الحرب في أوكرانيا.. أبعاد أخرى
بدا واضحاً أن الولايات المتحدة بدأت بتطبيق مبدأ "التخلص من الأعوان"، وخصوصاً الأوروبيين، إذ أصبحت القارة الأوروبية تعيش أسوأ حقبة سياسية واقتصادية واجتماعية.
الأحداث الكبرى في التاريخ هي أحداث مركبة يتداخل فيها أكثر من عامل، بدءاً من العامل السياسي والاقتصادي، مروراً بالعامل الاجتماعي الذي يكون المحرك لتلك الأحداث، والأكثر تأثراً بتداعياتها. وانطلاقاً من أنَّ النماذج ليست سوى اختزال للواقع، وربما لا تعبر بالضرورة عنه، فإن الحرب الأوكرانية لم تشذّ عن تلك القاعدة.
لقد استطاع الروس منذ البداية التفريق بين المكاسب الصلبة (ذات الطبيعة الاستراتيجية) التي يسعون لتحقيقها، والتي ستؤثر في مجريات الصراع، وبشكل جوهري، والمكاسب الهشة (ذات الطبيعة الاحتفالية) التي عمل الغرب على تضخيمها وصناعة النصر الزائف من خلالها.
واليوم، يشهد العالم منعطفاً خطراً في مسار الحرب الأوكرانية؛ منعطفاً يجعل من الصعوبة بمكان التكهّن بمآلات تلك الحرب وتطوراتها، وخصوصاً أنّ الولايات المتحدة تريدها حرباً مفتوحة كما يبدو، قد تشهد استخدام روسيا السلاح النووي، دفاعاً عن نفسها، وحمايةً لأمنها القومي.
ولا يزال البعض يعتقد أنَّ الحرب بين روسيا وأوكرانيا هي حرب محدودة بين دولتين، لكن واقع الحال يشير إلى أنها حرب عالمية التأثير، بل هي أخطر من الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ فتلك الحربان لم يتأثر بهما العديد من دول العالم، فيما أثرت الحرب الروسية الأوكرانية في العالم كله، وبشكل كبير، ولا يزال تأثيرها يتزايد يوماً بعد يوم.
إنَّ تطورات الحرب تشير إلى أن الولايات المتحدة تريد دفع روسيا إلى استخدام السلاح النووي، وهو ما ينسجم مع التوجه الأميركي إلى إشعال الحروب في جميع أنحاء العالم؛ تلك الحروب التي تعتقد واشنطن أنها ستكون الرابح منها سياسياً، واقتصادياً واجتماعياً ربما.
على الصعيد الاقتصادي، تحتل الولايات المتحدة الأميركية المرتبة الأولى في قائمة الدول الأكثر مبيعاً للسلاح، إذ تسيطر على نحو 38% من حجم تجارة السلاح في العالم. وبالتالي، فإن قيام الحروب سيزيد فعالية المجمع الصناعي الحربي في الولايات المتحدة وأرباحه.
وإضافة إلى ذلك، إن حدوث الاضطرابات في العديد من دول العالم جعل الشركات العاملة في تلك الدول تنقل نشاطها إلى الولايات المتحدة، نتيجة لغياب عنصر الأمان في تلك الدول أو لعدم توفر الطاقة الذي كان سبباً في هجرة عدد كبير من الشركات العاملة في الدول الأوربية إلى الولايات المتحدة الأميركية.
كما أنَّ إثارة الاضطرابات أثرت في استقرار سعر صرف العملات المحلية نتيجة لزيادة الطلب على الدولار، وهو ما جعل العملات المحلية تخسر نسبة كبيرة من ثمنها نتيجة لذلك. ولعل الحدث الأسوأ على الإطلاق هو رفع سعر الفائدة لأرقام غير مسبوقة، ما جعل الطلب على الدولار يزداد كثيراً، وبالتالي ارتفاع سعر صرف الدولار أمام جميع العملات المحلية الأخرى بنسبة لا تقل عن 12% وسطياً.
أما على الصعيد السياسي، فقد بدا واضحاً أنَّ الولايات المتحدة بدأت بتطبيق مبدأ "التخلص من الأعوان"، وخاصة الأوروبيين، إذ أصبحت القارة الأوروبية تعيش أسوأ حقبة سياسية واقتصادية واجتماعية.
