الإجراءات الروسية في مواجهة الحرب الاقتصادية الغربية

نستطيع أن نميز بين مستويين من مستويات المواجهة الروسية لهذه الحرب الاقتصادية الشاملة، هما الإجراءات ذات الطابع الدفاعي، والإجراءات ذات الطابع الردعي.

  • هذه العقوبات هي سلاح ذو حدين، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
    هذه العقوبات هي سلاح ذو حدين، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

"أسوأ مكان محجوز في الجحيم هو لمن يقف على الحياد في المعارك الأخلاقية والوطنية الكبرى" (مارتن لوثر كينغ).

لا شكّ في أن الحرب الشاملة، التي تديرها الولايات المتحدة وبريطانيا وسائر دول التحالف الاستعماري الغربي، اقتصادياً وسياسياً وإعلامياً وثقافياً ورياضياً، سوف تؤلم روسيا في كل جوانب الحياة، فترةً من الزمن. 

وبنت دول التحالف الاستعماري الغربي تصورها وفق استراتيجية «الردع من خلال العقوبات»، باعتبارها أفضل الخيارات الغربية الممكنة في مواجهة الصعود الإيراني والصيني الروسي، وفق تصور مفاده أن من شأن إلحاق الأذى بالاقتصاد في هذه الدول أن يُحرّك الغضب الشعبي الداخلي ضد حكوماتها. 

والصحيح أن هذا الألم الاقتصادي، في الحالة الروسية الآن، يتوقف على المدى الزمني للعمليات العسكرية المباشرة التي يقوم بها الجيش الروسي في أوكرانيا، وبعض تداعياتها التي قد تستمر بعد ذلك فترة من الزمن حتى تبدأ عوامل تفكك هذا الحصار الشامل، اقتصادياً وسياسياً، وخصوصاً أن هذه العقوبات هي سلاح ذو حدين، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. 

يتوقف هذا التفكك الغربي على مجموعة الإجراءات والسياسات العقابية المضادة، والتي سوف تتخذها القيادة الروسية من ناحية، ومقدار التعاون والتآزر الصيني – الروسي من ناحية أخرى، والتنسيق مع سائر القوى الاقتصادية والسياسية المتمردة على الهيمنة الأميركية، وعلى النظام العالمي الراهن الاقتصادي والسياسي، مثل إيران وفنزويلا وبعض دول أميركا اللاتينية ووسط آسيا والهند من ناحية ثالثة، ودرجة الضرر الذي سيلحق باقتصادات الدول الأوربية جراء سياسات المقاطعة للمنتوجات الروسية، وخصوصاً النفط والغاز الطبيعي. 

والسؤال الآن: كيف واجهت قيادة الدولة الروسية هذه الحرب الغربية الشاملة عليها؟

نستطيع أن نميّز بين مستويين من مستويات المواجهة الروسية لهذه الحرب الاقتصادية الشاملة، وهما:

المستوى الأول: الإجراءات الاقتصادية والسياسية ذات الطابع الحمائي أو الدفاعي. 

المستوى الثاني: الإجراءات الاقتصادية والسياسية ذات الطابع الهجومي أو الردعي. 

حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من عشرين يوماً على العمل العسكري الروسي في أوكرانيا، ظلّت روسيا في الموقف الدفاعي، تحاول أن تصد الهجوم الاقتصادي الكاسح للتحالف الغربي الاستعماري الذي قرّر حصارها وعزلها تماماً عن آليات العمل العالمي، اقتصادياً ومالياً. ونظن – وليس كل الظن إثماً – أن قدرة الصبر الاستراتيجي الروسي على تحمل الآلام اقتربت من نهايتها، ونحن على مشارف الهجوم الاقتصادي الروسي، الذي من شأنه أن يقلب كل معادلات القوى العالمية، وخصوصا في أوروبا الاستعمارية العجوز، والفاقدة للبصيرة الاستراتيجية. 

