الساحل الأفريقي: المدلول وواقع التعامل الجزائري

تعتمد الدراسات التي تتناول منطقة الساحل الأفريقي على تقسيمها إلى 4 دوائر رئيسة تجتمع كل منها على خصوصيات جيوسياسية وطبيعية متعددة.

  • الساحل الأفريقي: المدلول وواقع التعامل الجزائري
    الساحل الأفريقي: المدلول وواقع التعامل الجزائري

الساحل الأفريقي أو الساحل الصحراوي الأفريقي: التسمية والمدلول 

إنها منطقة يتعسر تحديد امتدادها القاري بشكل دقيق ومحدد. يعود ذلك إلى عوامل جيوبوليتيكية وحضارية متعددة، جعلت الشريط الساحلي حلبة للصراعات والتجاذبات الدائرة بين قوى وفواعل حكومية وغير حكومية، إذ بات الساحل الأفريقي بؤرة رهانات دولية، لغناه بالثروات الطاقوية والمنجمية.

في قراءة أولية، تطلق تسمية الساحل الأفريقي على الإقليم الواصل بين شمال أفريقيا أو ما يعرف بأفريقيا البيضاء (المغرب العربي) شمالاً وأفريقيا السوداء جنوباً. وقد تحمل تسمية الساحل دلالة على الخط الحدودي الذي يفصل بين البحر المتوسط وأفريقيا ما وراء الصحراء، وهي منطقة شبه جافة ذات سمات طبيعية وبشرية وحضارية متشابهة، تمتد من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، لتشمل السنغال، موريتانيا، النيجر، مالي، بوركينا فاسو، أجزاء من نيجيريا، تشاد، انتهاءً بالسودان.

عملياً، يشمل مجال دول الساحل 5 دول، هي موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، في منطقة عرفت بـ"قوس الأزمات الساحلي"، حيث تلتقي الكتل الجيوسياسية الكبرى: المغرب العربي، والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، ومنطقة البحيرات الكبرى والقرن الأفريقي.

قُدّر نطاق دول الساحل بنحو 5.4 مليون كيلومتر مربع، وهي بذلك تمثل تجمعاً بشرياً يتجاوز تعداده 50 مليون نسمة، يتوزعون بين دول فقيرة ما زالت تئنّ تحت وطأة الإرهاب والصراعات الإثنية، فضلاً عن أزمات سياسية ومؤسساتية، تنوعت بين انعدام الشرعية والعجز الحكومي وارتفاع مؤشرات الفساد المالي والاقتصادي.

تعاني شعوب هذه المنطقة تردي الأوضاع المعيشية وندرة الغذاء وانتشار الأمراض والأوبئة، مع انعدام الأمن والاستقرار بفعل الانقلابات. وتستفحل ظاهرة الجريمة المنظمة، كتجارة السلاح والبشر والهجرة غير الشرعية، فضلاً عن تحولها إلى رواق عبور لمختلف أنواع المخدرات القادمة من أميركا الجنوبية باتجاه أوروبا والشرق الأوسط.

وقد تدلل التسمية سياسياً ومؤسساتياً على "الجمعية الدولية لمحاربة الجفاف في الساحل" التي تأسَّست عام 1971، والتي ضمّت حكومات 9 دول أفريقية، هي السينغال، غامبيا، موريتانيا، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، تشاد، جزر الرأس الأخضر، وغينيا بيساو.

تعتمد الدراسات التي تتناول منطقة الساحل الأفريقي على تقسيمها إلى 4 دوائر رئيسة تجتمع كلّ منها على خصوصيات جيوسياسية وطبيعية متعددة يمكن تحديدها على النحو الآتي:

1- دائرة الساحل السوداني: تشمل جمهورية مصر العربية ودول القرن الأفريقي (السودان، جنوب السودان، إثيوبيا، أرتيريا، الصومال، وجيبوتي)، وهي دول تتصارع في أغلبها بشكل متزايد بحثاً عن زعامة المنطقة، وخصوصاً بين مصر وإثيوبيا، وأيضاً بسبب تشاركها نهر النيل الذي يمتد من دول المنبع (إثيوبيا وكينيا وأوغندا وبورندي وروندا وتنزانيا والكونغو الديمقراطية) إلى دول المصب (السودان ومصر).

