الأسد يضع شروطه للتطبيع مع أنقرة.. دمشق لا تريد أن تلدغ من الجحر التركي مرتين
دمشق وضعت مصلحتها الوطنية فوق كل الاعتبارات، فبدت غير متحمسة للقاء بين الأسد وإردوغان، خاصة وأن المعارضة التركية تطرح فكرة الانسحاب من الأراضي السورية وعودة اللاجئين، بمعنى أنها ستنفذ ما يعد إردوغان بتنفيذه.
لطالما شهدت العلاقات السوريا التركية توترات كبيرة وصلت حد التهديد باجتياح الأراضي السورية، لكن دمشق استطاعت في كثير من الأحيان تجنب تلك التهديدات باتخاذ خطوات جريئة وفي اللحظة المناسبة.
لكن السنوات الأخيرة كانت هي الأسوأ في العلاقة بين البلدين، حيث وصلت إلى حد اجتياح القوات التركية لعدد من المناطق السورية وإقامة قواعد عسكرية فيها لتصبح بذلك دولة احتلال شأنها في ذلك شأن الكيان الصهيوني الذي يحتل أجزاء من الجولان السوري منذ العام 1967.
العودة بالحديث إلى ماضي العلاقات بين البلدين تشير إلى أن "فقدان الثقة" هي السمة الأبرز لطبيعة تلك العلاقات، وهو ما دفع كلا البلدين إلى استضافة المعارضين للدولة الأخرى. فأنقرة استضافت ومنذ عقود الإخوان المسلمين، وهم المصنفون تنظيماً إرهابياً، ومحكوم على المنتمين إليه في سوريا بالإعدام. بينما استضافت دمشق حزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان.
وقّع الطرفان اتفاق أضنة عام 1998، وهو الاتفاق الذي تدعو دمشق إلى احترامه، متهمة تركيا بخرقه عبر دعمها "للمعارضة السوريا المسلحة". في حين ترى أنقرة أن دمشق لم تحترم هذا الاتفاق وبقيت تستضيف مجموعات علي كيالي (معراج أورال).
ولأنّ إقامة العلاقات الطبيعية بين البلدين هو منطق تفرضه الجغرافيا ولا أحد يمكنه أن يتنكّر له، فقد شهدت العلاقة بين البلدين تطوراً كبيراً، يمكن وصفه بـ "الانفلاش في العلاقات"، حيث تطورت بسرعة مذهلة وعلى حساب سوريا ربما، وقد أكد ذلك ما حدث لاحقاً حين بدأت الحرب في سوريا وكانت أنقرة طرفاً رئيسياً فيها.
الحرب أظهرت مدى الغدر والخداع الذي يتصف به الجانب التركي، خاصة حين صرّح إردوغان عن رغبته في أن يؤم المصلين في الجامع الأموي، مبدياً حقداً دفيناً وأطماعاً عثمانية لم يستطع نسيانها.
وبعد سنوات من الحرب على سوريا، والتي خلفت أضراراً كبيرة على الصعيد الاقتصادي، لكنها على الصعيد السياسي لم تحقق هدفها المتمثل في تغيير نظام الحكم في سوريا، ليكون الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية المتطرفة هم البديل عنه، على غرار ما حدث في تونس ومصر وليبيا.
وبعد أن وصل الجميع إلى قناعة بضرورة التعامل مع الأمر الواقع، أي مع النظام السياسي القائم في سوريا. وبعد أن ظهرت مطالبات شعبية تركية تنادي بعودة اللاجئين إلى وطنهم، ولاعتبارات داخلية وانتخابية، بدأت أنقرة تنادي بضرورة عودة العلاقة مع دمشق، وقد جاء ذلك على لسان الرئيس التركي نفسه، مبدياً رغبته بعودة العلاقات بين البلدين إلى طبيعتها، متجاهلاً القطيعة النفسية التي تشكّلت لدى القيادة السورية من التعامل معه. مشيراً إلى أنه في السياسة لا توجد عداوات دائمة، محتكماً في ذلك إلى الميكافيلية التي حكمت سلوكه وتوجهاته السياسية، تلك الميكافيلية التي لم يعرف منها إلا أسوأ ما جاء فيها، وهو أن "الغاية تبرّر الوسيلة".