فلنتناولْ كلَّ مستوى من هذين المستويين للمجابهة الروسية بشيء من التفصيل: 

أولاً: الإجراءات الاقتصادية والسياسية ذات الطابع الحمائي أو الدفاعي

اتَّسَم السلوك الروسي، خلال الأيام العشرين الأولى من الأزمة الأوكرانية، بطابع دفاعي بحت، ومحاولة احتواء هذه الهجمة الشرسة، من أجل التعرُّف إلى أبعادها من ناحية، وسبر أغوار الخطة الغربية، وكيفية اختراقها، من ناحية ثانية. ومن هنا، نستطيع أن نشير إلى السلوك الروسي التالي: 

(أ) في مواجهة القيود على التجارة الخارجية

1- حاولت قيادة روسيا في الشهور التي أعقبت الأزمة الأوكرانية الأولى، عام 2014، زيادة تعاقداتها على تصدير الغاز والنفط مع أطراف أخرى في آسيا، في مقدمتها الصين والهند، تجنباً لمخاطر إجراءات المقاطعة التي تتخذها بصورة متكررة كل من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ضدها. وخلال زيارة بوتين لبكن في مطلع شهر شباط/فبراير، للمشاركة في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، عُقِد لقاء قمة مع الرئيس الصيني شي جياو بينغ، وتم التعاقد على زيادة أكثر من عشرة مليارات متر مكعب من الغاز الروسي سنوياً، ترفع إمدادات روسيا إلى الصين إلى 48 مليار متر مكعب من وضع الإمدادات الحالي، بحيث تصل قيمتها إلى 80 مليار دولار سنوياً، كما جرى التوقيع على عدة اتفاقيات تجارية جديدة. 

2- على الرغم من هذه الاتفاقيات الجديدة لروسيا مع الصين، فإنها لن تعوّض من تعطل الصادرات الروسية إلى أوروبا، إذ تستورد أوروبا نحو 40 % من صادرات الغاز الطبيعي الروسي، وتُعَدّ ألمانيا أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي، بحيث يسد الغاز الروسي نحو 55 % من احتياجاتها سنوياً. أمّا هولندا فتستورد أكثر من ربع احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا، تليها فرنسا التي تعتمد على الغاز الروسي بنسبة 16.8 %، وبالمثل تستورد السويد من الغاز الطبيعي الروسي ما يسد 12.8 % من استهلاكها. أما إسبانيا فتستورد 10.4 % من احتياجاتها إلى الغاز الطبيعي من روسيا، وتستورد البرتغال 9.7 % من استهلاكها عبر شركة "غاز بروم " الروسية، بينما تستورد بلجيكا 6.5 % من احتياجاتها إلى الغاز الطبيعي من روسيا.

فإذا توقَّفت إمدادات الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي، بسبب تشديد العقوبات عليها، فسيؤدي ذلك لا محالة إلى أزمة طاقة عاصفة في أوروبا. وهنا جوهر الصبر الاستراتيجي في اتخاذ القرار الروسي (1).

3- كشف بيان صادر عن الجمارك الصينية أن حجم التبادل التجاري بين موسكو وبكين ارتفع ليصل خلال عام 2021 إلى 146.9 مليار دولار(2)، بنسبة زيادة 38.8 %، عن العام الماضى، وحقق بالتالي رقماً قياسياً. ومن المرجح أن يتضاعف الرقم بعد الحصار والحرب الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا حالياً، إلاّ إذا خضعت الصين للضغوط الأميركية والغربية من أجل تغيير سياساتها المساندة لروسيا، وهو ما نستبعده في هذه المرحلة.

4- مثلما جمّدت روسيا واردات المواد الغذائية من الاتحاد الأوروبي في آب/أغسطس 2014، وكانت قيمتها تسعة مليارات دولار في ذلك العام، رداً على العقوبات التي فرضت عليها، فسوف تقوم روسيا بالإجراء نفسه في الأزمة الأوكرانية الحالية. وأصدرت روسيا فعلاً يوم الثلاثاء، 15/3/2022، قراراً يقضي بحظر تصدير بعض الحبوب الروسية وأسمدة البوتاسيوم وبعض المنتوجات الأخرى إلى بعض الدول الأوروبية، وكذلك وقف صادرات القمح الروسي لبعض تلك الدول التي اتخذت مواقف عدائية تجاه روسيا. 

