الأميركيون والضفة المحتلة (3 / 4): شبكات 4G و5G بدل "السلام"!
نال الجيلان الرابع والخامس للاتصالات وإدخالهما إلى الضفة وغزة اهتماماً أميركياً ربما فاق الحديث عن مفاوضات أو حلول سياسية في السنوات العشر الأخيرة. وبينما تعيش الضفة غلياناً ميدانياً، لا يبدو أن تطوير الاتصال على علاقة مباشرة بإطفائه، فما القصة؟
ضمن المسار الأميركي الذي يُظهِر تشبّث الولايات المتحدة بالسلطة الفلسطينية أكثر من "إسرائيل"، على الأقل في الظاهر، حضّ "مسؤول كبير" في إدارة بايدن، خلال الأسبوع الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر 2022، المسؤولين الإسرائيليين الأمنيين على المضيّ قدماً في خطوات لتعزيز السلطة، بسبب مخاوف متزايدة من أن الأخيرة على وشك أن تنهار. لم يذكر موقع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" الإلكترونية اسم المسؤول في التقرير الذي نشره في 20 تشرين الثاني/نوفمبر2022، لكن نُقل عنه أن مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية، هادي عمرو، سلم رسالة مهمة لمسؤولين إسرائيليين بمن فيهم كبار ضباط "الجيش".
وحديثاً (22/11/2022) قررت واشنطن رفع مستوى العلاقات بينها وبين السلطة بتعيين عمرو مبعوثاً خاصاً للشأن الفلسطيني، في خطوة هي الأولى من نوعها، لكنها أيضاً تحرك "يظهر القلق الكبير في واشنطن" من تدهور الأوضاع الأمنية في الضفة. ومع ذلك، سيواصل عمرو عمله من واشنطن ولن يقيم في القدس، وذلك بصفته مسؤولاً عن "علاقات الولايات المتحدة مع السلطة والشعب الفلسطيني".
ورد في كلام عمرو أن واشنطن تنتظر من "تل أبيب" "المضي في المشروعات التي تعهدت بها سابقاً لتحسين معيشة الفلسطينيين وتقوية اقتصادهم"، بالتزامن مع تحذير رئيس جهاز الأمن العام (الشاباك)، رونين بار، رئيس مجلس الوزراء المكلف، بنيامين نتنياهو، من أن الحكومة الفلسطينية قد تنهار، ما قد يتسبب بتدهور أمني، خصوصاً في مدينتي نابلس وجنين. هنا، ترى رام الله وواشنطن أن التنسيق الأمني لا يمكن أن يحدث في الفراغ، بل يجب استكماله بخطوات تعزّز المكانة الاقتصادية والدبلوماسية لرام الله، ما يُشك في نية نتنياهو العمل بذلك، كما أشرنا في ختام الحلقة الثانية.
من أبرز الخطوات المحكي عنها ما حمله الرئيس الأميركي، جو بايدن، خلال زيارته بيت لحم في تموز/يوليو الماضي، إلى نظيره الفلسطيني، محمود عباس. رزمة "تعويضات" عن غياب سنوات عن فلسطين كانت أشبه ببقايا طعام من "صفقة القرن" التي دشّنها سلف بايدن، دونالد ترامب، ووُضعت على الرف، لكن مع الاستفادة من بعض أفكارها. في مقدم هذه الحزمة تبرعات جزلة لشبكة مستشفيات شرقي القدس، العاصمة المنتظرة لفلسطين أو ما تبقى منها. لكن "الوعد الدسم" والمنتظر كان إدخال الجيل الرابع - وربما الخامس - من شبكة الاتصالات إلى الضفة المحتلة وقطاع غزة.
اقرأ أيضاً: الأميركيون والضفة المحتلة (2 / 4): الأمن أولاً... ودائماً
في الضفة، لا تزال الشبكة متوقفة عند الجيل الثالث، وفي غزة عند الثاني فقط، مع أن شركات فلسطينية مثل "جوال" كانت قد استقدمت أجهزة الجيل الثالث منذ عام 2008، ثم بقيت عالقة في ميناء أسدود ممنوعة من دخول غزة، فيما أدخل بعضها إلى الضفة. وكان هناك أيضاً تفعيل لـ "اللجنة الاقتصادية الإسرائيلية-الفلسطينية المشتركة"، والوعد بعمل معبر "الملك حسين-ألنبي-الكرامة" بين الضفة والأردن 24 ساعة يومياً على مدار الأسبوع، وقد تأخّر حتى طُبّق تجريبياً في مطلع عام 2022 أسبوعاً واحداً.. فضلاً عن وعود أخرى.
