب الصينيين في الجامعات والمعاهد الكندية، سواء بسبب فيروس كورونا أو نتيجة توتر العلاقات بين البلدين، يؤثر سلباً في الجامعات الكندية، إذ إنَّ الرسوم الدراسية للطلاب الأجانب أعلى بكثير من تلك التي يسددها المواطنون الكنديون، وتشكّل مصدر دخل مهم للجامعات والمعاهد الصينية.
من ناحية أخرى، يشكل السيّاح الصينيون نسبة كبيرة جداً من مجموع السياح الذين يأتون إلى كندا؛ ففي عام 2019، زار نحو مليون شخص من الصين وماكاو وهونغ كونغ وتايوان كندا، وأنفقوا نحو 1.9 مليار دولار، ولكن في عام 2020، انخفض هذا العدد إلى 150 ألفاً بسبب تفشي وباء كورونا. وبناء عليه، فإن انخفاض السياح الصينيين لأيّ سبب يؤثر في الإنفاق، وبالتالي يلحق خسائر بالقطاع السياحي الكندي.
يواجه رئيس وزراء كندا جاستن ترودو ضغوطاً كبيرة من حزب المحافظين المعارضين الذي يدعو إلى اتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه الصين، ووضع خطة قوية لمواجهة التدخل الأجنبي الصيني المزعوم في كندا، ومن الولايات المتحدة الأميركية التي جرّت كندا إلى حربها التجارية مع الصين عبر الطلب من أوتاوا اعتقال المسؤولة المالية لشركة هواوي الصينية، والدخول في التكتلات والأحلاف التي تنشئها لمواجهة الصين وإعاقة نموها وتقدمها.
في الحصيلة، فإنّ استمرار تدهور العلاقات الصينية الكندية وقيام الطرفين باتخاذ إجراءات عقابية أو كيدية، وأحياناً تحت الضغوط الأميركية، ضد بعضهما بعضاً، كمنع السلطات الكندية الشركات الصينية من الاستثمار في كندا وقيام الصين بحظر استيراد بعض المنتجات الكندية، سيلحق ضرراً بالجانبين، ولا سيّما الجانب الكندي، إذ تعد الصين ثاني أكبر شريك تجاري لكندا، كما أنّها تمثل أكبر الأسواق المهمة في آسيا لشركات التكنولوجيا الكندية.