5- حرصت روسيا، في الأعوام الأخيرة، على تطوير صناعات محلية تقلل اعتمادها على استيراد بعض المنتوجات الغربية، لكن ذلك بالطبع يحتاج إلى بعض الوقت، أو إيجاد بدائل عنها من دول غير أعضاء في التحالف الاستعماري الغربي، على نحو يخفّف حدة أضرار العقوبات القاسية الجارية حالياً.

6- عملت قيادة الرئيس بوتين، منذ عدة أعوام، بجدّ، من أجل إزالة تأثير الدولار في الاقتصاد الروسي منذ أزمة القرم عام 2014، عبر تعزيز ما وُصف بأنه "دفاعات موسكو الاقتصادية"، وبناء ما يسمي "الحصن الروسي"، تحسباً لما يتحدث عنه البريطانيون والأميركيون، في كل أزمة، بشأن حظر تعامل روسيا بالدولار والجنيه الاسترليني. ويتبيّن ذلك من حقيقة مفادها، أن روسيا كانت، في عام 2013، تتلقى الدولارات في مقابل 95 % من صادراتها إلى البرازيل والهند وجنوب أفريقيا والصين. أمّا اليوم، بعد عشرة أعوام من هذه السياسة، فإن 10 % فقط من هذه التجارة يتم بالدولار، وبدّلت روسيا التجارة بالدولار بالذهب على نحو كبير، بحيث راكمت جبالاً من الذهب تبلغ قيمتها 130 مليار دولار، أو 20 % من إجمالي الاحتياطيات (3)، بعد أن كان لديها مليارَي دولار فقط من الذهب عام 1995. 

7- بلغ حجم صادرات المنتوجات الزراعية من روسيا في عام 2021 نحو 37.7 مليار دولار، وذلك بناءً على بيانات مركز "أغرو إكسبورت" التابع لوزارة الزراعة الروسية. وكشفت رئيسة مركز التصدير الروسي، فيرونيكا نيكيشينا، تحولاً ملحوظاً في تجارة روسيا الخارجية، وقالت إن روسيا زادت بصورة كبيرة عام 2021 في صادراتها السلعية، أي من غير النفط والغاز. أمّا صادرات النفط الروسي فتقدَّر بنحو 5 ملايين برميل يومياً من النفط الخام، و2.5 مليون برميل يوميّاً من المنتوجات البترولية المكرَّرة، أي ما يمثّل نحو 10 % من تجارة النفط العالمية، أي أكثر من 700 مليون دولار يومياً من النقد النفطي. كما تصدّر روسيا 23 مليار قدم مكعب يومياً من صادرات الغاز الطبيعي (منها ما يقارب ملياري قدم مكعب تمر عبر أوكرانيا يومياً) بقيمة 400 مليون دولار أخرى. 

قد تستطيع دول الناتو الأوروبية الحصول على النفط من مصادر أخرى غير روسيا في الأَجَلَين القصير والمتوسط (4)، وإن كانت بأسعار أعلى تنعكس سلباً على أرتفاع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة للأوروبيين، لكنها لا تستطيع، ولن تستطيع الحصول على بدائل للغاز الروسي لمدة ثلاثة أعوام مقبلة على الأقل، وهي ورقة " بوتين" الساحقة الماحقة، والتي لم يستخدمها بعدُ.

(ب) إجراءات الحماية المضادة، مالياً ونقدياً 

1-انخفضت العملة الروسية، الروبل، فورا بنحو 30 % إلى أدنى مستوى لها في مقابل الدولار(من 79 روبلاً للدولار إلى 97 روبلاً للدولار)، بعد أن كشفت الدول الغربية يوم السبت، 26/2/2022، عقوبات صارمة تشمل إخراج البنوك الروسية من نظام المعاملات في شبكة المدفوعات الدولية "سويفت" SWIFT، والتي أُنشئت منذ عام 1973، والتي يملكها نحو ألفي بنك، ويتشارك فيها 11 ألف بنك ومؤسسة مالية موجودة في مئتي دولة حول العالم، تتبادل 42 مليون رسالة يومياً، تتضمن المدفوعات فيما بينها. ويُفترض أنها محايدة، وتخضع لسلطة الاتحاد الأوروبي في بروكسل، وليس للولايات المتحدة الأميركية.

