الانتخابات الإيرانية: المعاني والأسئلة والإجابات
تشير هذه الانتخابات والدورات السابقة خصوصاً في العقدين الأخيرين إلى أنّ نموذج الديمقراطية الإيرانية في قالب الثورة الإسلامية مستقرٌ ومتين من ناحية استمرارية تداول السلطة ضمن ضوابط المشروع السياسي العام للنظام السياسي الحاكم.
كثيرة هي التفسيرات التي تعطى لمضامين الانتخابات الإيرانية، ليست تلك الرئاسية فحسب، بل أي مستوى من الاستحقاقات الانتخابية. أبعادٌ خارجية وأخرى داخلية، وغيرها ما يتعلّق بداخل الداخل، أي في قلب التيارات السياسية المتنافسة، أو ما يرتبط بالعلاقات الإقليمية القريبة.
لكن رسائل الانتخابات الإيرانية تشمل ذلك كلّه، وتضيف إليه بعداً يرتبط بفرادة نظام الحكم، وتطلّعاته البعيدة، التي غالباً ما ترنو إلى قيمٍ حضارية تضمّنه القيادة العليا مشروعها السياسي الذي لا يبدو بهذا المعنى محلياً أو إقليمياً فقط، بل هو رسالةٌ عالمية تطرح نظريتها لنظام الحكم الأمثل الذي تراه، وتتجاوز معه حصرية الثنائية العالمية التاريخية.
وبهذا المعنى، ليس فوز مسعود بازشكيان بحد ذاته هو الأهم، أو فوز سعيد جليلي لو أنه حصل، بل تلك المعاني الكامنة في طيّات هذه التجربة، وهي واسعة ولا تقتصر على الآتي:
المعنى الأول: ديمقراطية مستقرة، بموازاة استقرار اجتماعي وأمني
تشير هذه الانتخابات والدورات السابقة خصوصاً في العقدين الأخيرين إلى أنّ نموذج الديمقراطية الإيرانية في قالب الثورة الإسلامية مستقرٌ ومتين من ناحية استمرارية تداول السلطة ضمن ضوابط المشروع السياسي العام للنظام السياسي الحاكم، وهذا بدوره يؤشر أيضاً على منسوبٍ من الاستقرار الاجتماعي المطمئن إلى مستقبل الدولة والحكم فيها.
والإشارة هنا إلى "المنسوب المطمئن" هي إشارة معرفية لحقيقة أن لا استقرار بالمطلق في أي نظامٍ سياسي ينتهج منهج تداول السلطة من خلال الانتخابات، فأينما حضر انتخاب الشعب لممثّليه تحضر النسبية في التوجّهات، وبالتالي النسبية في قياس الاستقرار السياسي، وتبعاً لهذا الأخير يتأثّر الاستقرار في الميادين الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
المعنى الثاني: نظام قادر على استيعاب المفاجآت السلبية
وجّهت الانتخابات الرئاسية المفاجئة رسالةً كبيرة تعبّر عن قدرة الدولة والنظام السياسي على استيعاب الأحداث غير المتوقّعة، وإن كانت على أعلى مستوى من مستويات القيادة السياسية والدبلوماسية، وتخصّ قادة مؤثّرين في الاستقرار العام. كما عبّرت عن قدرة على توفير استجابة سريعة رادعة للقوى المعادية، وبما يحفظ تطوّر النظام السياسي ويتجنّب الاستدراج إلى استنزاف استراتيجي. هكذا امتصّت الجمهورية الإسلامية حدثاً مثل وفاة رئيسها الذي كان يمثّل حالةً مهمة في خريطتها السياسية الداخلية، ووزير خارجيتها الذي ترك بصمةً في علاقات بلاده الخارجية.
المعنى الثالث: منظومة قادرة على إدارة صراع إقليمي ضد "إسرائيل"
التوجّهات الرئيسة للمرشّحين الرئاسيين أثبتت أن التوجّه العام للمجتمع ملتزمٌ الوجهة الرئيسة والعنوان العريض للمشروع الإيراني في السياسة الخارجية، فالوجهة قبل الانتخابات كانت القضية الفلسطينية ورمزها القدس، وهي كذلك بعد الانتخابات بالبوصلة والرمز. ثم إن الأصوات على الضفتين أيّدتا الاتجاه نفسه الذي يخدم عناوين الصراع هذا.
