الإنجيليون يدعمون ترامب... فهل يوصلونه إلى البيت الأبيض؟
موقف الإنجيليين في الانتخابات سيكون حاسماً في تحديد الفائز مع ترجيح كفة ترامب على بايدن. فإضافة الى اعتماد ترامب سياسات تلقى قبولاً من الإنجيليين، فإنه يعتمد خطاباً يدعو إلى حماية قيم العائلة.
في تحقيق أجرته وكالة رويترز، تبيّن أنّ الدوائر المحافظة الشديدة التديّن تتجه لدعم الرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة ضد الرئيس الحالي جو بايدن، مصوّرة السباق الرئاسي على أنه سباق بين الخير متمثّلاً بترامب والشر متمثّلاً ببايدن.
ونقلت الوكالة عن الواعظ الإنجيلي هانك كونيمان قوله إن التهم الجنائية التي ترفع ضد ترامب هي في حقيقة الأمر معركة بين الخير والشر، مشيراً إلى أن قوى الشر تحاول منع ترامب من الوصول إلى البيت الأبيض، فيما اعتبر أحد القساوسة أنّ السباق الرئاسي المقبل سيشكّل معركة من أجل خلاص روح أميركا، معتبراً أن ترامب يتمتع بحماية إلهية.
والمفارقة في الأمر هي أن ترامب سبق وحظي بدعم الناخبين الإنجيليين في انتخابات العام 2016 و2020 على الرغم من الأخبار عن "ارتكابه الزنا" مع إحدى الممثلات الإباحيات. إلا أن هذه التهمة وغيرها فسّرها الإنجيليون على أنها محاولة لمنعه من تخليص أميركا من قوى الشر.
ولقد شكّل نحو 80 مليون أميركي، أي نحو ربع السكان، الذين يصفون أنفسهم بأنهم مسيحيون ولدوا من جديد، أو بروتستانت إنجيليون، العامل الرئيسي في الصعود السريع لنجم ترامب، ويتوقّع أن يكون دعمهم له حاسماً في تعزيز فرصه للعودة إلى البيت الأبيض، علماً أنهم يعتمدون على وسائل الإعلام المسيحية للدفاع عن القضايا السياسية المرتبطة بإيمانهم، مثل مناهضة الشيوعية ومناهضة الإجهاض ومناهضة المثلية الجنسية وأجنداتها التي يعتبرونها مخالفة للدين المسيحي.
وتشمل وسائل الإعلام المسيحية الآلاف من البرامج الصوتية الدينية والبرامج الإذاعية وتلفزيون الكابل ومنصات البث المباشر، مع ما يزيد عن 140 مليون مشترك أميركي، وفقاً لجمعية المذيعين الدينيين الوطنيين.
وفي خطاب ألقاه أمام مؤتمر للجمعية، تعهّد ترامب بالدفاع عن المسيحية وحثّ المسيحيين على التصويت له في انتخابات الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، وهي المنافسة التي صوّرها بمصطلحات دينية وشبّهها بالمعارك الكبرى في الحرب العالمية الثانية. وقال للحاضرين وسط التصفيق: "أعلم أنه لتحقيق النصر في هذه المعركة، كما في معارك الماضي، ما زلنا بحاجة إلى يد ربنا وفضل الله عز وجل".
والجدير ذكره أن ترامب، وهو يعتمد هذا الخطاب، يستفيد من ردة فعل مجموعات أميركية كبيرة أصيبت بالصدمة من السياسات الليبرالية التي اعتمدت خصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة، بما يعارض القيم الدينية التي تأسست عليها الولايات المتحدة منذ ثلاثة قرون.
الدور التاريخي للبروتستانت في أميركا
وحري بالملاحظة أن الإنجيليين يعتبرون أنفسهم أنهم يلتزمون بالخط الرئيسي الذي خطه السيد المسيح، مركّزين على الولادة الجديدة على أنها الولادة الحقة المتمثلة بالالتزام بالتعاليم المسيحية.
وأن تولد من جديد، هي عبارة، خاصة في الإنجيلية، تشير إلى "الولادة الروحية الجديدة"، أو تجديد الروح البشرية، وهي على النقيض من الولادة الجسدية، حيث أن "الولادة الثانية" تحدث بشكل واضح ومنفصل عن عمل الروح القدس، ويحدث ذلك عندما يتعمّد الشخص في الماء.