في قضية تطوير الاتصالات، يَرِدُ في الحديث الدارج أن أسباب رفض "إسرائيل" تطوير شبكات الاتصال أسباب أمنية، مع أن الواقع يقول عكس ذلك تماماً، خصوصاً في الضفة حيث يفيد تطوير الشبكات في المراقبة والمتابعة السريعة للمطلوبين ولأي عمليات مقاومة على الأقل. بعض الباحثين ذهب إلى أن الأمر مرتبط برفض إسرائيلي لتحسين معيشة الناس في الضفة، في وقت تخلق "تل أبيب" "بيئة طاردة" لسكان الضفة المنوي قضمها وضمها -كلها أو الأجزاء الأكبر منها - إلى ما وراء خط 1948. هذا أيضاً يتنافى وفكرة "التحسينات" التي اعتمدها الاحتلال منهجاً مقابلاً للمقاومة والانتماء إليها.
تعددت التفسيرات وتشعبت، ومنها ما ربط الأمر بالسلطة نفسها وأن ما يجري عقاب لها، خصوصاً أن رام الله كانت مصرّة على تنفيذ هذه الخطوة، وهو إصرار لقي صدى كبيراً في الولايات المتحدة حتى قبل زيارة بايدن فلسطين. ففي 16 آذار/مارس 2022، قال السفير الأميركي في "تل أبيب"، توم نايدس، إن بلاده بصدد تعزيز اقتصاد الضفة عبر خدمات الجيل الرابع ووظائف في مجال التكنولوجيا.
وتشمل الخطة الأميركية ضمان الوصول إلى شبكات G4 لجميع الفلسطينيين، وإقناع شركات تكنولوجيا كبيرة بفتح مكاتب لها في الضفة بعدما خصصت واشنطن في ذلك الشهر 5 ملايين ونصف مليون دولار للشركات الإسرائيلية والفلسطينية ورائدات الأعمال؛ "لتعزيز الشراكات عبر الحدود، وزيادة النمو الاقتصادي وإرساء أسس السلام من خلال برامج بين الناس"، وفقاً لبيان صدر عن "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (USAID).
حتى تشرين الأول/أكتوبر الماضي (بعد ثلاثة أشهر على زيارة بايدن)، لم يحدث تطور كبير في هذا الملف، ووفق تقرير صدر في نهاية ذلك الشهر في موقع "تايمز أوف إسرائيل"، لا تزال الإجراءات المعلنة تنتظر بمعظمها أن تؤتي ثمارها، مع أن "الآمال لا تزال كبيرة في التغلب على العقبات البيروقراطية وغيرها من العوائق التي أبقت الوعود بعيدة من التنفيذ الكامل".
مع ذلك، يشرح الموقع أن تطوير شبكات الاتصالات "هو المجال الوحيد الذي بدا فيه المسؤولون الإسرائيليون والفلسطينيون والأميركيون متفائلين بالإجماع بأن الأطراف ستكون قادرة على تحقيق هدف بايدن. قال وزير الاتصالات في السلطة، إسحاق سدر، إن نظراءه الإسرائيليين حدّدوا حديثاً (9 / 2022 - 10 / 2022) ترددات الجيل الرابع للسلطة، ومن المقرر أن يجتمع الجانبان من أجل إعداد مذكرة تفاهم حول هذه المسألة بحلول 23 كانون الثاني/يناير 2023".
كان لافتاً رد سدر على سؤال الموقع نفسه عن تأثير نتائج الانتخابات الإسرائيلية في قلب هذا المسار بالنفي، "لأنها قضية إنسانية لا سياسية". أما المسؤول الأميركي الذي لم يذكر اسمه، فأضاف نقطة أخرى إلى هذا "التفاؤل": "نحن في حال جيدة.. التفاؤل أكبر بشأن تنفيذ الخطوة في الضفة أكثر من غزة". ثم عاد سدر وتحدث إلى موقع "أريبيان بيزنس" في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2022 قائلاً: "نحلم بإدخال خدمات الجيل الخامس، والفلسطينيون يتعطشون إلى جيل الإنترنت الرابع والخامس من أجل تطوير ريادة الأعمال ومسايرة التطور الهائل في هذا القطاع كسائر الدول في المنطقة.. ستتغير جودة الحياة".