المعنى الرابع: قوة إقليمية قادرة على إدارة "أزمة دوليّة" بوجه القوة الأولى في العالم
طالما أن حرب الإبادة على الفلسطينيين لا تزال دائرة، وتنطبق عليها مواصفات "الأزمة الدولية" من ناحية تدخّل قوى عالمية فيها وتداخل المصالح الدولية والإقليمية في جنباتها، ومساندة الولايات المتحدة للكيان، ووقوف إيران في المقلب الآخر تدافع عن الشعب الفلسطيني، فإن إدارة طهران لهذه الأزمة من ناحية محور المقاومة تمثّل عنواناً كبيراً يطرح نفسه على الاستحقاقات الانتخابية كلّها. وقد ترجمت الأصوات على الضفّتين تقدير الخيارات التي اتّخذتها القيادة الإيرانية بخصوص إدارة هذه الأزمة المستمرة، حيث لم يظهر اتجاهٌ سياسيٌ معارضٌ لتلك الإرادة، يكون مؤيَّداً بزخمٍ شعبيٍ محسوس.
المعنى الخامس: ديمقراطية فريدة قادرة على إدارة تناقضات
أظهرت الانتخابات أيضاً فرادة الديمقراطية الإيرانية من ناحية قدرتها على إدارة توجّهات داخلية مختلفة، وتظهير نموذجٍ ثقافي دافع لمثل تلك الفرادة. حيث لم تظهر في هذه الانتخابات مظاهر ملموسة تدلّ على طلب الإيرانيين ديمقراطيةً بالمواصفات الغربية الرائجة، بل على العكس من ذلك، فإن الاتجاه العام بقي مع هذه الانتخابات مؤيّداً لديمقراطيةٍ بمواصفاتٍ إيرانيةٍ بحتة، وهي ديمقراطية تحكمها دينامية تنافر مع المشروع الأميركي في المنطقة من جهة، ودينامية تصالحٍ مع الجوار العربي والإسلامي، وخصوصاً منه حلفاء أميركا، في استمرارٍ لدورتين سابقتين تغيّر خلالهما وزراء الخارجية، بين التيارين الإصلاحي والمحافظ، منذ محمد جواد ظريف (إصلاحي) ومع حسين أمير عبد اللهيان (محافظ)، ووصولاً إلى فوز رئيسٍ من التيار الإصلاحي، الأمر الذي يرجّح احتمال متابعة النهج الإقليمي نفسه، وهو نهجٌ مؤيّدٌ من القائد الأعلى للثورة آية الله السيد علي خامنئي، الذي وفي ذلك منع للفتنة بين أبناء المنطقة من ناحية، واستمرارٌ في مواجهة المشروع الذي يهدف إلى ضرب استقلالها من ناحيةٍ ثانية.
المعنى السادس: تأكيد أهمية الأبعاد الداخلية للاستحقاق وأعلاها البعد الاقتصادي-الاجتماعي
أثبتت هذه الانتخابات أنّ للأبعاد الداخلية أهمية قصوى في تحديد اتجاهات الناخبين، وتحديد الشؤون الاقتصادية والاجتماعية كعناوين أولى في محفّزات تفضيل مرشحٍ على آخر، على العكس مما يروّج كثيراً في الإعلام المناهض لإيران من أن اختيار مرشحٍ إصلاحي في مواجهة مرشحٍ محافظ يعني رغبةً عارمة في تغيير السياسة الخارجية، أو قراءة مراكز التفكير ووسائل الإعلام المناهضة لطهران أن اختيار إصلاحيٍ ينشأ من طلبٍ للتغيّر في مشروع إيران العام في المنطقة والعالم.
علماً أن تناقضاً صارخاً يبرز من تلك الاتهامات التي توجّه لإيران. فإن كانت القضايا الداخلية وحدها التي تحدّد هوية الرئيس، يجب الاستنتاج حكماً أن الناخب لا تهمّه هوية الحلفاء والخصوم، أما إذا كانت القضايا الخارجية وطبيعة العلاقة بالولايات المتحدة هي التي تحدّد هوية الرئيس، فإن الاستنتاج يكون بأن الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في الداخل تتراجع في أهميتها بالنسبة لخيارات الناخبين، والحقيقة أن التفسيرين قاصران عن شرح حوافز الناخب الإيراني. وقد أظهرت الانتخابات الحالية، الطارئة بعد وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي، أن في الاقتصاد والاستقرار الاجتماعي محرّكات أساسية لتوجّهات الناخبين من ناحية، تماماً كطلب سياسةٍ خارجية سيادية مؤيدة للعناوين العريضة للمشروع المقاوم من ناحيةٍ ثانية.
