الأزمات المالية والسياسية تحاصر التونسيين.. هل تتبدّل الحال في 2023؟
على ما يبدو، فإن الأزمة آخذة في التصاعد، خاصة بعد إجراء الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الشهر الماضي، من دون الالتفات إلى عزوف المعارضة، وتدنّي نسبة المشاركة.
يواجه التونسيون أوضاعاً معيشية مضطربة؛ بسبب النقص الحاد في المواد الغذائية الأساسية والسلع الهامة التي يحتاجونها بشكل يومي من جهة، وارتفاع أسعارها مقارنةً بالأعوام الفائتة من جهة أخرى، وبالرغم من الوعود الحكومية المتكررة بتحسّن الأحوال وعلاج العجز الحاصل في الأسواق والعمل على خفض الأسعار بالاتفاق مع التجار، تتجه الأوضاع نحو الأسوأ، خاصة مع اشتداد برودة فصل الشتاء وزيادة الطلب على السلع والخدمات.
في سياق موازٍ، تعاني البلاد من أزمة سياسية؛ بسبب الانقسام الحاد بين مؤسسة الرئاسة و"جبهة الخلاص الوطني" المعارضة التي تتزعمها حركة "النهضة" ذات المرجعية الإسلامية، وسط اتهامات متلاحقة للرئيس قيس سعيد بالاستحواذ على السلطات كافة منذ أكثر من عام، بعد إقالة الحكومة وتعليق عمل البرلمان ثمّ حلّه.
وعلى ما يبدو، فإن الأزمة آخذة في التصاعد، خاصة بعد إجراء الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الشهر الماضي، من دون الالتفات إلى عزوف المعارضة وتدنّي نسبة المشاركة، ثم اتخاذ قرارات بتحويل عدد من قادة "جبهة الخلاص" إلى القضاء بتهم تتعلق بتمويل الإرهاب، وتسفير المقاتلين إلى سوريا والعراق والفساد المالي.
على وقع تلك الأزمات، يدخل التونسيون العام الجديد، وكلهم أمل أن تحمل 2023 حظوظاً أفضل، تخلق للمواطنين فرص عمل مستقرة تكفي رواتبها لسدّ احتياجاتهم، وأن تستقر الأمور السياسية بحيث يعود إلى الشارع التونسي هدوؤه المعهود.
وقد شجعت حالة الاضطراب السياسي تلك عدداً من الجهات للإعلان عن مطالبها الفئوية، ما تسبب في تعطيل الحياة اليومية، مثلما هي الحال عند تعطل وسائل النقل في البلاد في ثاني أيام العام الجديد، بعدما أعلنت نقابة النقل في تونس إضرابها عن العمل بسبب مطالبات بتحسين الأجور والمكافآت، ولم تعُد الأمور إلى طبيعتها إلا بعد الاتفاق على صرف المنحة (علاوة مالية) في موعد لا يتجاوز يوم 16 كانون الثاني/ يناير الجاري.
ارتفاع معدلات التضخم.. والرئاسة تسعى للسيطرة
يشتكي التونسيون بمختلف طبقاتهم من انخفاض القيمة الشرائية لعملتهم المحلية (الدينار)، فعلى سبيل المثال، ارتفع سعر الكيلو غرام من اللحم ليصل إلى قرابة الـ 40 ديناراً بعد أن كان 19 أو 20 ديناراً في سنوات سابقة، علماً بأن معدل استهلاك المواطن التونسي للحوم الحمراء يعدّ ضعيفاً للغاية، إذ لا يتجاوز 9 كلغ، مقارنة ببلدان أوروبية يبلغ معدل استهلاك الفرد فيها من اللحوم 100 كلغ، بحسب تصريحات طارق بن جازية، المدير العام لشركة اللحوم الحكومية.