وتشكّل هذه عقيدة أساسية لطوائف الكنائس القائلة بتجديد العماد، والمورافية، والميثودية، والمعمدانية، وأخوة بليموث، والكنائس الخمسينية إلى جانب جميع الطوائف المسيحية الإنجيلية الأخرى.
كل هذه الكنائس تؤمن بقوة بكلمات يسوع في الأناجيل والتي جاء فيها: "يجب أن تولدوا ثانية قبل أن تتمكّنوا من رؤية ملكوت السماوات أو دخوله". وتنص عقائدهم أيضاً على أنه لكي يكون المرء "مولوداً من جديد" و"مخلصاً"، يجب أن تكون لديه علاقة شخصية وحميمة مع يسوع المسيح.
والجدير ذكره أن الطوائف البروتستانتية وعلى رأسها البوريتانيون أو المطّهرون كان لها دور حاسم في تأسيس الولايات المتحدة. ففي القرن السابع عشر، كان للبروتستانت البوريتانيون بزعامة أوليفر كرومويل دور كبير بالإطاحة بالملك الإنكليزي تشارلز ستيورات الذي تم إعدامه ليحكم كرومويل بصفته رئيساً للبرلمان لمدة عشرة أعوام.
لكن بعد وفاة كرومويل تمكّن الملك تشارلز الثاني من استعادة الحكم وبدأ بحملة اضطهاد واسعة للبوريتانيين الذين هاجروا بأعداد كبيرة إلى المستعمرات الإنكليزية في أميركا الشمالية التي اعتبروها الأرض الموعودة لهم حيث يمكنهم ممارسة إيمانهم بحرية وقد أطلقوا عليها اسم "إسرائيل الثانية".
ولقد كان للبوريتانيين دور محوري في استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا في العام 1776. وفيما اعتبر العلمانيون أمثال جورج واشنطن وجون أدامز وتوماس جيفرسون أنهم يعيدون إحياء الإمبراطورية الرومانية، فإن المتدينين البروتستانت اعتبروا أنهم بتأسيس الولايات المتحدة كانوا يحيون ملكوت الله على الأرض. لذلك فإنّ البعد الديني اكتسب دوراً محورياً بالنسبة للولايات المتحدة وامتزج بفكرة تفوّق العرق الأبيض.
ومن هذه الخلطة خرج مفهوم الدور المحوري للأبيض الإنكلو ساكسوني البروتستانتي "الواسب" في الولايات المتحدة الأميركية على أنها المجموعة المهيمنة والقائدة للمجتمع الأميركي، فيما اعتُبر ذوو الأصول الإسبانية والآسيوية والسوداء أقل شأناً. وامتزجت الفكرة هذه بمفهوم الخلاص المسيحي وإعادة الولادة منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا.
مفهوم الولادة الجديدة
وترى الكنيسة اللوثرية أن الناس سيتطهرون من خطاياهم ويولدون من جديد عبر المعمودية المقدّسة بالروح القدس. ويرى بعض المغالين اللوثريين أن العمادة هي عملية متواصلة تحصل يومياً عبر التكفير عن الخطايا والتوبة يومياً حتى يضمحل آدم القديم ويولد الإنسان الجديد الذي سيسير في طريق الله إلى الأبد.
أما الكنيسة المورافية فترى أن التحوّل الشخصي إلى المسيحية هو تجربة سعيدة، حيث يقبل الفرد المسيح رباً وبعد ذلك ينمو الإيمان يومياً داخل الشخص. وبالنسبة لهذه الكنيسة فلقد عاش المسيح كرجل لأنه أراد أن يرسم الطريق للأجيال القادمة، ويمكن للشخص المولود مجدداً أن يحاول العيش على صورته ويصبح يومياً مثل يسوع.
"وعلى هذا النحو، فإن "دين الجوهر" هو ما يميّز المسيحية المورافية، وهذا ما جعلها تركّز على التبشير.
أما المينونايت، فتعتبر من الكنائس التي تستند إلى مبدأ تجديد العماد حيث أن الإيمان الحقيقي يستلزم ولادة جديدة، وتجديداً روحياً بنعمة الله وقوته. وترى أن المؤمنين هم أولئك الذين أصبحوا أبناء الله الروحيين. وترى هذه الكنيسة في تجديد العماد الطريق إلى الخلاص، إذ إن الخلاص لا يتم إلا بالتوبة الكاملة وبإنكار الذات، والولادة الجديدة بالإيمان، والطاعة.