لقد عادت أوروبا إلى الظلام بسبب انجرارها وراء السياسات الأميركية. وقد بدأت الأصوات الأوروبية المنتقدة للتوجهات الأميركية ترتفع شعبياً، وحتى رسمياً، إذ صرح الرئيس الفرنسي أنَّ بلاده لا يمكن أن تدفع ثمن الغاز للولايات المتحدة مضاعفاً 4 مرات.
أما الرئيس بايدن، فقد بدا واضحاً أن همه الوحيد كان خفض أسعار البنزين، مهما كان الثمن، إرضاء للناخب الأميركي. وقد نجح في ذلك من دون أي اعتبار لباقي الدول وشعوبها.
على الصعيد الاجتماعي والأخلاقي، فإنَّ روسيا اليوم تقاتل دفاعاً عن البشرية وقيمها وأخلاقها، إذ يشهد العالم اليوم انتصاراً كبيراً لليسار وقيمه على حساب القيم التي تنادي بنشر ثقافة تغيير الجنس وزواج المثليين وتحليل الإجهاض وتدمير الحياة الزوجية، وبالتالي تدمير مفهوم الأسرة والقضاء على العائلة بمفهومها الذي نعرفه، من خلال ما تروج له شبكة "نتفليكس" من انحلال قيمي وأخلاقي، وما ترسمه مؤسسة "راند" من خطط ومشاريع لتفتيت الدول من الداخل.
وكانت هيلاري كلينتون قد انتقدت صراحة رؤساء العالم المتدينين، ولم تقبل بأن يكون ذلك شأناً شخصياً خاصاً بهم، بل رأت أنهم يعيدون عقارب الساعة إلى الوراء، وأن وجودهم يشكل خطراً على المجتمع الأميركي. وقد عدَّت الرئيس بوتين من ضمن هؤلاء.
لقد أخذت إدارة بايدن على عاتقها متابعة السياسة التي بدأتها إدارة أوباما في نشر قيم اليسار والعمل على تصديرها إلى جميع دول العالم، وأن يكون ذلك هدفاً من أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
لقد أصبح التدين أياً كان، وفي أي مكان في العالم، خطراً يهدد سلامة المجتمع الأميركي من وجهة نظر اليسار الأميركي، وأن على الولايات المتحدة شن الحروب للقضاء عليه، دفاعاً عن المجتمع الأميركي وحرياته.
وكان الرئيس بوتين أشار عدة مرات إلى أن قيم روسيا تنبع من قيم الأديان، وأنها تريد الحفاظ على أخلاق الأطفال وسلوكياتهم، ومنع القوى الليبرالية من الإساءة إلى الطفولة وبراءتها. لذا، على العرب والمسلمين دعم بوتين والوقوف معه، لأن فكرة انتصاره ليست مرتبطة بهزيمة الولايات المتحدة والتخلص من هيمنتها فحسب، كما أنها ليست نابعة من حقد على الولايات المتحدة تشكل نتيجة لمواقفها ضد القضايا العربية، بل إن القضية أكبر من ذلك بكثير.
القضية تتعلق بتدمير النفس البشرية بالكامل عبر نظريات عنصرية خطرة، مثل المثلية والمليار الذهبي وما إلى ذلك من أفكار شيطانية هدامة، فالولايات المتحدة لا تعادي العرب والمسلمين فحسب، بل إن اليسار الحاكم في الولايات المتحدة اليوم يعادي جميع الأديان والقيم والمعتقدات، كما أنه معادٍ لجميع المجتمعات المحافظة وقيمها.