من جانبه، أكد محافظ البنك المركزي التونسي مروان عباسي، منذ نحو أسبوع، أن معدل التضخم في البلاد آخذ في الارتفاع، إذ من المتوقع أن يبلغ 11% في 2023 مقارنة بـ 8.3% في 2022، كما توقع أن يبلغ عجز الحساب الجاري نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023 انخفاضاً من 8.6% في 2022.
في السياق نفسه، توقع وزير الاقتصاد التونسي سمير سعيد، أن يبلغ معدل التضخم في البلاد 10.5% في العام 2023، مع استمرار تصاعد الضغوط التضخمية، وتراجع قيمة العملة المحلية.
وقد أدى ارتفاع معدلات التضخم إلى تراجع معدلات الاستهلاك بشكل عام لدى التونسيين، كما أطلقت المنظمات الاجتماعية التونسية تحذيرات متتالية بسبب تنامي لجوء أرباب الأسر التونسية إلى القروض، إذ ارتفعت نسبة اعتماد الأسر على الاقتراض لتغطية الاحتياجات المتنامية، وذلك في ظل تراجع المدخرات وضعف الأجور، وسط تحذيرات من أن يؤدي هذا الأمر إلى عجز في السداد.
وتقول الحكومة إن الأزمة تعود إلى مخطط تخريبي مقصود، يستهدف تعطيش السوق بهدف إحداث مشكلة نقص في السلع، ومن ثمّ رفع الأسعار، وكان الرئيس قيس سعيد قد أعلن أكثر من مرة على مدار العام الفائت، أن السلطات بصدد شن حملة شرسة ضد محتكري المواد الغذائية، محذراً من أن الدولة ستتخذ الإجراءات القانونية كافة ضد المحتكرين ومهربي السلع، باعتبار هذا السلوك "ضرباً للسلم الاجتماعي والأمن في المجتمع".
ومنذ أيام قليلة، قرر الرئيس التونسي قيس سعيد إقالة وزيرة التجارة وتنمية الصادرات فضيلة رابحي، بعد أن قضت نحو عامٍ في منصبها. وقد أرجع خبراء أسباب الإقالة إلى عجز الوزارة عن إدارة البلاد بالشكل الذي يمنع حدوث شحّ في السلع، إذ شهدت الأسواق التونسية غياب منتجات مثل السكر والقهوة والحليب وزيت الطهي المدعوم، بالإضافة إلى أزمة وقود.
ومن الواضح أن السلطات التونسية ستذهب في اتجاه مزيد من تكييف أوضاعها الاقتصادية حسب أجندة صندوق النقد الدولي، وتراهن تونس على أن القروض الخارجية ستتمكّن من انتشالها من أزمتها، عبر توفير العملة الصعبة للبلاد وتحفيز المستثمرين الأجانب، فيما يرى المعارضون لهذا المسار أن الاقتراض سيؤدي إلى مزيد من المتاعب المالية، وأن أجندة الصندوق ستؤدي إلى مزيد من التدهور لسعر صرف الدينار أمام العملات الأجنبية، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار بسبب خفض الدعم، مثلما هي الحال في عدد من دول العالم الثالث.
المعارضة تهبط إلى الشارع.. والانقسام الشعبي قائم
ترى المعارضة التونسية التي تتزعمها جماعة الإخوان ممثلة في حركة "النهضة" أن الرئيس التونسي قيس سعيد قد أعاد البلاد عقوداً إلى الخلف منذ صيف عام 2021، وأنه يدير الأمور بطريقة استبدادية بعد أن أقال الحكومة وعلّق العمل في البرلمان في خطوة وصفت بـ"الانقلابية". في المقابل، يرى أنصار سعيد أن القرارات الاستثنائية التي تم اتخاذها في تموز/يوليو العام قبل الماضي كانت ضرورية لكبح توغّل حركة "النهضة" في البلاد، ومنعها من الاستحواذ والهيمنة على السلطات كافة، وأن قرار إقالة حكومة هشام المشيشي لم يكن اتباعاً للأهواء، وإنما جاء تلبيةً للاحتجاجات الشعبية الضخمة التي شهدتها المدن الكبرى في تونس، بعد فشل الحكومة في الحدّ من انتشار وباء كورونا أو تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد.