إلى جانب الثروة المائية، يتميز السودان الأفريقي بأراضيه الخصبة، فضلاً عن مقدراته المعتبرة من البترول في السودان وجنوب السودان. وتعتبر المنطقة مجالاً حيوياً للقائها شرقاً بأروقة العبور الكبرى (باب المندب والبحر الأحمر)، ما زاد وتيرة الصراعات الإثنية (داخل الدول) والدولية بين دولها وبين القوى العالمية الكبرى.

2- الدائرة التشادية: تضمّ كلاً من تشاد وليبيا، وهما دولتان شاسعتان. تقدر مساحة تشاد بـ1284000 كيلومتر مربع، وتزخر باحتياطات معتبرة من اليورانيوم والبترول. تنتج سنوياً ما يقدر بـ3190 طناً من مادة اليورانيوم، وتحوي ما يزيد على مليار برميل احتياطي من النفط.

أما مساحة ليبيا، فتبلغ 1759500 كيلومتر مربع، وهي أول احتياطي أفريقي من النفط بمخزون يتراوح بين 45 و48 مليار برميل، وتزخر أيضاً باحتياطي معتبر من الغاز يقدّر بحوالى 1548 مليار متر مكعب.

تمثل الدولتان مركز الشريط الساحلي، وهما تربطان أطراف المشرق والمغرب، وتشكلان أيضاً نقطة فصل بين أفريقيا الساحل الأفريقي وأفريقيا الاستوائية.

3- دائرة الشريط الساحلي الأفريقي الأفقي: تضمّ كلاً من النيجر ومالي والجزائر وموريتانيا والصحراء الغربية، وهي دول تزخر بالثروات المعدنية والطاقوية. تعد مالي منتجاً رئيسياً للذهب رغم حداثتها، وتعدّ النيجر من أقدم الحائزين على صناعة اليورانيوم، ما جعلها تصنف الرابعة في العالم. وقد بدأت إنتاج النفط في 2011.

 تتمتع الجزائر بمقومات جيوسياسية مهمة تؤهلها للبروز كقوة إقليمية، فهي الأكبر مساحة في أفريقيا والعالم العربي والبحر المتوسط، ويتعدى تعداد سكانها 43 مليون نسمة، وتمثل ثالث أكبر مخزون نفطي في أفريقيا بعد ليبيا ونيجيريا، بحسب إحصائيات مجلة الطاقة العالمية لسنة 2016.

كما تمثل ثاني أكبر احتياطي للغاز في أفريقيا، لتحتل المرتبة التاسعة كأكبر منتج للغاز الطبيعي في أفريقيا سنة 2016. بهذه التقديرات، تحتل الجزائر المركز العاشر عالمياً من حيث احتياطات النفط والغاز، وهي كذلك ثالث أكبر مزود بالفوسفات في العالم، فضلاً عن المعادن الأخرى، كالحديد والزنك والزئبق، إضافة إلى تنوع الأراضي الزراعية والصحراوية فيها. وتمثّل هذه الدائرة مركز الساحل الأفريقي ورواق الحركية بين الكتل القارية أفريقيا أوروبا والشرق الأوسط.

4- دائرة الغرب الأفريقي: الخليج الغيني يدخل ضمن نطاق "المنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا"، التي تشمل ليبيريا، غانا، السينغال، غينيا، سيراليون، التوغو، البنين، نيجيريا، الغابون، الكاميرون، بوركينا فاسو، وساحل العاج.

تحوز هذه الدول 8% من الاحتياطي العالمي للنفط، ما يمثل ربع مخزون القارة الأفريقية من البترول. ويمتاز نفط الخليج الغيني بميزة تنافسية، لجودته وسهولة استخراجه ونقله.