وعلى الرغم من أن نصيب روسيا لا يتجاوز 2 % من إجمالي المعاملات في شبكة المدفوعات الدولية، "سويفت"، عام 2020، فلقد حرصت دول التحالف الاستعماري الغربي على تقويض معاملات روسيا التجارية الخارجية، وحرمانها من عوائد تصدير المواد الخام. بيد أن موسكو تحسَّبت لذلك من خلال البحث في استخدام أنظمة بديلة وعملات رقمية، بالإضافة إلى تعاقدات جديدة مع حلفاء آسيويين كالصين. كما أسست، عام 2014، نظام خدمات الرسائل المالية الوطنية الخاصة بها (SPFS ) من أجل ضمان استمرار عمل مؤسساتها، وهو يعالج نحو خُمس المدفوعات المحلية، لكنه سيكون بطيئا ومحدوداً في معاملاته، وهو قريب من رسائل البريد الإلكتروني أو الفاكس. 

بيد أن الأزمة الحالية، وخصوصاً بعد انسحاب شركتي "ماستر كارد" و"فيزا كارد" من التعاملات الروسية، سوف يدفع روسيا، بالتعاون مع الصين التي تملك بدورها نظاماً بديلاً يسمي نظام الدفع عبر الحدود بين البنوك، أو "سيبس"، إلى تطوير هذا النظام، بحيث يتقلص تأثير النُّظُم الأميركية والأوروبية في مدفوعات الأفراد في كِلتا الدولتين الكبيرتين، على نحو قد يؤدي إلى ضرب هيمنة الهيكل المالي العالمي القائم على هيمنة الدولار الأميركي. وكان وزير المالية الروسي أعلن، عام 2020، اعتزام الصندوق السيادي تصفية أصوله من الدولار البالغة نحو 35 %، وإبدالها بسلة عملات، تتضمن: 40 % لليورو الأوروبي، 30 % لليوان الصيني، 5 % للجنيه الإسترليني، 5 % للين الياباني، 20 % للذهب.

وحذّرت تقارير اقتصادية غربية من أن يُفضي إقصاء روسيا عن نظام «سويفت»، إلى إرباك حركة المدفوعات الدولية، وزعزعة استقرار الأسواق المالية، تزامناً مع تفاقم الموجة التضخمية العالمية. 

2- في إثر قيام البنك المركزي الأوروبي بحصار فروع البنوك الروسية الكبرى، مثل بنك "سبيربنك" الروسي، الذي تملك الحكومة الروسية أغلبية الأسهم فيه، وله عشرات الفروع في البلدان الأوروبية، سارع البنك المركزي الروسي إلى احتواء تداعيات العقوبات الموسعة، وأعلن أنه سيستأنف شراء الذهب في السوق المحلية، ويخفف القيود على المراكز المفتوحة للعملات الأجنبية لدى البنوك (5).

3- بالمثل، في إثر أعلان لندن فرض عقوبات على البنك المركزي الروسي ومنع مواطنيها والشركات البريطانية من إجراء أي تحويلات مالية مع البنك المركزي الروسي، أو وزارة المالية الروسية، وتجميد أصول بنوك روسية واستبعادها عن النظام المالي البريطاني، قرر البنك المركزي الروسي، يوم الإثنين الموافق فيه 28/2/2022، رفع معدل الفائدة الرئيسي إلى 20 %، بدلا من 9.5 %. ونقلت وكالة "بلومبرغ" للأنباء عن البنك القول إن الظروف الخارجية للاقتصاد الروسي تغيَّرت على نحو جذري. وأشار إلى أن رفع الفائدة اقتضته الضرورة من أجل جعل الودائع بالروبل أكثر جاذبية (6). 