لقد اعتدنا في كلمة النوع البشري خيارين، ولكننا نجد أنَّ بعض الدول بدأت تستخدم 3 خيارات، بل إن بعض الجامعات، وحتى في بعض الدول العربية، أصبحت تضع خياراً ثالثاً يتعلق بالمثليين أو المتحولين جنسياً، بل إن هذه الجامعات تشير في طلبات التوظيف والمنح الدراسية إلى أنها سوف تراعي جميع التنوعات، وأنها تدعم الفئات الأقل تمثيلاً، بمعنى أن هذا الجنس الثالث سيكون له الأفضلية، فإلى أين وصلنا! وإلى أين يُراد لنا أن نذهب؟
أما اليسار، فإنه يعمل على جعل النوع البشري ينقسم إلى 7 أو 8 أنواع، من دون مراعاة لدين أو قيم أو خصوصيات للمجتمعات. فحركة اليسار العالمية حركة خطرة لاقت في البداية مقاومة من بعض الدول والشخصيات، مثل المستشارة الألمانية السابقة إنجيلا ميركل التي كانت يمينية محافظة، وعملت على التقارب مع روسيا وبناء شراكة استراتيجية معها، عبر بناء خط "نورد ستريم 1" و"نورد ستريم 2"، كما أن ميركل كانت تدعم بناء تحالف أمني بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وعارضت انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي.
ومن الانتقادات التي وُجهت إلى ميركل "اليمينية" أنها قوّت روسيا، ووضعت ألمانيا تحت رحمة روسيا في مجال الطاقة. وبعد مغادرة ميركل، جاء بدلاً منها أولاف شولتس، وهو مستشار يساري. وكذلك الرئيس الفرنسي اليميني إيمانويل ماكرون الذي جرى العمل على إسقاطه ليأتي بعده رئيس يساري، لكن ذلك لم يتحقق.
روسيا اليوم ليس لها سوى حليفين هما: الصين والشرق الأوسط. ولعل التطورات الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط دفعت حلفاء أميركا التقليدين إلى تغيير سياساتهم ومحاولة التوجه شرقاً إلى روسيا والصين، فالعلاقة مع روسيا ستشكل بالنسبة إلى دول المنطقة أولوية على العلاقة مع الصين، لأن دول المنطقة تعيش حالاً من عدم الاستقرار السياسي، وتعاني معضلة أمنية مزمنة تحتم عليها البحث عن حليف، وليس عن تاجر فقط، وهذا ما لا تستطيع بكين القيام به على المدى المنظور.
ما زالت الصين غير متحمسة للانخراط في الأزمات الدولية. لذا، قد تبدو مترددة في الانخراط بمشكلات الشرق الأوسط المستحيلة الحلّ من وجهة نظر بكين، وخصوصاً ما يتعلق منها بالصراعات الدينية والعرقية، فهي صراعات تاريخية وقودها غياب العقل، والانتماءات دون الوطنية، والولاءات الضيقة، وغياب الدولة الجامعة المانعة القوية القادرة على بناء مجتمع حقيقي أساسه المواطنة واحترام المعتقدات.
ولعلَّ جميع الدلائل تشير إلى أن المعركة الوحيدة التي خسرتها روسيا منذ البداية هي الحرب الإعلامية، فالإعلام الغربي ما زال مسيطراً على المشهد الإعلامي العالمي، وهو المؤثر في توجهات الناس والمتحكّم في صناعة الرأي العام لديهم، وهو يتقن دوره كإعلام ما بعد الحداثة، إذ تحوّل من ناقل للحدث إلى صانع للحدث نفسه، عبر نشر الأكاذيب وبث الأحقاد والإشاعات المغرضة، والتي بدأت منذ اليوم الأول للحرب، عبر الحديث عن محاولات انقلابية في موسكو، أو الترويج لإشاعات تتحدث عن الحالة الصحية للرئيس بوتين...
يبدو أنَّ العالم كلّه ضد روسيا، لكن ذلك لن يؤثر في عزيمة الرئيس بوتين، فهو يمثل نمطاً من القادة الاستثنائيين في هذا الزمان؛ قائد مؤمن بعظمة دولته وحتمية استعادتها دورها ومكانتها الطبيعية، وهو مدرك تماماً أنه لا يحارب أوكرانيا، بل يقاتل دفاعاً عن الاتحاد الروسي والعالم كله. لذا، من المستغرب وقوف البعض ضده، فهل المطلوب منه الاستسلام والانهزام وترك بلده لليبرالية حاقدة متطرفة تستهدف المجتمعات في أخلاقها وقيمها ومعتقداتها!