المعنى السادس: حماية التنوّع السياسي في الداخل
أظهرت الانتخابات أيضاً إصراراً من المستوى الأعلى في إيران على حماية التنوّع داخل النظام السياسي، وعدم الركون إلى أصواتٍ كثيرة فسّرت الانتخابات الحالية كاستجابةٍ للضغوط الخارجية فقط، التوقّع على أساسها بأن القيادة العليا سوف تمارس تأثيراً حاسماً لإيصال رئيسٍ من المحافظين، استجابة لاستحقاقات الحرب الدائرة على غزة، واحتمالات اندلاع حربٍ إقليميةٍ كبرى، وبالتالي تخبو الأصوات جميعها تحت قرع طبول الحرب. ما حدث كان مختلفاً تماماً، حيث حمى النظام السياسي التنوّع الداخلي وأحاط بمعركةٍ انتخابيةٍ حادة وشديدة التنافس، نشطت تحت سقف رؤية قائد البلاد الاستراتيجية.
المعنى السابع: إصرار الإيرانيين على إظهار سيادتهم في بلادهم
من خلال الانتخابات الحالية أعرب الإيرانيون عن رفضهم التدخّلات الخارجية في استحقاقاتهم، وقد انتخبوا المرشحين الذين يفضلونهم في المرحلة الحالية، على الرغم من التزامهم جميعاً، خصوصاً مرشحي المرحلة الثانية، بالخيارات الكبرى للدولة. ومعنى ذلك إصرارٌ على حماية السيادة الوطنية من ناحية، وحماية حقّ الناخبين من ناحيةٍ ثانية.
المعنى الثامن: انبثاق تحديات سياسية واقتصادية جديدة مرتبطة بتغيّر أشخاص الحكم
أبرزت الانتخابات حاجة القيادة السياسية الجديدة إلى الكثير من الصبر والجهد لمواجهة تحدياتٍ اقتصادية كبرى لا تزال تتعرّض لها إيران، وهذه التحدّيات ترتبط الآن بتغيّر الحكّام على عكس الاتجاه الاستراتيجي الذي لا يتأثر بذلك. وسبب ذلك أن معالجة السيد رئيسي لتلك التحدّيات كان يجري كاستمرارٍ لإجراءاتٍ بدأها منذ توليه الرئاسة في صيف 2021 وحتى وفاته، بينما يحتاج الرئيس الجديد إلى رسم سياساته وتحديد إجراءاته الخاصة لمواجهة تلك الاستحقاقات، التي تجري بدورها في ظل بيئةٍ دوليةٍ وإقليميةٍ أكثر تعقيداً، بعد وصول الأزمات الدولية إلى ما وصلت إليه اليوم، خصوصاً في أوكرانيا وغزة ولبنان، مع كل ما تفرزه هاتان البيئتان من ضغوطٍ اقتصاديةٍ وسياسية على الداخل الإيراني.
أسئلةٌ وإجابات
هذه المعاني تتلخّص بالإجابة عن الأسئلة الآتية التي طرحها التغيير المفاجئ في سدّة الرئاسة، استجابةً لحدثٍ طارئ مثّلته وفاة الرئيس رئيسي ووزير الخارجية أمير عبد اللهيان:
- هل سيتبدّل النهج الداعي إلى حسن الجوار مع الدول الإقليمية؟
- هل سيتبدّل النهج الداعم لحركات المقاومة؟
- هل ستتراجع إيران مع الرئيس الجديد عن أولوية القضية الفلسطينية كعنوانٍ للسياسة الإقليمية؟
- هل ستتراجع إيران مع بزشكيان عن مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة؟
- هل ستتخلّى إيران عن شراكاتها الدولية المتصاعدة مع القوى الصاعدة؟
- هل ستتخلّى إيران الآن عن مشروعها النووي السلمي؟
- هل إن فوز بازشكيان يعدّ حسماً دائماً للتنافس السياسي بين المحافظين والإصلاحيين؟ أم أنه خيارٌ سياسيٌ يتوقّف الحكم عليه على الأداء السياسي والاقتصادي للتشكيلة التي سوف يحكم الرئيس الجديد من خلالها؟
المعاني الظاهرة الآن من مجريات التصويت والخطابات السياسية المرافقة له، خصوصاً مواقف المرشح الفائز، تُرجّح الأجوبة على الصورة الآتية:
- استمرار سياسة حسن الجوار الإقليمي مع بازشكيان في الاتجاه نفسه خلال الولايتين الرئاسيتين الأخيرتين.