وبالنسبة للكنيسة الإنغليكانية فترى في الولادة الثانية تخلّصاً من الخطايا، خصوصاً أن المسيح هو الوحيد الذي ولد من دون خطيئة. وبالتالي فإن التخلّص من الخطايا يعتبر السبيل الوحيد للتشبّه بالمسيح. أما الكنيسة الإصلاحية فتعتبر أن الولادة الثانية تشير إلى دور الروح القدس الذي يحث الخاطئ على الاستجابة للدعوة الفعّالة حيث إنّ الوسائل العادية التي ينقل بها المسيح إلينا فوائد الفداء تتمثّل بمراسيمه. ومن ضمنها، الكلمة، والأسرار، والصلاة. وبالنسبة للاهوت الإصلاحي فإن الولادة المسيحية الجديدة يجب أن تسبق الإيمان، وهو ما يتفق معه الكويكرز.
وتعتمد الكنيسة الميثودية أو المنهجية مبدأ الولادة الجديدة التي تعتبر ضرورية للخلاص لأنها تمثّل الطريق نحو القداسة. وبالنسبة لها فإن الولادة الجديدة "هي ذلك التغيير العظيم الذي يحدثه الله في النفس عندما يأتي بها إلى الحياة متى أقامه من موت الخطية إلى حياة البر".
وفي حياة المسيحي، تعتبر الولادة الجديدة أول عمل للنعمة. وهي تعتبر أن المعمودية هي علامة التجديد أو الولادة الجديدة. أما المعمدانيون فيعتبرون أن الناس يولدون مرة ثانية عندما يؤمنون أن يسوع مات من أجل خطاياهم، ودُفن، وقام مرة أخرى، وأنه من خلال الإيمان بموت يسوع ودفنه وقيامته، سيتم منح الحياة الأبدية كهدية من الله للمؤمنين أو أبناء الله الذين ولدوا ثانية بالروح القدس.
صعود الإنجيليين
شهد أواخر الستينيات من القرن الماضي انطلاقة حركة التجديد المسيحي الإنجيلي في الولايات المتحدة ومنها في أوساط البروتستانت حول العالم. وقد شكّل ذلك ردّة فعل في أوساط المجتمعات الأميركية المحافظة على جملة تحوّلات في المجتمع الأميركي، شهدت من جهة إفراطاً في التحوّلات الليبرالية الناجمة عن توسّع الاستهلاك المترافقة مع جملة تحوّلات اجتماعية رافقت صعود الثقافة الأميركية الاستهلاكية.
إضافة الى ذلك فلقد شكّلت حركة التجديد المسيحي الإنجيلي ردة فعل على حركات اليسار الأميركية التي اعتبرت اختراقاً شيوعياً لهذا المجتمع. إضافة الى ذلك فإن حركة التجديد هذه شكّلت ردة فعل على الحراك الشبابي المعارض لحرب فيتنام والتي كانت ذروتها بالحركة الهيبية، والتي رافقت أيضاً صعود حركة تحرّر الأميركيين السود التي شكّلت تحدياً للعمود الفقري الذي قامت عليه الولايات المتحدة وهو العنصرية البيضاء.
وقد تزامن ذلك مع صعود المحافظين الجدد الذين دعوا إلى سياسات أكثر حزماً وجذرية في مواجهة الحركات اليسارية والشيوعية حول العالم مع حماية ما يعتبرونه مصالح وقيم الولايات المتحدة في العالم.
وبالنسبة لحركة التجديد المسيحي الإنجيلي فإن تعبير "ولد من جديد" اعتمد للإشارة إلى تجربة التحّول، وقبول يسوع المسيح كرب ومخلّص من أجل الخلاص من الجحيم ومنح الحياة الأبدية للمؤمنين برفقة الله في السماء.
وفي العام 1976، حظي كتاب "ولدت من جديد" الذي ألّفه تشاك كولسون، باهتمام كبير حيث اعتبر أحد أكثر الكتب الإنجيلية تأثيراً في الولايات المتحدة. ووصف كولسون طريقه إلى الإيمان خلال فترة سجنه لتورّطه بفضيحة ووترغيت، حين تجسس الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون على حملة الحزب الديمقراطي في العام 1974. وقد أدّى كولسون دوراً مهماً جداً في ترسيخ مفهوم "المولود من جديد" باعتبارها بناء ثقافياً في الولايات المتحدة، مشيراً الى أنه استطاع أن يلتقي الله شخصياً عبر هذه التجربة.