لكن، هل فعلاً هي قضية إنسانية كما وصفها الوزير الفلسطيني، وهل التفاؤل الأميركي في محله إلى حدّ أن واشنطن عاجزة عن إجبار، أو الضغط على، "تل أبيب"، لتنفيذ وعد رئاسي لا يُعدّ ذرة غبار قياساً على ما وعدت به بلاده الفلسطينيين من دولة وسيادة وسلام وأمن ومطار وسوى ذلك.
قضية على مستوى رئاسي
ظهر الوعد بالسماح لشركات الاتصالات الفلسطينية بإدخال الجيلين الرابع والخامس بعد سنوات من المماطلة الإسرائيلية على أنه واحد من أبرز المكتسبات (الاقتصادية) لزيارة بايدن بيت لحم، وذلك بعد قرابة عام من تداول الخبر أول مرة في 9/2021، حين أعلن الوزير سدر أن الجيل الرابع سيدخل فلسطين في مدة أقصاها عام، وأن الخطوة التي ستلي ذلك هي توفير الجيل الخامس. وقد سبقه مسؤول كبير في الإدارة الأميركية كشف أن السماح لشركات الاتصالات في الضفة وغزة بالاتصال بشبكات الجيل الرابع سيكون بحلول نهاية 2023، أي جرى تقديم الموعد مع زيارة بايدن.
وفق سدر، دفعت "المراوغة والمماطلة الإسرائيلية الكبيرة" رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى طرح هذا الموضوع في لقائه وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، في أيلول/سبتمبر عام 2021. بينما بدا إعلان الرئيس الأميركي في إطار زيادة "هدايا" الزيارة وزخمها، فإن الحقيقة أن وزارة الاتصالات الإسرائيلية وافقت في نهاية نيسان/أبريل الماضي على الاجتماع بالفلسطينيين للبدء فعلياً في تحديث شبكات الاتصال.
في ذلك الاجتماع، عرضت "إسرائيل" عدداً محدوداً من ترددات الجيل الرابع، أقل مما حدّده المقيّمون الأوروبيون لاحتياجات الفلسطينيين، وفيما طلب الفلسطينيون 90 ميغاهيرتز لتشغيل الشبكة على الجيل الرابع، أعطاهم الإسرائيليون 33 ميغا من الرابع، و80 من الخامس، أي الثلث تقريباً. وبرر المسؤولون الإسرائيليون انخفاض العدد بالقول ببساطة: لم يتبقَّ طيف كافٍ للفلسطينيين.
يُذكر أن هذه القضية كانت دوماً هدية أميركية، إذ سبق أن أعلن الرئيس الأسبق باراك أوباما السماح بتحديث شبكات الجيل الثالث للسلطة خلال زيارته رام الله عام 2013، لكن، دخلت هذه الخدمة فعلياً عام 2018 مدن الضفة، أي بعد 4 سنوات من ذلك الوعد، و4 من بدء "إسرائيل" باستخدام الجيل الرابع!
اقرأ أيضاً: الأميركيون والضفة المحتلة (1 / 4): الاحتلال في وجه آخر
لم يفت خطة ترامب (صفقة القرن) التطرق إلى قطاع الاتصالات، إذ تضمّنت توفير الحوافز المالية والخبرات الفنية لدعم القطاع الخاص الفلسطيني في تطوير خدمات الاتصالات في الجيلين الرابع والخامس، وحتى الحوافز المالية للشركات والبلديات الفلسطينية في توفير خدمات الإنترنت العامة العالية السرعة.
يفتح هذا الاهتمام الإسرائيلي-الأميركي-الفلسطيني بشبكات الاتصال وتطويرها الجدل واسعاً حول الاستخدام السياسي والأمني لها، ويضع علامات استفهام على الحرص الفلسطيني على الاستثمار في هذا القطاع، مع وجود قطاعات أكثر إلحاحاً مثل الكهرباء، سواء في غزة أو في الضفة، فضلاً عن استخراج الغاز الذي وجد طريقاً إلى الحل حديثاً بعدما حرّك لبنان ومقاومته حجراً كبيراً في هذا المسار.
احتلال خلوي!
من الجدير توضيحه أن شركتين كبريين وعدداً آخر من الشركات الصغيرة تعمل في سوق الاتصالات في غزة والضفة. كبراها مجموعة الاتصالات الفلسطينية "بالتل"، وتتفرع منها شركة الاتصال الخلوي الأولى "جوال" و"اتصالات" للخطوط الأرضية و"حضارة" لخدمات الإنترنت و"بال ميديا" لخدمات الإنتاج التلفزيوني والبث الفضائي و"ريتش" التي تقدم خدمات الاتصال للشركات الاستثمارية. أما الثانية، فاسمها "أوريدو"، وهي جزء من مجموعة قطرية تحمل الاسم نفسه وتقدم خدمات الخلوي والإنترنت.