مع الإشارة هنا إلى أن الهدف التركي ليس انتخابياً فقط، خاصة وأن المعارضة التركية تبدو ضعيفة ومفكّكة وغير قادرة على تقديم مرشح قوي يكون منافساً حقيقياً لإردوغان. ولعل الدافع الحقيقي وراء هذا الموقف التركي هو أن تركيا بدأت تخشى وجود مشروع أميركي يستهدف إقامة كيان كردي في شمال شرق سوريا، حيث تم رصد مبلغ 500 مليون دولار في ميزانية الدفاع الأميركية العام الماضي لدعم الإدارة الذاتية، وهو ما يشكّل تهديداً للأمن القومي التركي.
ولتلافي ذلك، لجأت تركيا إلى روسيا التي باتت بحاجة إلى أنقرة للتخفيف من حدة العقوبات الأميركية والغربية التي فرضت عليها بسبب الحرب في أوكرانيا، لذا فقد كانت موسكو داعماً قوياً لعودة العلاقات السوريا التركية، دعماً لحليفها إردوغان الذي ترغب باستمراريته في السلطة، وتجنباً لوقوع أي مواجهة بين الجيشين السوري والتركي وهو ما سيضع موسكو في حرج كبير حينها.
الإصرار التركي على عودة العلاقات مع دمشق يشير إلى أهمية ذلك على المستقبل السياسي لإردوغان. مع الإشارة هنا إلى أن الموقف التركي كان قد تغيّر إزاء العديد من الدول ومنها سوريا، حيث بدأت أنقرة بإجراء مراجعات لسياستها الخارجية منذ أكثر من عامين تقريباً، وخاصة تجاه مصر والسعودية والإمارات و"إسرائيل".
تلك المراجعات تحتم على أنقرة أن تأخذ بالحسبان الموقف العربي الرافض لأي اجتياح تركي للأراضي السورية، وقد جاء ذلك في بيان مصري سعودي واضح ومشترك وداعم لوحدة الأراضي السورية.
موسكو من جهتها رحّبت بالموقف التركي، وأعلنت دعمها للمباحثات التي جرت بين وزراء دفاع الدولتين برعاية روسية، وشجّعت البلدين على المضي قدماً لإنجاح اللقاء المنتظر بين وزيري خارجية البلدين وبرعاية روسية أيضاً.
أما الولايات المتحدة الأميركية فقد بادرت بالتدخّل لمنع التقارب التركي السوري، حماية لقوات "قسد"، ومنعاً لاستفراد روسيا بهذا الملف، فعرضت على أنقرة تسوية تقوم على إبعاد قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود التركية، ولمسافة 30 كم داخل العمق السوري.
إنّ أيّ قراءة للرغبة التركية في التقارب مع دمشق يجب ربطها بالعاملين الأميركي والإسرائيلي، فلا يمكن حل موضوع "قسد" والأميركيون موجودون في منطقة شرق الفرات.
أما طهران فقد أعلنت دعمها للتقارب السوري التركي، مبدية رغبتها في أن يكون التطبيع بين البلدين في إطار مسار أستانة، الذي يتيح دوراً أكبر لطهران، وجاء ذلك على لسان وزير خارجيتها حسين عبد اللهيان قبيل وصوله إلى دمشق ولقائه الرئيس الأسد.
دمشق من جهتها وضعت مصلحتها الوطنية فوق كل الاعتبارات، فبدت غير متحمسة لهذا اللقاء، خاصة وأن المعارضة التركية تطرح فكرة الانسحاب من الأراضي السورية وعودة اللاجئين، بمعنى ستنفذ ما يعد إردوغان بتنفيذه. وبالتالي، من الأفضل لدمشق أن يكون هناك تغيير في تركيا، ثم تبدأ عودة العلاقات بين البلدين، خاصة وأن الرئيس الأسد وصل حد القطيعة النفسية في التعامل مع إردوغان، ولا يبدو راغباً في لقائه إذا لم تفرض عليه مصلحة سوريا ذلك، وكان قد عبر عن ذلك صراحة في إحدى لقاءاته منذ سنوات، مع التأكيد أن لا تقارب ولا تطبيع مع أنقرة إلا بالتنسيق مع الحليف الروسي.
دمشق تريد من أنقرة 3 أشياء يجب القيام بها قبل أي خطوات تطبيعية بين البلدين، وهذه الأشياء هي: انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، ووقف الدعم التركي للعصابات الإرهابية المسلحة وما يسمى بالمعارضة السورية، وعدم التزام أنقرة بالعقوبات الأميركية المفروضة على سوريا والشروع في عملية إعادة الإعمار.