بعد ذلك ندر أن فاز مرشح بالرئاسة الأميركية من دون دعم الإنجيليين. فلقد كان جيمي كارتر أول رئيس للولايات المتحدة يعلن انتماءه للإنجيليين، قبيل انتخابه رئيساً في العام 1976. أما رونالد ريغان فلقد حظي بتأييد 61 بالمئة من الإنجيليين ما خوّله الفوز بالرئاسة في العام 1980.
ومع حلول الألفية الجديدة، وبالتوازي مع اجتياح العراق في العام 2003، أعلن 42 في المئة من الأميركيين البالغين أنهم إنجيليون مولودون من جديد. واستطاعت الحركة اختراق صفوف المجتمعات السوداء التي بات أكثر من ستين في المئة منها ينتمي إلى الإنجيليين المولودين من جديد، وذلك على حساب الإسلام الذي كان قد انتشر بشكل كبير في صفوف السود في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
ويعتبر 52 في المئة من الجمهوريين أنفسهم من المولودين من جديد في مقابل 36 في المئة من الديمقراطيين. وقد ارتبط صعود الإنجيليين ببرامج الدعم الاجتماعي التي يقدّمونها بعد تراجع دور برامج الرعاية الأميركية الذي ترافق مع تطبيق سياسات النيوليبرالية في الولايات المتحدة، وتقليص دور الدولة في الرعاية الاقتصادية والاجتماعية بدءاً من السبعينيات من القرن الماضي فصاعداً.
لماذا ترامب؟
يبقى السؤال، لماذا يميل الإنجيليون الجدد نحو ترامب أكثر مما يميلون لتأييد بايدن. الجواب البديهي يكمن في أن ترامب هو بروتستانتي فيما بايدن كاثوليكي. فالجدير ذكره أن البروتستانتية انطلقت كحركة تمرّد على الكنيسة الكاثوليكية واعتبرت أن البابا يجسّد في شخصه المسيح الدجال. كذلك فلقد تأسست الولايات المتحدة بالدرجة الأولى على يد البروتستانت ما يجعلهم يرون في الكاثوليك عنصراً دخيلاً عليهم.
من هنا فإن جميع الرؤساء الأميركيين كانوا من البروتستانت البيض باستثناء جون كينيدي، الكاثوليكي الذي اغتيل بعد ثلاث سنوات على انتخابه، وباراك حسين أوباما "الأسود المشكوك بإيمانه"، لأن والده مسلم، وجو بايدن الكاثوليكي الذي كان عليه أن يغالي في إعلان صهيونيته حتى يجد له مكاناً في نادي الرؤساء الأميركيين.
كذلك فإن الإنجيليين نقموا على سياسات الديمقراطيين الاجتماعية أكان ذلك في عهد بيل كلينتون (1993 – 2001) أو في عهد باراك أوباما (2009 – 2017) أو في عهد بايدن، نتيجة سماحهم بتمرير قوانين تمسّ بصلب القيم الإنجيلية.
ومن ضمن هذه القوانين تلك المرتبطة بالسماح بالإجهاض، وهو ما قابله متطرّفون إنجيليون باستهداف العيادات التي تقوم بعمليات إجهاض، أو القوانين التي تعطي حقوقاً للمثليين والمتحوّلين الجنسيين والذين يشغل عدد كبير منهم مناصب حسّاسة في إدارة بايدن.
خلاصة
بالمحصّلة فإنّ موقف الإنجيليين في الانتخابات المقبلة سيكون حاسماً في تحديد الفائز في الانتخابات المقبلة مع ترجيح كفة ترامب على بايدن. فإضافة الى اعتماد ترامب سياسات تلقى قبولاً من الإنجيليين، مثل معارضة الإجهاض وحقوق المثليين، فإنه يعتمد خطاباً يدعو إلى حماية قيم العائلة، رغم أنه ليس رب أسرة مثالياً.
كما أنّ سياساته الداعية إلى مكافحة الهجرة غير الشرعية من دول أميركا اللاتينية تجد صدى لدى الإنجيليين الذين يخشون من تغيير بنية الولايات المتحدة من بلد بروتستاتني إلى بلد يزداد فيه عدد الكاثوليك.