الشهرة والقدم هما من نصيب "الاتصالات" التي أسست بصفة شركة مساهمة عامة عام 1995 وتوفر خدمات الاتصالات الثابتة والخلوية والإنترنت من رفح حتى جنين، أي داخل الأراضي المصنفة تحت سيطرة السلطة، وتستثنى من ذلك مناطق ومحيط الحواجز الاحتلالية الممتدة من شمال الضفة إلى جنوبها، إذ يمنع تركيب أبراج تقوية فلسطينية. لاحقاً، توسّع نشاط "الاتصالات" عبر شركة استثمارية يساهم فيها عدد من الشركاء والمساهمين من السعودية والإمارات والولايات المتحدة، ومجموعة مستثمرين من الأردن هي VTEL.
لم تؤسس "الاتصالات الفلسطينية" إلا بعد أن سمح الاحتلال للفلسطينيين بذلك، فبموجب "اتفاقية أوسلو" ووفقاً لأحكام المادة 36 للتنظيم القانوني للطيف الترددي، منحت الاتفاقية الجانب الفلسطيني صلاحيات في مجال الاتصالات، لكنها علّقت بعض الصلاحيات باشتراط الحصول على موافقة الاحتلال.
حتى يومنا، لا تستطيع "الاتصالات" تمرير الاتصالات بين الضفة وغزة إلا بالمرور عبر شركات اتصالات إسرائيلية بسبب سيطرتها على سعة روابط الموجات المتناهية الصّغر (الميكرويف)، وهو ما يعني أن الإسرائيلي لا يحتاج أحياناً إلى اختراق هذه الشبكة لأنه يملك جزءاً منها أو يؤجر خطوطاً لها. كذلك، اشترطت الاتفاقية على العاملين والمزوّدين لخدمات الاتصالات في الضفة وغزة عند إبرام الاتفاقية أو في أي وقت لاحق الحصول على موافقة وزارة الاتصالات الإسرائيلية.
يمثل الطيف الترددي الركن الأهم في عملية البث والإرسال في الاتصالات اللاسلكية، وقد أُعطي حق إدارة الطيف الترددي الإسرائيلي مع أنه "ثروة وطنية فلسطينية". مع ذلك، رفضت "إسرائيل" حصول الفلسطينيين على الحد الأدنى من الترددات المطلوبة، ما عرقل تطور الاتصالات الخلوية والإنترنت والاندماج الكامل في شبكات الاتصالات الثابتة والمتنقلة، فانعكس ذلك سلباً على عمل الاتصالات الخلوية كـ"جوال" و"الوطنية موبايل".
عندما كانت تعجز هذه الشركات عن الحصول على شيء من الإسرائيليين، تشتكي بنفسها أو عبر السلطة إلى الأميركيين. ففي 2008 مثلاً، توصلت "أوريدو" إلى اتفاق مع الإسرائيليين أفرج بموجبه عن الترددات بعد مشاركة مكثّفة من مكتب ممثل "اللجنة الرباعية الدولية" ومسؤولين أميركيين. لكن، حتى 2015، بقيت "جوال" تعمل في الضفة بنظام الإنترنت القديم G2 الذي بُدئ العمل به في تسعينيات القرن الماضي، مع أن دول العالم حتى الفقيرة وصلت في تحديث شبكات اتصالها إلى الجيل الرابع كحد أدنى.
بعد ثلاث سنوات من المفاوضات والمماطلة الإسرائيلية أي في عام 2018، بدأت شبكات الاتصال في مناطق السلطة بتشغيل G3 من دون غزة التي ما زالت على الجيل الثاني حتى اليوم، غير أن تلك الخدمة لم تكن مثالية، إذ لم يكن مستغرباً أن يتلقّى مستخدمو الهاتف المحمول في قلب المدن الفلسطينية رسائل تفيد بتجوالهم على إحدى الشبكات الخلوية الإسرائيلية، مع أنهم على بعد أمتار قليلة من أبراج التقوية الفلسطينية.
في المقابل، كثفت الشركات الإسرائيلية انتشارها في المستوطنات والمناطق المصنفة "ج" من الضفة مستفيدة من الجيلين الرابع والخامس، فوجد الفلسطينيون الذين يستخدمون الشبكات الفلسطينية أنفسهم أمام جملة مشكلات كالتشويش على اتصالاتهم والانقطاعات المتكررة وارتفاع تكاليف الهاتف المحمول، خصوصاً عند تحوّلها إلى التجوال على الشبكات الإسرائيلية، فيما كانت السلطة تطالب الأمم المتحدة والاتحاد الدولي للاتصالات بوقف انتهاكات الاحتلال والشركات الإسرائيلية.