مؤخراً، هبط قادة "جبهة الخلاص الوطني" وأنصارهم إلى الشارع، محاولين التظاهر في بلدة المنيهلة، مسقط رأس الرئيس التونسي قيس سعيّد، ورفع المحتجون شعارات تندّد بسياسات الرئيس التونسي والإجراءات التي اتخذها على مدار العامين الماضيين، لكن المفاجأة كانت هبوط المئات من أنصار سعيد إلى المكان ذاته المُعلن عنه للاحتجاج، ما أدى إلى وقوع اشتباكات بين المعسكرين، انتهت بمنع التظاهرة الاحتجاجية، وتدخل قوات الأمن للفصل بين الطرفين.
وأقرت "جبهة الخلاص الوطني" في بيان بفشل وقفتها الاحتجاجية في منطقة المنيهلة، واتهمت أنصار الرئيس قيس سعيّد باستعمال العنف المادي واللفظي ضد قياداتها وأنصارها لمنع اجتماعهم.
وعلى ما يبدو، فإن المعارضة تواجه أزمة مع الشارع التونسي ذاته، فعلى الرغم من تنامي الشكوى من السلطات القائمة بسبب الصعوبات الاقتصادية، يظل التجاوب مع الاحتجاجات التي تعلن عنها "جبهة الخلاص" أو الهيئات المحسوبة عليها محدوداً للغاية، ويرجع ذلك إلى الأسباب الآتية:
- ملل الشارع التونسي من الاحتجاجات منذ أحداث "الربيع العربي"، وشعور المواطن بعدم جدوى تلك الوسيلة للتغيير.
- مع أن "جبهة الخلاص" تضم قيادات مثل ناجي الشابي وجوهر بن مبارك، وأحزاباً وائتلافات متنوعة، لكن هيمنة "حركة النهضة" على الجبهة تدفع عدداً من المواطنين غير المسيّسين إلى الانصراف عنها، خاصة أن الحركة قد أدارت الأمور في البلاد لفترات عديدة بعد 2011، ولم تصنع فارقاً يُذكر.
- قوة أنصار قيس سعيد في الشارع التونسي، حيث يتمتع الرئيس بدعم عدد من الأحزاب التونسية، انطلاقاً من خصومتها السياسية والأيديولوجية مع التيار الإسلامي الذي تمثله "حركة النهضة."
هل تملك المعارضة حلولاً للأزمة الاقتصادية، أم تتخذها وسيلة للمكايدة؟
بعيداً من المواطنين الذين يمتلكون أيديولوجيا سياسية معينة تدفعهم إلى اختيار أحد المعسكرات المتطاحنة في تونس، فإن الأغلبية تقبع في الظل بعيدة من الجدل الحاصل، معنية بالأساس بتحسين مستوى معيشتها والبحث عن الفرص المتاحة لتحسين دخلها بهدف مواكبة الارتفاع المستمر للأسعار.
على الفيسبوك، تنقل إحدى الشابات التونسيات عن أمّها المسنّة، قولها: "إن ما يعنيها هو أن يجد ابنها الشاب فرصة عمل حقيقية في تونس، حتى يتمكن من مساعدة عائلته وبناء أسرته الخاصة، وأن يظل في البلاد ولا يهاجر إلى جنوب أوروبا عبر البحر المتوسط معرضاً نفسه للخطر مثلما يفعل عدد من الشباب التونسيين.. وأن أي عراك سياسي لا يعنيها ما دام لا يدور حول تلك المسألة".
من جهتها، ترى المعارضة أن سعيها للحفاظ على "المكاسب الديمقراطية" التي نالها الشعب التونسي بعد 2011، والتي انتقص منها قيس سعيد بسياساته، يتضمن الدفاع عن حقوق الشعب الاقتصادية المسلوبة.