4- ستؤدي العقوبات المعلنة مؤخراً على البنك المركزي للاتحاد الروسي إلى فرض قيود شديدة على وصوله إلى الاحتياطيات الدولية من أجل دعم عملته ونظامه المالي. وأدت العقوبات الدولية على النظام المصرفي الروسي، واستبعاد عدد من البنوك عن شبكة "سويفت"، إلى الحد بدرجة كبيرة من قدرة روسيا على تلقي المدفوعات عن صادراتها، والسداد في مقابل وارداتها، والدخول في معاملات مالية عبر الحدود. ورأينا فعلاً هبوطاً حاداً في أسعار الأصول، وكذلك في سعر صرف الروبل الروسي. ورغبة في تقليل الأثر السلبي لهذه العقوبات الغربية، قررت السلطات الروسية تسديد مديونياتها بالروبل الروسي، سواء من هيئات حكومية، أو مصرفية، أو أفراد وشركات وكيانات، لتحقق بذلك هدفين، أولهما تقليل حجم العملات الصعبة من الخروج من البلد، والثاني إجبار الأطراف الدائنة على إعادة استعمال هذه الروبلات داخل الاقتصاد الروسي في صورة طلب سلع أو خدمات أو غيرها. 

5- تدرس الحكومة الروسية الخطوات التي يمكن اتخاذها لمنع الشركات الغربية من سحب رؤوس أموالها من روسيا. ووفقا لما ذكره رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين، لجأت الحكومة الروسية إلى حزمة إجراءات للانضباط المالي، مثل فرض رسوم تصل إلى 30 % على مشتريات الأفراد من العملات الأجنبية. كما ألزمت الشركات، التي تعمل في مجال التصدير، بتحويل 80 % من عائداتها إلى الروبل (7)، إلى جانب ما اتخذه البنك المركزي من إجراءات عاجلة لرفع سعر الفائدة من 9.5 % إلى 20 %. وكانت روسيا خفّضت سعر الفائدة إلى مستوىً متدنٍّ عند 4.25 % في خضم جائحة "كورونا" عام 2020، ثم شرعت عام 2021 في دورة تشديد نقدي. وقرر البنك المركزي الروسي، في الـ23 من تموز/ يوليو 2021، رفع سعر الفائدة الرئيسي بأكبر وتيرة منذ 7 أعوام ليصل إلى 6.5 %، في خطوة جريئة تستهدف كبح التضخم. وكانت هذه رابع زيادة في أسعار الفائدة منذ بداية العام الجاري، وتأتي بعد أن تجاوز التضخم السنوي لأسعار المستهلكين، التوقعات. وتسارع التضخم في روسيا إلى 6.5 % في حزيران/ يونيو 2020، وهو أعلى مستوى منذ آب/ أغسطس 2016 حين كانت الفائدة الرئيسية 10.5 %. وها هو في أعقاب الأزمة الأوكرانية الجديدة، في شباط/فبراير 2022، يرفع سعر الفائدة من 9.5 % إلى 20 % (8). 

6- مع شدة الانهيارات، اضطر البنك المركزي الروسي إلى وقف التداولات في سوق الأسهم، يوم الإثنين في 28/2/2022، من أجل إبطاء بعض الخسائر، نظراً إلى تراجع أسهم الشركات الروسية المدرَجة في لندن، إذ انخفضت أسهم "نوفاتيك" لإنتاج الغاز، وشركة "سيفيرستال" لصناعة الصلب، أكثر من 50% في ذلك اليوم، بعد أن شددت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى العقوبات.

7- اعترف البنك المركزي الروسي بأن قدراته على التدخل في السوق محدودة، بعد أن جمَّدت دول التحالف الاستعماري الغربي نصف أرصدة البنك المركزي الموجودة في بنوك الخارج، والمقدَّرة بنحو 300 مليار دولار، وفقاً لما صرّح به وزير المالية الروسي يوم الإثنين 14/3/2022. وبناء عليه، سارع البنك المركزي الروسي إلى إطلاق مزاد لعملية إعادة شراء بلا حدود للذهب في السوق المحلية، وتخفيف القيود على المراكز المفتوحة للعملات الأجنبية لدى البنوك.وكان يمكن للاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي (والمقدَّر بأكثر من 643 مليار دولار)، والذي يُعَدّ رابع أكبر احتياطي نقدي لدى دولة في العالم، أن يفيد في تخفيف حدة العقوبات وتوفير السيولة في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة والمتوقَّعة نتيجة العقوبات. وهذا درس إضافي لمن يراهنون على خزائن الشر الغربية.