بسبب الاتجاه إلى استخدام الشبكات الإسرائيلية في الضفة، خصوصاً أن الفرق في السعر كبير وجودة الخدمة لمصلحة الأخيرة، أعلنت وزارة الاتصالات الفلسطينية أن خسارة الفلسطينيين في هذا السوق باتت بمئات الملايين من الدولارات. أيضاً كان من انعكاسات سيطرة الاحتلال على المدى الرقمي تحكّمه بالمنافذ الدولية للاتصالات، ما يفرض على الشركات الفلسطينية الوصول إلى الخارج عبر الشركات الإسرائيلية باستئجار سعات بشروط وأسعار غير عادلة، إضافة إلى تهريب المكالمات الدولية لفلسطين، وفق الوزارة.
في الوقت نفسه، يتحكم الاحتلال باستيراد وإدخال الأجهزة والمعدات اللازمة لبناء الشبكات وتحديثها، وعليه لا يتمكن المشغلون الفلسطينيون من تغطية أكثر من 60% من مساحة الضفة الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية (مناطق ج)، في مقابل 75% هي نسبة التغطية الإسرائيلية التي ستصل قريباً إلى 95%.
في المقابل، يفيد تقرير للبنك الدولي بأن المشغّلين والشركات الإسرائيلية يستحوذون على نحو 22% من السوق الفلسطيني في الضفة، وتقدر تقارير صحافية إسرائيلية وجود مئات هوائيات البث الصغيرة في المستوطنات، وغالبيتها أقيمت من دون تراخيص من الإدارة المدنية التابعة لسلطات الاحتلال في الضفة. لكن، وفقاً لإذاعة "الجيش" الإسرائيلي، هناك قرابة مئة هوائية خلوية على أراضٍ خاصة بالفلسطينيين، فيما ذكر تقرير لموقع "والاه" الإسرائيلي أن الشركات الإسرائيلية تنصب هوائيات صغيرة فوق منازل باستئجار شهري يتراوح بين 1000 و1500 دولار، مشيرة إلى نحو 225 هوائية بث صغيرة في المستوطنات.
الخبر الأهم أوردته صحيفة "ذا ماركير" الاقتصادية، وفيه أن "إسرائيل" شرعت حديثاً في بناء نحو 60 محطة خلوية ضخمة لمختلف شركات الخلوي الإسرائيلية في الضفة، فضلاً عن تأسيس بنى تحتية لشبكة اتصالات أرضية، إذ رصدت الحكومة ميزانية أولية لذلك بقيمة 15 مليون دولار. ووفقاً لوزارة الاتصالات الفلسطينية، كان عدد الأبراج حتى نهاية 2020 هو 560، وتجري التوسعة بذريعة توفير خدمات اتصال للمستوطنين.
في النتيجة، بدا أن الاستثمار الفلسطيني في الجيل الثالث منذ عام 2018 حتى اليوم أصيب بخيبة، لأن القدرة التنافسية لشركات الاتصال في الضفة متواضعة، إذا ما قورنت بما تقدمه ثماني شركات إسرائيلية، أهمها "سيليكوم" و"بيزك" (تملك شبكة بيليفون) و"بارتنر" (أورانج سابقاً) و" جولان تليكوم"، تعمل بلا رسوم أو رخصة ولا تدفع ضرائب للسلطة، بل تتلقى تحفيزات من حكومتها كي تعمل في الضفة.
فالمستهلك الفلسطيني يختار أن يدفع 25 شيكلاً (100 دولار أميركي = 345 شيكلاً) في مقابل خدمات الاتصال الفائقة الجودة، والإنترنت من الجيل الرابع أو الخامس، على أن يدفع قرابة 90 شيكلاً في مقابل إنترنت من الجيل الثالث وقدرات اتصال محدودة بل معرضة للتشويش، هذا على سبيل المثال.
سيزداد الوضع سوءاً في حال نفذت "إسرائيل" خطتها تغطية شبكاتها لتشمل 95% من مناطق الضفة عوضاً من 75% حالياً وفق قرار وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، في 14 شباط/فبراير 2021. واللافت أنه حتى وقت قريب، في تشرين الأول/أكتوبر 2021، منح وزير الاتصالات الإسرائيلي آنذاك، يوعاز هندل، "بيزك" ترخيصاً بالعمل الكامل في الضفة.