- مواصلة إيران سياسة دعم حركات المقاومة والتحرّر الوطني في المنطقة، خصوصاً مع تأكيد هذه الحركات فاعليّتها خلال الحرب الدائرة، واقترابها أكثر من أي وقتٍ مضى من حقيق انتصاراتٍ تاريخية. باختصار، لم يعد ممكناً التراجع عن هذا الخيار الذي أكد جدواه بنتائج خارقة في ساحاتٍ عديدة، بموازاة معاناة الخيارات الأخرى التي راهنت على نوايا أميركية وإسرائيلية أثبتت عداءها لمصالح شعوب المنطقة.
- ارتباطاً بالنقطة السابقة، وبعد ما جرى في الأشهر التسعة الأخيرة، يبدو مؤكداً استمرار القضية الفلسطينية كعنوانٍ عريضٍ وبوصلة مركزية للمشروع الإيراني في المنطقة.
- تأسيساً على النقاط السابقة، وعلى اتجاهات السياسة الأميركي والتنافس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على مواصلة دعم الكيان الإسرائيلي ومحاولتهما "ضمان تفوّقه في المنطقة"، تبدو مواصلة إيران مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة ضرورةً حتمية تتجاوز انتقال السلطة بين المحافظين والإصلاحين، لتكون حاجةً إيرانيةً استراتيجية يتوقّع أن تستمرّ، مهما تبدلت التكتيكات وتغيّر أشخاص الحكم.
- المؤشرات الإقليمية والدولية، في السياسة والاقتصاد، ترجّح استمرار إيران في تطوير شراكاتها مع القوى الصاعدة بوتيرةٍ أكثر نمواً، ذلك أن هذا الاتجاه يمثّلُ أيضاً حاجةً استراتيجيةً تنبّهت لها دول أخرى في المنطقة كانت ولا تزال حليفةً للولايات المتحدة. فالعلاقة مع الصين وروسيا والقوى الصاعدة الأخرى، باتت ضرورةً اقتصاديةً لدول المنطقة بالدرجة الأولى، ثم لا بدّ لهذه الضرورة من أن تحمل معها مساراً سياسياً موازياً ومتناسباً من ناحية نمو التنسيق والتعاون الاستراتيجيين.
- من غير المطروح تخلّي إيران عن مشروعها النووي للأغراض السلمية في ظل رئاسة بزشكيان، ذلك أن الرجل لم يظهر أي إشاراتٍ تخالف الالتزام بهذا المشروع، وتحوّله إلى عنوانٍ ومطلب إيرانيٍ قومي يتجاوز أشخاص الحكم.
- لا يمكن قراءة فوز مرشح الرئاسة، إصلاحياً كان أم محافظاً، على أنه نهاية للتنافس السياسي، وحسم للخيارات الداخلية بصورةٍ مطلقة، بل إنه محطة من محطات الحياة السياسية الإيرانية، والأمر نفسه مع فوز بزشكيان الذي حدث، ومع فوز جليلي فيما لو كان قد حدث.
هذه المعاني والأجوبة تشير بمجملها، وخارج تأييد السياسة الإيرانية أو معارضتها، إلى أن الانتخابات هذه أكّدت أصالة النموذج الإيراني وارتباطه بنفسه، أي بالمجتمع المنتج لهذا النظام السياسي، وعدم جواز قياسه على نماذج أخرى في الغرب أو في الشرق. وهي في المحصّلة أيضاً معانٍ وأجوبة تشير إلى أن مشروع إيران الكلّي يحظى بالمتانة المرنة، الذي يعرف كيف يتلوّى مع الاستحقاقات وضروراتها ويتجاوزها في اتجاهٍ صاعدٍ ومستمر، من دون أن يتلوّن مع تغيّر الرئاسات والإدارات.