8- تقدّر إحدى الدراسات أن ثروات الأغنياء الروس، والتي يحفظونها في الخارج، تبلغ نحو ثلاثة أضعاف صافي الاحتياطيات الأجنبية الرسمية، وتماثل تقريباً إجمالي الأصول المالية للأُسَر الروسية المحفوظة في روسيا. ومن شأن المصادرة أو التجميد لأموال الأغنياء الروس وأصولهم الموجودة في أوروبا والولايات المتحدة، حرمان السلطات الرسمية الروسية من إمكان الاستفادة والاستعانة ببعضهم من أجل الالتفاف على هذه الحرب الاقتصادية الضارية. ومن المؤكد أن الحكومة الروسية سوف تقوم بالرد من خلال التجميد أو المصادرة لأصول الشركات ورجال الأعمال الغربيين وأموالهم الموجودة في روسيا. 

ثانياً: الإجراءات الاقتصادية والسياسية ذات الطابع الهجومي أو الردعي 

1-  قام صندوق النقد الدولي، في اجتماع المجلس التنفيذي في الرابع من آذار/مارس 2022، برئاسة المديرة العامة للصندوق، السيدة كريستالينا غورغييفا، بتقييم مبدئي لمدى الأضرار التي سوف تلحق بالاقتصاد الدولي جراء الأزمة الأوكرانية على البلدان الأعضاء، وكيفية بناء سياساتها الاقتصادية الكلية، على نحو يسمح لها بإدارة مجموعة التداعيات الناجمة عنها، والتي تشمل الاضطرابات التجارية، وأسعار الغذاء والسلع الأولية الأخرى، والأسواق المالية. وتخضع الآفاق المستقبلية لدرجة استثنائية من عدم اليقين، والعواقب الاقتصادية بالغة الخطورة، فلقد حدثت طفرة في أسعار الطاقة والسلع الأولية – بما في ذلك القمح وغيره من الحبوب –، الأمر الذي زاد في الضغوط التضخمية الناشئة عن انقطاعات سلاسل الإمداد والتعافي من جائحة "كوفيد -19". وسيكون لصدمة الأسعار تأثير في العالم بأسره، وخصوصاً في الأسر الفقيرة، التي يشكل الغذاء والوقود نسبة أكبر من إنفاقها. وإذا تصاعد الصراع، فسيكون الضرر الاقتصادي أكثر تدميراً. وسيكون للعقوبات المفروضة على روسيا تأثير جسيم في الاقتصاد العالمي والأسواق المالية العالمية، مع انتقال تداعيات ملموسة إلى البلدان الأخرى.

ورجّح الصندوق حدوث ضرر اقتصادي "أكثر تدميراً" في حال تصاعد الصراع، في حين سيكون للعقوبات المفروضة على روسيا "تأثير جسيم" في الاقتصاد العالمي والأسواق المالية العالمية، مع انتقال تداعيات ملموسة إلى البلدان الأخرى(9). وقدّر أن خسائر الحرب الروسية الأوكرانية لن تتوقف عند حدود البلدين، فقد يكبّد هذا الصراع الاقتصاد العالمي نحو تريليون دولار (10). 

2- بمجرد أن بدأت العقوبات الصارمة على روسيا، أشهر أكثر من نصف الشركات البريطانية لتوزيع الغاز والكهرباء للبيوت والمؤسسات إفلاسه بسبب ارتفاع الأسعار. وفي ألمانيا، أسفر وقف ترخيص خط أنابيب «نورد ستريم 2، عن تكبيد الشركات الأوربية الشريكة لـ «غازبروم» الروسية في المشروع خسائر هائلة، كما ارتفعت أسعار الغاز بنسبة 40 %، والكهرباء بنسبة 6.6 %. وتجاوز خام برنت القياسي للنفط العالمي 140 دولاراً للبرميل، وزاد سعر الفحم الأوروبي بنسبة 7.9 %. وفي أوكرانيا، هبطت العملة الوطنية (هريفنا) إلى أدنى مستوى لها منذ عام 2015. وتوقّعت موسكو أن تكبّد الأوروبيين ألفي يورو لكل ألف متر مكعب من الغاز، وتنال من رفاهية المواطن الغربى، وتضر بالنظام الاقتصادي العالمي (11).