المقاربة الجزائرية للتعامل مع التهديدات الأمنية في دول الساحل

تعدّ الجزائر دولة ساحلية، وتمثل دول الساحل الأفريقي عمقاً استراتيجياً لها، ما عدا الحدود التونسية والمغربية، فالجزائر ترتبط حدودياً مع 5 دول من الساحل الأفريقي، هي ليبيا ومالي والنيجر والصحراء الغربية وموريتانيا، وهي فضاء يعج بمختلف التهديدات العابرة للحدود، ويمثل حلبة صراع دولي، ما فرض جملة من الأدوات والمقاربات للمحافظة على الأمن القومي والعمل على الحد من تأثير التهديدات المتنامية في الفضاء الساحلي، وخصوصاً بعد انهيار الدولة الليبية وتبعات التدخل الفرنسي في مالي عقب الإعلان عن عمليتي "سرفال" و"برخان".

عمدت الجزائر كأولوية إلى توظيف مقاربتها الأمنية لتقوم على التعاون مع دول الجوار، وذلك من خلال إبرام اتفاقيات تعاون ثنائية مع دول التماس الحدودي: تونس وليبيا ومالي والنيجر.

شمل التعاون المساعدات والقروض المالية، فضلاً عن تدريب فرق حرس الحدود، وتشكيل دوريات مشتركة، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وخصوصاً بالنسبة إلى دول الساحل التي عجزت عن محاربة الجماعات الإرهابية والحد من نشاطها.

وقد عملت على خطين في تعاملها مع دول الساحل الأفريقي:

1-   المبادرات السياسية والدبلوماسية

كانت مبادرة "دول الميدان" التي قدمتها الجزائر عام 2010 تضم كلاً من الجزائر ومالي وموريتانيا، بهدف إرساء التعاون الأمني بين الدول الأعضاء، ولا سيما في مجال مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.

وتعدّ المبادرة إطاراً إقليمياً جديداً للتعاون يستند إلى بعد عملياتي مؤطر. شملت المبادرة "قيادة أركان مشتركة لجيوش الدول المشتركة"، مقرها "تمنراست"، و"وحدة الإدماج والربط"، وهي هيئة استخباراتية مهمتها التنسيق بين أجهزة الاستخبارات الوطنية وتقاسم المعلومات المتعلقة بالشبكات الإرهابية والجريمة المنظمة. وتنسق هذه الوحدة عملها مع المركز الأفريقي للدراسات حول الإرهاب التابع للاتحاد الأفريقي، ومقره الجزائر العاصمة.

تمّت عرقلة هذه المبادرة بعد إعلان فرنسا عن عملية "سرفال" عقب الانقلاب الذي حدث في مالي وتدخل حلف الشمال الأطلسي في ليبيا.

2- المبادرات الاقتصادية والتنموية الجزائرية

أنشأت الجزائر عام 2001 مع مصر ونيجيريا وجنوب أفريقيا والسنغال الشراكة الجديدة لتنمية أفريقيا "نيباد"، وأدت الدور الرئيس كمفوض الاتحاد الأفريقي للسلم والأمن منذ تأسيس الاتحاد سنة 2002، وبادرت سنة 2012 إلى مسح ديون 10 دول أفريقية، قدرت قيمتها بـ3 مليارات دولار، واستفادت 14 دولة أفريقية، بما فيها دول ساحلية، من إلغاء 9.2 مليون دولار سنة 2013.

وفي السياق ذاته، استفادت مالي من مساعدات تجاوزت 100 مليون دولار، فضلاً عن التجهيزات العسكرية والمعدات لتشاد والنيجر وموريتانيا، واستأنفت الجزائر أشغال الطريق العابر للصحراء الكبرى الذي يربط الجزائر بمدينة لاغوس، مروراً بالنيجر، مع تفرعات نحو مالي والتشاد وتونس، على مسافة قدرت بـ4600 كم. 

ومن المنتظر ربط ميناء الحمدانية بهذا الطريق لتسهيل التبادل التجاري ورفع العزلة عن المدن والقرى في الجنوب الجزائري والساحل الأفريقي. وتأمل الجزائر تأسيس منطقة تجارة حرة في المنطقة.

مما تقدم، يبدو توجه الجزائر إلى تنفيذ استراتيجية شاملة تعمل على التموضع الناعم لتأمين أمنها القومي وتحقيق الاستقرار في محيطها الجواري بعيداً من التدخلات الصلبة.