كذلك تريد أنقرة من دمشق 3 أشياء وهي: التعاون مع الحكومة السورية في مواجهة "قسد"، والتنسيق بين البلدين لتأمين عودة اللاجئين، وأن يكون لأنقرة دور في العملية السياسية في سوريا.
كما أن أنقرة تريد خروج كل القوات الأجنبية من سوريا، وهو ما يعني خروج القوات الإيرانية والروسية، وهي قوات دخلت بطلب وموافقة الحكومة السورية، ووضعها مختلف عن القوات التركية والأميركية والإسرائيلية، حيث تشكّل الدول الثلاث، دول احتلال للأراضي السورية.
الكثيرون راهنوا على الضغوط الروسية على الحكومة السورية لكن الوقائع أثبتت عدم صحة ذلك، فدمشق تضع أولوياتها ومصالحها الوطنية فوق أي اعتبار، وهو ما عبّر عنه الرئيس السوري بشار الأسد صراحة واضعاً شروط سوريا للبدء بالحوار مع أنقرة، وهي شروط أقرب إلى المبادئ والحقوق التي يجمع عليها السوريون جميعاً، ويؤيدها الحلفاء والأصدقاء والقانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة. فلا مجال للقاء مع محتل، ولا مصافحة مع من يدعم قتلة الشعب السوري.
الموقف السوري هذا جعل تركيا تستمر في التهديد بتنفيذ عمليتها العسكرية في الشمال السوري طالما أن حزب العمال الكردستاني موجود هناك (قسد وأخواتها). "المعارضة السورية" تبدو هي الخاسر الأكبر، خاصة وأنها غير موحدة، كما أنها تعاملت مع تركيا على أنها حزب واحد، فوقعت في الخطأ. حيث لم تتعامل مع باقي الأحزاب التركية.
وبدأت المعارضة تشعر أن تركيا لم تف بالتزاماتها نحوها، فقد توهّمت أن أنقرة قد تضحي بمصالحها لأجلها. وبعد التصريحات التركية المنادية بالحوار مع دمشق بدا واضحاً أن المعارضة السورية لم تكن سوى ورقة في يد الأتراك، ولا مشكلة لدى أنقرة بالتخلص منها عند الضرورة.
وبذلك تكون المعارضة السورية قد فقدت آخر حليف وداعم سياسي لها على المستويين الإقليمي والدولي. وبالتالي، من المتوقّع إغلاق هذا الملف إلى الأبد، باستثناء بعض المواقف التي ستستخدم فيها هذه المعارضة للضغط على دمشق وابتزازها من قبل الولايات المتحدة الأميركية.
تركيا من جهتها تدرس جميع الخيارات وتحاول متابعة دورها في اللعب على الحبال، لذا شهدنا فجأة تصعيداً في التصريحات، فصرّح مستشار الرئيس التركي داوود أقطاي بأن حلب يجب أن تكون تحت الإدارة التركية، لضمان عودة اللاجئين السوريين إليها على حد زعمه. تلك التصريحات تبدو وكأنها استعراض قوة للضغط على دمشق للشروع في الحوار مع أنقرة.
مع الإشارة إلى أن ملف اللاجئين ملف صعب ومعقّد، ولم يكتب له النجاح حتى الآن في لبنان والأردن وهما دولتان تربطهما علاقات جيدة بدمشق. خاصة أن الكثير من اللاجئين ينادون بضرورة أن تـكون هناك ضمانات أمنية خاصة من قبل الأمم المتحدة لحمايتهم من السلطات السورية. بينما الواقع يشير إلى ارتكابهم جرائم يعاقب عليها القانون، ولا تستطيع السلطات تجاوزها في حالة وجود حقوق شخصية.
المشكلة في تلك اللقاءات أنها لن تفضي إلى نتيجة ملموسة على أرض الواقع، فالوقت بات ضاغطاً على الرئيس التركي، والانتخابات باتت قريبة جداً. واستعادة الثقة بين الجانبين هي المفتاح الحقيقي لبدء صفحة جديدة من العلاقات أساسها المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل لكلا الطرفين.
إنّ أيّ لقاءات سياسية منتظرة بين دمشق وأنقرة، فيما لو حصلت، قد تغير شكل المنطقة، لكنها لن تقدّم حلولاً سحرية للأزمة السورية، فسوريا تعاني وضعاً اقتصادياً صعباً، يمكن لحلفائها تأدية دور كبير في التخفيف منه عبر خرقهم للعقوبات الأميركية المفروضة عليها.