3- في ظل تباطؤ معدلات النمو، فإنّ أزمة ارتفاع تكاليف المعيشة ستتفاقم، وسيصل متوسط التضخم في المملكة المتحدة والولايات المتحدة إلى نسبة 7 % خلال العام الجاري، على الأقل. وفي حال جرى تصعيد العقوبات إلى حد وقف شحنات الغاز الطبيعي والنفط الروسي، فإنّ الخسارة التي ستصيب روسيا ستكون "قاسية"، بيد أنها سترفع أيضاً "فرص حدوث ركود تضخمي أقوى بطريقة ملموسة" في الاتحاد الأوروبي، نظراً إلى حصول التكتل الأوروبي الموحد على 40 % من احتياجاته إلى الغاز من خلال روسيا (12).

4- يمكن للرئيس الروسي والقيادة الروسية استخدام سلاح الحبوب، وخصوصاً القمح، بحيث تصدّر روسيا وحدها ما نسبته 30 % من صادرات العالم. ومن شأن تقليل الصادرات الروسية وربطها بالموقف السياسي للدول المستوردة له، كما تفعل الولايات المتحدة والمملكة السعودية وغيرهما من الدول الغنية، في محاولات شراء الموقف السياسي للدول الأخرى، أن يقلبا ملامح الصورة السياسية الدولية. 

5- الحقيقة أنه، مع زيادة الآلام التي تتعرّض لها روسيا جراء الحرب الاقتصادية الشرسة التي يقودها التحالف الاستعماري الغربي، لن يجد صانع القرار الروسي سوى سلاح الغاز الطبيعي لاستخدامه من أجل تركيع بعض دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصا ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، التي تتّخذ موقفاً وحشياً ضد روسيا، أو ربط توريد الغاز الروسي بضرورة فك هذه الدولة أو تلك قرارات تجميد الحسابات المصرفية والاحتياطي النقدي الروسي لديها. ومن دون ذلك لن تنجح روسيا في استرداد حقوقها المسلوبة. وكما قال وزير الخارجية الأميركي البارز جيمس بيكر (1992-1994) جملته البارعة: "إذا كان الموقع هو الرصيد.. فإن التوقيت هو فن الحكم".

أظن أن الرئيس الروسي يمتلك من البراعة ما يجعله يتخذ القرار الآن وليس غداً، أو كما قال الزعيم الروسي الأشهر، فلاديمير لينين: "الآن.. أو إلى الأبد".

 

الهوامش والمصادر

(1) العقوبات الغربية تفاقم عزلة روسيا وسط مقاومة أوكرانية للغزو | أخبار DW عربية | أخبار عاجلة ووجهات نظر من جميع أنحاء العالم | DW | 28.02.2022

(2) بيان خبراء الصندوق عن الأثر الاقتصادي للحرب في أوكرانيا  (imf.org)

(3) 67  مليون دولار حجم الصادرات الغذائية المصرية إلى روسيا وأوكرانيا | مصراوي (masrawy.com)

(4) 67  مليون دولار حجم الصادرات الغذائية المصرية إلى روسيا وأوكرانيا | مصراوي (masrawy.com)

(5) كيف ستكون نتائج العقوبات الغربية ضد روسيا؟ | الميادين  (almayadeen.net)

(6) لماذا أصبح عدد من الشركات أكثر صرامة مع روسيا مما تتطلبه العقوبات؟  - CNN Arabic 

(7) العقوبات الغربية والمغامرات الروسية - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق  (shorouknews.com)

(8) التجارة الخارجية لروسيا تسجل فائضاً يصل إلى 197.3 مليار دولار خلال عام 2021 (gomhuriaonline.com)

(9) الصين محل أوروبا.. هل تستطيع بكين تعويض خسائر الاقتصاد الروسي من العقوبات؟ (elbalad.news)

(10) 44  مليار دولار خسائر الاقتصاد الروسي بسبب الجريمة الإلكترونية | صحيفة الاقتصادية  (aleqt.com)

(11) هل استعدّت روسيا للعقوبات الغربية وكيف ستحمي اقتصادها؟ | إندبندنت عربية (independentarabia.com)

 (12) 20  مليار دولار خسائر روسيا يومياً جراء غزو أوكرانيا  (alarabiya.net) 

 

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.