لكن، في المقابل، يرى قطاع عريض من الناشطين عبر وسائل التواصل أن "حركة النهضة" التي تتزعم معارضة الرئيس التونسي حالياً، لا تناضل من أجل مضامين اقتصادية أو اجتماعية، بل إنّ غايتها الأساسية هي الوصول إلى السلطة، ومن ثم تطبيق أهدافها الخاصة (مثل: تطبيق الشريعة)، وأنها أدارت البلاد لنحو عقدٍ كامل فأدخلت المجتمع في دوامة من التناحر والانقسام، فضلاً عن اتهامات الفساد المالي والتورط في الصراعات خارج الحدود؛ وهو ما يجعل البلاد ضحية حالة استقطاب حادة، يمكن أن نسميها "استقطاب ما بعد الربيع"، حيث وقعت الجماهير بين خيارات، أحلاها علقم.
هل تتبدّل الأحوال في 2023؟
مع شباط/فبراير2023، ستكون تونس على موعد مع الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية، وربما يعطي نجاح قيس سعيد في إجراء الانتخابات بجولتيْها، ومن ثمّ عودة البرلمان إلى العمل، إشارات بأن الرئيس التونسي قد نجح في مساره إلى النهاية.
ومع حالة الاستقرار السياسي التي يُفترض أن تتبع هذا الأمر، فإنه من المستبعد أن يتوقف نشاط "جبهة الخلاص الوطني"، وقد تستمر جبهة المعارضة في الدعوة إلى التظاهر والاحتجاج، وستعمل على استقطاب المواطنين لمصلحتها، ما سيجعل حالة الاضطراب السياسي قائمة كما هي خلال عام 2023.
بحسب الصحافة المحلية التونسية، فإن ثمة محاولات تجري لتقريب وجهات النظر بين مؤسسة الرئاسة والمعارضة، لكن تلك المحاولات تظل عاجزة عن رأب الصدع بين الفريقين، مع الأخذ في الاعتبار أن ما كان ممكناً في عام 2022، وقبل الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية لم يعد ممكناً اليوم، ما يعقّد الأزمة، ويحدّ من فرص التفاهم والاتفاق.
على الصعيد الاقتصادي، فما من شك أن الأوضاع ستبقى على حالها، وربما نشهد مزيداً من ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى انخفاض قيمة الدينار، في ظل البيانات الرسمية المعلنة حول ارتفاع معدلات التضخم، في الوقت الذي لا تشهد البلاد أي نوع من النمو في الإنتاج المحلي سواء لسد الحاجات المتنامية للسوق التونسي أو للتصدير.
وكان صندوق النقد الدولي قد أعلن في تشرين الأول/أكتوبر الماضي عن التوصل إلى اتفاق مع تونس حول قرض بقيمة 1.9 مليار دولار أميركي لدعم السياسات الاقتصادية في تونس، لكن الصندوق أعلن الشهر الماضي تأجيل اجتماع مجلس إدارته بشأن برنامج قروض تونس، وذلك لمنح السلطات مزيداً من الوقت للانتهاء من برنامج الإصلاحات.
ويعني الصندوق بـ"برامج الإصلاح" مزيداً من التعويم للعملة المحلية مع دعم القطاع الخاص، بالإضافة إلى خفض الدعم وتقليل أعداد الموظفين الحكوميين، وهي إجراءات تتسبب في مشكلات للطبقات محدودة الدخل.
ومن المؤكد أن الملف الاقتصادي يتصدر أجندة اهتمام التونسيين خلال الفترة الراهنة، إذ يطالب الخبراء بتشكيل حكومة طوارئ يكون دورها العمل مع البرلمان الجديد لإيجاد حلول عاجلة للأزمة الاقتصادية خارج الصندوق، على أن تضع في اعتبارها المواطن التونسي متوسط الدخل.