تقول وثيقة وزّعتها وزارة الاتصالات الفلسطينية على هامش أعمال مؤتمر "إكسبوتك فلسطين 2018" إن الحصة السوقية لشركات الاتصالات الإسرائيلية في السوق الفلسطيني بلغت في ذلك العام 17% (اليوم تجاوزت 22%)، مشيرة إلى أن عدد بطاقات الهواتف الإسرائيلية الفعالة في السوق الفلسطيني يبلغ 600 ألف (فاقت المليون خلال هذه السنة، علماً أنها بلغت مليوناً عام 2020) على الرغم من إعلان السلطة محاربة هذه الظاهرة ومصادرتها أسبوعياً المئات أو الآلاف منها.
تفيد الوثيقة نفسها بأن الفلسطينيين الحاملين الشرائح الإسرائيلية يدفعون ما يقارب 355 مليون شيكل سنوياً (99 مليون دولار) في مقابل استخدامهم لها (هذه بيانات 2018، ولم تحدث وزارة الاتصالات الفلسطينية البيانات بعد 2019). وفي المقابل، خسرت الخزينة الفلسطينية عام 2017 مثلاً ما قيمته 116 مليون شيكل (32.5 مليون دولار) على شكل ضرائب ورسوم نتيجة استخدام الشرائح الإسرائيلية.
بحلول 2020، كان إجمالي ما فقدته الخزينة الفلسطينية من جراء نشاط الشركات الإسرائيلية في الضفة نحو 217 مليون شيكل سنوياً (59.6 مليون دولار)، بحسب التقرير الرسمي، أي بمجموع يفوق ملياراً وربع مليار حتى السنة الماضية.
تزاوج رأس المال والسياسة
لكن، لماذا تصرّ السلطة على حل هذه الإشكالية؟ هل يعود ذلك إلى سبب وطني؟ فالأوْلى وقف التنسيق الأمني أو حتى تخفيضه، وكذلك التعاون التجاري الرسمي وغير الرسمي. الإجابة تكمن في التشابك الرهيب والعميق بين رأس المال والسياسة في السلطة، وتحديداً أسهم ونسب قادة الأخيرة ووزرائها في الشركات الكبرى وحتى المشاريع الصغيرة، وهذا ما يفسر الإصرار على هذا المطلب، أي من أجل الحصول على حصة وازنة من كعكة دسمة من أموال الناس.
على الجهة المقابلة، يبدو ببساطة أن "إسرائيل" لا تريد -حتى لو كرمى للأميركيين-تقديم هذه الهدية على طبق من ذهب إلى رام الله المطالبة بأن تركز على دورها في إدارة الشعب الفلسطيني وضبطه لا توسيع ثرواتها، بخاصة إذا كان ذلك على حساب تلك المهمة، أو بالحد الأدنى أن مسؤولي السلطة المتخمين ومن حولهم من رجال أعمال لا يستحقون هذه الأموال الإضافية التي هي أوْلى بالشركات الإسرائيلية، وفق رؤية "تل أبيب"! وإن كان لا بدّ، فضمن تقاسم مدروس وضرائب سياسية ونتائج مجتمعية تصب في مصلحة الاحتلال وتوسعة سيطرته ومستوطناته.
لرؤوس السلطة ورجالات الأعمال المحيطين بها مجموعة شركات ستستفيد مباشرة من تطوير شبكات الاتصالات، أبرزها First Option Project Construction Management Co (تحصل على عقود أميركية خاصة كما كشفت وكالة "رويترز") التي أشرفت على تنفيذ مشروعات بنى تحتية وبناء مدارس وشق طرق وإنشاء مستشفيات وأبنية للمؤسسات الحكومية، ونالت ميزة الخيار الأول بين شركات المقاولات فلا منافس لها.
كذلك هناكFalcon Holding Group التي تفرع منها عدد من الشركات أبرزها: Falcon General Investment في مجال الاتصالات وتحديداً الهواتف الثابتة، و Falcon Electro Mechanical Contracting في مجال المحطات والمولدات الكهربائية. أيضاً تضم المجموعة Falcon Global Telecom و Falcon Tobaccoالمتخصصة في استيراد أنواع السجائر البريطانية، وFirst Falcon للهندسة المدنية والكهربائية والمقاولات والتجارة. بجانب ما سبق، هناك "المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار" (بكدار) PECDAR و"باديكو القابضة" PADICO Holding، وحاز الاثنان منذ تأسيس السلطة عام 1994 مئات العطاءات في تعبيد الطرق وبناء المؤسسات الحكومية والمشروعات السيادية، ما أكسبهما ملايين الدولارات. والحديث هنا عن صف كبير من القيادات الرسمية ورجال الأعمال المستثمرين في قطاع الاتصالات وما يرتبط به.
حديثاً، بات كل مشروع ذي جدوى اقتصادية كبيرة لا تسمح السلطة بترخيصه إلا بتزكية من بعض الشخصيات التي تعطيه الترخيص بعد أن تأخذ نسبة من أرباحه، فيما تتهم المشروعات التي تعاند بالعمل في غسيل الأموال لـ "حماس"، حتى تحصل تلك الشخصيات على مرادها. فمثلاً، كان الاتحاد الأوروبي يقدم مشروعات اقتصادية، لكن لا يصرف المال إلا بعد تقديم أوراق عقود تتضمن شراء الأراضي للمشروعات، فتشتري الشخصيات المتنفذة في السلطة الأرض من ملاكها بمبالغ عالية جداً، وتحوي الاتفاقية بنداً مفاده أن البائع تسلم سعر الأرض مع أنه لم يتسلم الأموال رسمياً، وعندما تُحول الأموال من الأوروبيين يساومون أصحاب الأرض على السعر، ثم تبقى الأموال في المصارف بأسماء المسؤولين ليستفيدوا منها أرباحاً وفوائد لعشرة أشهر أو سنة، وبعد تلك المدة يبدأون بصرف الأموال على دُفعات.
تتشابك الشركات ومديروها أو مالكوها مع عضوية بعضهم في إدارة "صندوق الاستثمار الفلسطيني" و"البنك العربي" و"الاتصالات"، ويوظف هؤلاء عدداً كبيراً من أبناء وزراء السلطة. هكذا، يؤثر التزاوج بين الطبقة الحاكمة ورأس المال في قرارات السلطة وأولويات خياراتها الاقتصادية، فيما تتفهم "إسرائيل" والولايات المتحدة على نحو عميق ودقيق مدى استغلال رؤوس السلطة صلاحياتهم في زيادة ثرواتهم وتمدد مشروعاتهم.
في الوقت نفسه، لا يستطيع رجالات السلطة الكبار انتقاد أي حال من تمدّد رأس المال وسطوته لكون الجميع شريكاً في مجالات اقتصادية، وهم يستخدمون فيها صلاحياتهم لتحصيل العطاءات والمشروعات، بل يعمل كثيرون من مسؤولي السلطة في المجالات الاقتصادية عن طريق شركات ومستثمرين ورجال أعمال معروفين كي لا يتعرضوا للانتقاد وحتى الابتزاز والحرق في أي خلاف داخلي.
ما وراء الإلحاح
استناداً إلى ما تقدم، نجد أن أهداف السلطة تتجاوز الإلحاح في الحصول على خدمات الجيل الثالث سابقاً، والرابع حالياً والخامس مستقبلاً، حدود تحسين هامش الرفاهية في حياة السكان إلى مقاصد اقتصادية شخصية ومشتركة، خصوصاً أن شركات الاتصالات المعنية بالخدمة تربط أصحابها علاقات وثيقة برجالات السلطة الكبار، وخصوصاً المستثمرين الرئيسيين في شركات الاتصال والإنترنت، سواء "الاتصالات" أو "أوريدو فلسطين". وعليه، حين تمنح "إسرائيل" السلطة هذا الامتياز فهي تعطيه ضمناً لجيوب قادة السلطة أو طبقة رجال الأعمال التي تسيطر على الاقتصاد في الضفة وغزة.
وإذا دخلت شبكات الجيل الرابع أو الخامس، فستفتح أبواباً كبيرة للاستفادة من المجالات الاقتصادية المرتبطة بها، والكلام هنا عن قطاعات كبيرة تعود على تلك الشركات بأرباح مليونية، من مثل المحافظ الإلكترونية والأرصدة السحابية والهواتف المحمولة والأنظمة الذكية مثل كاميرات المراقبة والبيت الذكي والسيارات الذكية، ما يعني استقدام العشرات من المشروعات الاستثمارية إلى فلسطين، فيما تُحجم شركات دولية كبيرة حالياً عن التمدد هنا لأن شبكة الاتصال لم تتطور على نحو جذري منذ عشر سنوات.
من الناحية الحكومية، تسهم شبكات الجيل الرابع في الدفع بتقدم نظام الحوسبة الإلكترونية الذي يلح الاتحاد الأوروبي على السلطة لإنجازه، إذ تريد السلطة أن تلبي المطلب الغربي مع وعود بتقديم مشروعات كبيرة لهذا الغرض، خصوصاً أن الأوروبيين يريدون حوسبة القطاع المالي في مناطق السلطة وغزة تدريجياً، وقد دفعوا من أجل ذلك خمسين مليون دولار، وهو مجال مرهون بشبكة إنترنت سريعة وحديثة تغري السكان بتحويل نمط الادخار والإنفاق من "الكاش" إلى المحوسب عبر المحفظة السحابية، لأن ذلك يجبر السكان على استخدام خدمات الدفع الذكية، ما يوفر بيانات أكثر دقة عن المقدار المالي لدى السكان إلى الجهات الأمنية الغربية، وهو ما يتيح دقة أكبر في تحديد السياسات المالية، وأيضاً فرض رقابة قصوى على الحوالات بين مناطق السلطة بما يسمح بتتبع المقاومة وطرق تمويلها.
هذه الخطوة الأخيرة تقضي على نحو إستراتيجي على عمليات غسيل الأموال التي تنتهجها المقاومة في إدخال أموالها إلى المدن والمناطق التي يفرض عليها الاحتلال والسلطة رقابة كبيرة، فيما يرى الاتحاد الأوروبي أن النظام المحوسب يمكن اعتماده في صرف المساعدات النقدية وحتى المنح العربية مثل المنحة القطرية في غزة، إذ يسمح ذلك برقابة أكثر على اتجاهات صرف المنتفعين ويحدد بدقة هل تصل مباشرة أو غير مباشرة إلى فصائل المقاومة.
الموازين الإسرائيلية
على الرغم مما سبق، لا ينفي هذا كله الاعتبارات الأمنية وفكرة منع تحسين مستوى عيش الفلسطينيين في الضفة أو غزة ومكانها في الموازين الإسرائيلية، إذ يجب ألا يأتي هذا كله من دون مقابل يتمثل في ضمان الهدوء أطول مدة ممكنة، فقد تبدو "إسرائيل" متضررة من دخول الجيل الرابع مناطق السلطة، خصوصاً من جراء المنافسة بين الشركات الإسرائيلية ونظيرتها الفلسطينية، لكن ثمة مجموعة من العائدات الأمنية التي يمكن أن تحصّلها في هذا الإطار. أهمها الاستفادة من نظام الرقابة المطور عبر كاميرات المراقبة المباشرة في تشديد الخناق الأمني على المقاومة وتتبع خلاياها أو المنفذين بصورة منفردة.
أيضاً يتيح الاعتماد الفلسطيني الكامل في مجال الاتصالات على البنية التحتية الإسرائيلية للأخيرة السيطرة كلياً على المستخدم الفلسطيني، سواء بترويج الدعاية أو حتى باستغلال الموجات وقطعها أو التشويش عليها، أو إرسال رسائل إلى المستخدمين، كما حدث في الحروب على غزة في 2008 و2012 و2014، وأيضاً الرسائل إلى طلاب الجامعات بالضفة لتحذيرهم من الانضمام أو مناصرة الحركات الطالبية، فضلاً عن المراقبة الأشمل والأسهل للحسابات الإلكترونية والمكالمات.
المخاطر في غزة تبدو أكبر لأن تقنيات الاتصال العالية السرعة يمكن أن تستعمل في زيادة دقة توجيه الصواريخ والمسيّرات، وأيضاً زيادة حدة الاختراق السيبراني لأوساط الاتصالات اللاسلكية لـ"الجيش" الإسرائيلي. ويكفي مثلاً أن الأخير سمح بإدخال أعمدة الإرسال إلى القطاع بعدد مدروس كي تضطر الشركة المشغلة إلى نصب هذه الأعمدة بطريقة توفر لـ"إسرائيل" تحديد الأهداف التي تحمل هواتف متنقلة بدقة متناهية.
عودة إلى الأميركيين الذين يفهمون الاعتبارات الفلسطينية والإسرائيلية والأوروبية، وكذلك الأردنية والقطرية، على حد سواء. فواشنطن كما "تل أبيب" تريد من رام الله ثمناً في مقابل هذه الخطوة مع أن لها منافع شبيهة بما يريده الأوروبيون، فيما يبدو المواطنون الفلسطينيون آخر من يستفيد من خدمات الجيل الرابع، إذ إن القدرة الشرائية للسكان أقل من أسعارها، كما أن الاتجاه إلى الحياة الذكية سيبقى محدوداً في المراحل الأولى من هذا المشروع الذي بات الآن "إنجازاً وطنياً" وبديلاً من "السلام"!